الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 39/شهر بالغردقة

مجلة الرسالة/العدد 39/شهر بالغردقة

مجلة الرسالة - العدد 39
شهر بالغردقة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 02 - 04 - 1934

2 - شهر بالغردقة

للأستاذ الدمرداش محمد

مدير إدارة الامتحانات والسجلات بوزارة المعارف

مدير المحطة الدكتور كرسلاند كما أسلفنا وهو عالم بيولوجي له خبرة حسنة بحياة المرجان وأجناسه وتطوراته، وهو في العقد السادس من عمره، طويل القامة، صحيح الجسم، وسيم الوجه، لطيف المعشر، إذا تكلم رفع صوته لثقل في سمعه، وهو جم النشاط تجده في المعمل، ثم تراه في المكتب، ثم تلقاه في الطريق، ثم تعثر عليه في الجراج، ثم تبصره في البحر، ثم تعلم انه في مركز الشركة ينظم وسائل نقل الماء مثلا، وهكذا فهو حركة دائمة تلقاه في كل مكان. ولعل من احسن فضائل الرجل حبه الشديد للمحطة ورضاه التام عن حالة العزلة التي يعيش فيها.

كان الجو طوال المدة التي مكثناها بالغرفة معتدلا، فلم تتعد درجة الحرارة في معظم الأيام درجة الثلاثين على الترمومتر المئوي، مع جفاف شديد في الهواء قل أن تجده على شواطئ البحار، ونسيم البحر دائم الانطلاق، وأحيانا يشتد حتى لينقلب في بعض الليالي إلى ريح عاصفة، تثير الأمواج وتهز البيوت وتقلق المضاجع.

وماء البحر بالقرب من الشاطئ دافئ لا يجد فيه الكثيرون ممن ألفوا الاستحمام في الشواطئ المصرية الشمالية متعة البحر ولذته، كما إن السباحة فيه أحيانا غير مأمونة العاقبة لوجود سمك القرش بكثرة في هذه الجهات.

كان الباعث للرحلة عمل مباحث واسعة النطاق على الطفيليات التي تعيش في اسماك البحر الأحمر، وقد استحضر معه الدكتور عبد الخالق بك جميع ما يلزم لهذا البحث من أجهزة علمية ومواد كيميائية، ملأت صندوقين كبيرين من الخشب، وعقب وصولنا وضع الدكتور الخطط الكفيلة بتحقيق الغاية على الوجه الذي أراده، فكان صيادو المحطة يخرجون كل يوم للصيد في قواربهم الصغيرة (الهورى) ويعودون بها عند بزوغ الشمس موقرة بأنواع السمك المختلفة بين صغير وكبير، وعند وصولها يستقبلها الدكتور ومساعدوه، ويشرعون في الحال في ترتيبها إلى فصول ثم تشق بطونها وتفحص محتوياتها بالمجهر بالعناية والتدقيق وطول الأناة التي يستلزمها البحث العلمي.

وكانت هذه العمليات المتشعبة وما تستلزمه من كتابة أسماء وتدوين مشاهدات، وضبط أسماء الأنواع وقيد الصفات ورسم الأشكال وحفظ العينات والنماذج، تستغرق اليوم كله، وأحيانا شطرا من الليل، ومع تشابه هذا العمل وتكرار اليوم بعد اليوم فأنه لم يزد الدكتور إلا إمعانا في البحث، وتوافرا عليه من غير كلل أو ملل، فيذهب إلى معمله مع بزوغ الشمس. ولا يفارقه إلا إذا خيم الظلام، وكثيراً ما كان يعود إليه بعد العشاء، مستضيئا بنور شمعة أو مصباح ضئيل لأكمال بحث النهار: همة عالية تدلك على أن الشهرة العلمية لا تأتي الناس عفوا، بل هي غالبا نتيجة الكد والمثابرة والتدقيق والاستقصاء.

3 - اسماك البحر الأحمر

اشتهر البحر الأحمر منذ القديم بالغنى في أنواع للسمك وأجناسه ومقاديره، فهناك في بطن الماء ثروة هائلة لمن يسعده الحظ فيكشف عن وسيلة للتغلب على شعب المرجان التي تحول حتى الآن دون استغلال هذا المورد الخصب استغلالا واسع النطاق.

