مجلة الرسالة/العدد 390/جيل وجيل
→ أومنُ بالإنسان! | مجلة الرسالة - العدد 390 جيل وجيل [[مؤلف:|]] |
كتب لم أقرأها ← |
بتاريخ: 23 - 12 - 1940 |
3 - جيل وجيل
للأستاذ محمود البشبيشي
. . . إذا كنت في فكرك مع الفن الطبعي، كانت كل آثارك من نثر وشعر، صوراً فنية، لا تكلف فيها ولا تعمل، والحيوية في الأثر الأدبي، ترجع إلى الحيوية الكامنة في نفس الأديب، وكلما كانت فطرية كان الأديب ينتزع من الطبيعة صوراً، ثم يخلع عليها من طبيعته ألواناً ضاحكة واضحة لا تنافر بينها. . . وكان موهوباً في كل ما يكتب ويقول. . . وأنت يا بني في كل ما حدثتني موهوب. . .
كنت قادراً على سرد أفكارك بوضوح. . . والحيوية في الكاتب هي قدرته على عرض أفكاره في غير ما تعقيد ولا ضعف.
وكانت لأفكارك القدرة على التأثير. . . والحيوية في الأفكار هي قدرتها على التغلغل في النفوس. . . وكانت ألفاظك لا تحمل غير معانيها. . . والحيوية في الألفاظ هي وجودها في المكان الذي إذا رفعت منه فقدت حيويتها، لا تستطيع أن تنقص منها أو تزيد عليها. . . لأنها وضعت كما توضع المقادير في سجل الوجود لا نقص فيها ولا زيادة!!
- جميل يا والدي أن جعلت للكاتب حيوية وللأفكار والألفاظ، ولكني أحب أن أعرف شأن هذه الحيوية في الكاتب
- شأنها عظيم يا بني. . . فقد يختلف الكتاب باختلاف الحيوية الفكرية فيهم. . . فهذا كاتب يملك ناصية الفكرة ولا يجد صعوبة في عرضها. . . فتخلص خلوص ماء السيل لا يقف ولا يتعثر، وتسطع كلماته أنواراً هي إشعاع نفسه وطبيعته، فتراه في أسلوبه، وتلمس في أسلوبه حيويته. . . وينسيك سحره كل شيء إلا ما أراد هو أن يخبرك به!!
وهذا كاتب يملك ناصية اللغة ولا يملك ناحية الفكرة والحيوية. . . مهما أوجز أو أطنب وملأ كتابته بكل لفظ شارد خرجت أفكاره عارية، لأن ألفاظها لا تكسوها، أو لأنها لا تلبس ألفاظها تماماً. . . مثل هذا الكاتب يا بني تستطيع أن تسميه صانع ألفاظ. . .
- وكذلك الشعراء يا والدي. . . فإنك لتجد شاعراً تسمو شاعريته، ويدق إحساسه، فينتزع من كل مرائي الطبيعة صوراً مهما صغر أصلها، يرتفع بها إلى القمة في تصوير عجيب، وتدفق غريب، لأن في نفسه طبيعة خلق معنوية شاعرية تكسو كل أفكاره حيوية ساحرة، فيخرج شعره صافياً كمضير الوليد، باسماً كثغر الغيد، راقصاً كالقلب في فرحة اللقاء. . . وهو في إحكام صياغته، وارتباط معانيه بعضها ببعض، وتسلسل أنغامه، كأنه شيء حي تكاد تلمسه وتسمعه، لأن نفس صاحبه وحيويته توزعت فيه نغما وصياغة وتسلسلاً وصفاء
- وأكثر من هذا يا بني، فالحيوية في الشاعر إذا سمت اجتمع لها من الإعجاز ما يفوق حيوية الكاتب، لأنها هنا تقوم بأعمال كثيرة منها الوزن، والقافية الرقيقة، واللفظ الموسيقي، والمعنى الشارد، والروح الشعري. على حين أنها هناك لا يطلب منها سوى صحة العبارة وسلامة المنطق. والحيوية في الشعر لا تكتسب بالاطلاع كما قد تكتسب أحياناً في النثر، لأن الشعراء قوم خلقوا وفي طبيعتهم روح الشعر، بل وفي منطقهم وفكرهم وحديثهم ونظرتهم. فمن قال الشعر من غير طبع وخلق شعري خرج شعره يتعثر في قيود الصنعة وفقد روح الشعر كما فقد تسلسل النثر! أيحسبون أن الشعر حين يكتسب بالاطلاع ويشترى بالحفظ يكون شعراً بمعناه الصحيح! ألا إن الحيوية الشعرية لا تكتسب أبداً ولا تباع. إنما هي تخلق مع الروح
- وكما توجد الحيوية يا والدي في الأديب وأدبه، توجد أيضاً في الرسام وفنه، وكما يختلف الأدباء باختلاف الحيوية فيهم يختلف الرسامون كذلك، فإنك لتقف أمام لوحة زيتية لفنان موهوب، امتزجت روحه بالفن وامتزج بها، وسبح في عوالم لا يصل إليها غير من رقت روحه، وكشفت عن كل خفي من المعاني، وخلع إحساسه الفني على صور الطبيعة ألواناً من نفسه، وخلعت صور الطبيعة على ألوانه ألواناً حية، لو وقفت أمام صورة لمثل هذا الفنان دبَّ في نفسك شعور غريب يملك حواسك، بل يخرج بحواسك عن حقيقتها، فتعتقد أن هذه الشجرة الزيتية شجرة حية تهتز وتتحرك، وهذا النهر الملون تكاد تسمع له خريراً حلواً. ولا غرابة في ذلك، فحيوية الفنان هي سر حيوية لوحته الفنية. وأقسم أني وقفت يوماً أمام لوحة لفنان موهوب، تشع لوحاته إشعاعاً كله حيوية تتحرك وتؤثر وتعجب إلا وانقلب منطق إحساس. فأصبحت أسمع للألوان أصواتاً، وألمس في سكونها حركة. . . واللون الساحر يا والدي إذا وضعه فنان ساحر في موضعه الفني لا يظهر لوناً فقط، بل يظهر لوناً وحقيقة حية!
- والحيوية في الرجال يا بني هي سر الرجولة الكاملة في كل عمل يُعمل، والرجل صاحب الحيوية هو الذي أحكم دقيق أمره وجليله، وامتنعت صفاته السامية كثيرها وقليلها، واحتوى من قوة الروح وهيبتها ما يغمر الجو الذي هو فيه هيبة غير مصطنعة وكانت فيه قوة ذات رحمة إذا قدرت، وذات بطش إذا ظُلمت! وارتفع بكل هذا عن كل مغمز وكل مقالة. . .
- وحيوية الحقيقة يا والدي هي قدرتها على الذهاب بالباطل، وإن الحقيقة لا تسمى حقيقة حتى تستطيع أن تقول للكذب أنت كذب فيقتنع ويخر ساجداً، لأنه يعلم أنها تخاطبه بلسان الواقع والمنطق. . . وقد تسكن الحقيقة أحياناً وتحتجب إذا كان في نفس صاحبها ميل إلى الاستكانة إلى الواقع ولو كان ظلماً! فتظل مقنعة تحاول الظهور كلما تمردت في طبيعتها نزعة الحق، فإن أفلحت في ذلك خرجت تحمل قوتين: قوة الحق، وقوة الإقناع. وكانت مدفوعة بدافعين: دافع استحقاق الوجود، ودافع حب الانتقام من كل معارضة كاذبة. . .
- وهذا ما كان من أمر حقيقتك وحقيقة إخوانك شباب الأدب، فقد ظلت ساكنة مقنَّعة، راضية بالواقع، حتى تحركت طبيعة استحقاق الوجود فيها فقامت ثائرة تناقش، وكان لها من ثورتها قوة تمطر مطرة من الأفكار والحجج، كلها حق وكلها واقع في المقالين السابقين. . . ولكني أرى أن قوتها ترجع إلى سر الحيوية الكامنة في نفسك وفكرك ومنطقك. وإذا وجدت الحيوية في شيء كان وجوده في الحياة وجوداً للحياة نفسها
- أجل يا والدي كان لا بد أن يشعر الشباب بحقه في الحياة الأدبية، وبأن الواجب تشجيع الموهوبين منا، فليس معنى الحياة أنك تحيا وتتحرك وتسكن، وليس معنى الحياة أنك موجود فيها. . . إنما الحياة الحقة أن تشعر هي بك. . . فتكون في الوجود وجوداً، وفي الحياة حياة!!. . . وفرق بين أن تكون خبراً من الأخبار وأن تكون الحياة خبراً من أخبارك!!. . . إن الرجل من امتلأ حيوية، وظهرت حيويته في أقواله صدقاً، وفي أفعاله فلاحاً، وفي نظراته صواباً، وفي منطقه استقامة، وكانت أقواله وأفعاله ونظراته ومنطقه هي حقيقته التي تقول إن صاحبي خلق في الحياة حياة أخرى. . . وجعلها خبراً من أخباره!!
- هذا قول رائع يا بني ولكن كيف يصل الإنسان إلى هذه المرتبة السامية؟ وكيف يستطيع أن يكون نفسه هذا التكوين؟ - إن الأمر على شيء من الخطر والصعوبة يا والدي، فهو يحتاج إلى خلق شخصية خاصة به فلا يكون صورة لغيره، وعليه أن يتعود الصدق، وإن صعب اليوم تعوده، فلا يدخل في كل خبر كلامه، وأن يجعل ألفاظه من نور ضميره، لا من سواد رغباته وأطماعه!! لأن الرغبات إذا اسودت بسطت سلطانها وسوادها على كل عمل يعمله الإنسان. . . وأن يعرف كيف يكيف صور الحياة التكييف الذي يجعلها باسمة. . . وأن يخلق لنفسه مثلاً أعلى. . . وأخيراً أن يبعث في شخصيته وصدقه وضميره وتكييفه للحياة ومثله الأعلى حيوية تكفل له النجاح في كل سبيل ينهجه، وعمل يعمله، وفكر يتأمله. . . فتشعر الحياة بأنه موجود فيها!!
ولكن ليس من السهل يا بني أن تشعر الحياة بك، وإن هذه الصفات التي بينتها لا تجتمع لكل إنسان، ثم إن الوصول إليها من الصعوبة بمكان. . . وليس في مقدور كل فرد أن يكون رجلاً. . . يحسن مغالبة الحياة ومدافعتها ويجعل فكره وشعوره في الناحية التي لا تقيم للخطوب وزناً. . . وليس الرجل من يبكي لأن الطبيعة وهبته عيناً تدمع! ويصرخ لأنها أعطته لساناً يصرخ! وييأس لأنه عجز، ولأن الحر من طبيعته اليأس إذا لم يقدر! إنما الرجل من يخرج من عينه إشعاع كله حياة وابتسام لأن الطبيعة وضعت السحر في البصر، ويضحك لأنها وهبت فمه معنى الضحك، ولا ييأس لأن الحياة لا يأس معها. . . ولِمَ اليأس. . . وليس في الحياة ما تنقطع عنده حيلة من الخطوب؟ فإذا نظر الإنسان في أحوال حياته، وصدق تأمله، ولم يمنعه إحجام، ولم يقيده تردد، ولم يذهب بجلده رهبة، استطاع أن يجعل كل أمر قريب المتناول، هين المحاولة. . .
- أجل يا والدي. . . كم مرت علي أيام، علم الله لم يك فيها ألم ولا يأس. . . ولكنني استقبلتها وفي نفسي ألم ويأس فغمر إحساس نفسي الحزين كل صور الحياة فرأيتها عابسة قاتمة فشكوت منها قائلاً:
ظلام ببطن الأم ليس له سر ... وليل ببطن القبر ليس له سر
لعمري كأن العيش متصل الدجى ... فأوله قبر وأخره قبر!!
إذا كان في موت الحياة مرارة ... فموت شعور المرء حياً هو المر!
وقلت: إيه يا قلب كم تعذبت بالدا ... ء ودارت عليك شر الدوائر
ومشت فوقك الحياة بشوكٍ ... بعد ما بعثرت عليك الأزاهر
وظلال من الفناء ترامتْ ... فوق جبينك يا طريد المقادر!
وإن أسعد أيامي تلك التي نظرت فيها إلى الحياة بعين السرور فرأيتها فناً من السرور وجعلت لها روحي قيثارة تغني:
ليتني بسمة على شفة الور ... د بفجرٍ مُعطَّر الأنداءِ
وطيور تطير في لهفة الشو ... ق إلى دوحها الحبيب النائي
وابتسام يلوح كالأمل الحلوِ ... على ثغر كاعب عذراء
ليتني أرغن يُغرِّدُ بالبشْر ... ويكسو القلوب ثوب الهناء
ليتني لم أكن من الطين كالنا ... س فأشقى بفكرةٍ قتماء
- عرفتَ يا بني كيف تستقبل الحياة، كما عرفت أن الحيوية هي سر وجود كل شيء، وشعور الحياة بأنه حي فيها، وعلمنا أن الكاتب من غير حيوية فيه، يكون صانع ألفاظ، وفهمنا أن الرسام تخرج لوحاته صامتة ميتة إذا حرم الحيوية الفنية. . . وأدركنا أن الرجل من غير حيوية لا يكون رجلاً. . . لأن أعماله تكون وليدة نقص في الخلق والرأي والتأمل. . . وقلنا إن حيوية الشاعر هي كل شيء في شعره. . . أما بعد فهل تتقيد الحيوية بسن؟ وهل هي وليدة اطلاع ومثابرة؟ وهل ظهرت في جيل وانعدمت في جيل. . .؟
- أظنها يا والدي لا تتقيد بطول سراية، وليست وليدة اطلاع. . . كما أنها تكون في كل الأجيال.
فكما تحسها في قول الزهاوي:
هناك نواميس بها أنا عالم ... وأخرى على جهدي بها لست أعلم
وما أنا شيء مثلما أنت فاهمي ... ولا أنت شيء مثلما أنا أفهم
وكما نلمحها في قول الدكتور أبي شادي:
تتلاقى الشفاه وهي ظماء ... ثم تظمى على ارتواء وتنفس
وتتطيل اللقاء وهي سواه ... عن حياة بوجدها تتنفس!
وكما تتلألأ في قول العقاد: ليس بين الجنون والعقل إلا ... خطوتا سائر، فحاذر وأمسك
أول الخطوتين نسيانك النا ... س وأما الأخرى فنسيان نفسك
وتظهر أيضاً في شعر كثير منا. أفلست تحسها في قول صالح جودت:
جريان الغدير يُجري دموعي ... ومسيلُ الدموع يُدمي المحاجر
ملأ الصبّ من جمالك سحراً ... شفق الخد تحت ليل الغدائر
وفي قول مختار الوكيل:
حبذا أنت تطفرين مع الحلم ... يكون من الخيالات نائي
ترسلين الأنفاس وسني كعينيك ... عَلى وجْنَتَيَّ كالأنداءِ
وفي قول القائل:
يودعني القلب لو ودَّعك ... ويرجع لو قدرٌ أرجعكْ
لقد مزق الهجر زهر الغرام ... وضيعني البعدُ إذ ضيعكْ
ولكن تعود لروحي الحياةُ ... إذا عاد للقلب عهدي معكْ
أما بعد: فتلك أحاديث لا يسعني إلا أن أقول إنها كشفت لعيني أبعاداً جديدة، وعلمتني أن الحقيقة لا تختفي وراء الظلام، وأن الأجيال تتأثر بحيوية فكرتها، ويؤثر في حيويتها صدق التأمل فتفسد بفساده وتصلح بصلاحه، وإن الضعف والفناء قد يكونان قوة سامية، ما دام الضعف يولد قوة، والفناء يجدد حياة. . .
ورأيت فيها فلسفة تعارض فلسفة، فآمنت بأن الحيوية في كل شيء هي سر وجوده، وليست الحياة ومعناها في كونك خبراً من أخبارها. . . إنما معنى الحياة أن تكون هي خبراً من أخبارك. . . آمنت يا بني بكل ما تقول. . . لأنك قيدت حقيقتي بكل ما تقول
محمود البشبيشي