أما عن الأنواع والأجناس فتبارك الله مبدع الكائنات: سمك صغير رقيق بطول العقدة، ووحش بحري هائل، بطول أربعة امتار، وسمك عريض الفك جاحظ العينين مبطوط الرأس، وآخر استطال فمه كأنه الحربة غارت عيناه وبرزت وجنتاه، وسمك ناصع البياض مع تناسب في الوجه ورشاقة في القد حتى كأنه شركسية من أهل الشمال، وآخر اسود الجلد غليظ الوجه ضائع الشكل حتى كأنه زنجية من خط الاستواء، وسمك مقوس الظهر مدكوك الرأس حتى كأنه القزم، وسمك ممشوق القامة طويل الذيل ممطوط الرأس حتى كأنه العملاق، وسمك رفيع طويل كأنه الثعبان وآخر ممدود الرأس مجنح الزعانف كأنه الطير، وسمك كالصندوق شكلا وهيئة، وسمك على شكل الفرس القافز، وآخر على شكل قطعة من الصخر في اللون وعدم الانتظام، وسمك احمر ذهبي واصفر واخضر وازرق واسمر، وسمك مخطط بخطوط سوداء وبيضاء أو سوداء وصفراء، أو حمراء وزرقاء، أو جمعت هذه الألوان بالطول أو بالعرض، وسمك هادئ وديع، وآخر هائج عنيف، وسمك سام يلسع بإبرة مثبتة في جسمه أو على ظهره أو في طرف ذنبه كأنه العقرب، وبعض هذه الأنواع مسلح بزوج من هذه الإبر واحدة على كل جانب، وسمك يغطي جسمه زغب صغير سام من مادة صلبة كأنه الشوك وهكذا، وقد عددنا من هذه الأشكال مائة وخمسين نوعا وهو قليل من كثير يقطن الأبعاد والأعماق، ولهذه الأنواع أسماء دارجة يعرفها الصيادون، وقلما يخطئون في التمييز بينها مع وجود تشابه كبير بين بعض هذه الأنواع. وهاك بعض الأسماك التي تعيش في منطقة الغردقة بالقرب من الشاطئ نذكرها على سبيل المثال لا لغرابتها فحسب بل لدلالتها: الحجم والجلخ والبشراكة والمعجبية وشك الزور والقضبة والدراك والبومة والسيبيا.

ومن العجيب أن اكثر هذه الأنواع تفقد ألوانها البراقة الجميلة بعد إخراجها من الماء بقليل وتصطبغ بلون اسمر قاتم - وسمك القرش اكبر حيوانات المنطقة واشدها بأسا، وهو كبير الرأس عظيم الجسم واسع الفم حاد الأسنان تهلع من رؤيته الأسماك ويخافه الصيادون، ومنه نوع يهاجم الإنسان ويحاول اختطافه، وربما ينهش منه ساقا أو ذراعا - ومن الغريب ان سمكة صغيرة بطول القدم تعيش طفيلية عليه فيحملها على رأسه لاصقة بجلده تتغذى من فضلات طعامه وهو بذلك راض مسرور.

(4) في حقول المرجان

يفاخر الدكتور كرسلاند بحديقته المرجانية ويشيد بذكرها ويشوقك لزيارتها فكنت أصغي لوصفه الشعري وأنا بين الشك واليقين إلى أن رأيت حديقته بل بساتينه بعيني فقلت في نفسي تالله لقد قصر الرجل، فحديقته اجمل وأبدع مما وصف:

ركبنا (لنش) المحطة صباح أحد الأيام فخرج بنا إلى عرض البحر على مسافة أربعة كيلومترا، ثم وقف بنا أمام جزر متتابعة متلاصقة عنها فجوات كأنها بحيرات، ويغطي سطح الجزر ماء البحر على عمق قليل، فنزلنا من اللنش وأخذنا نخطو فوقها ونحن غائصون في الماء إلى ما فوق الركب، وبعد سير شاق فوق العشب لم يتجاوز بضع دقائق وصلنا إلى شاطئ غاطس تتكسر فوق حوافيه أمواج البحر بشكل يهيج يسر الخاطر، وبعد خطوات أخرى أشرفناعلى جرف مواجه للأمواج يغوص في الماء بأنحدار، ولم تكد تقع عيوننا على سطح المنحدر حتى أرسلنا صيحات الدهش والتعجب: منظر ملك علينا المشاعر، فقاع البحر قد كسته لمسافة كبيرة خمائل كثيفة ذات الوان زاهية جميلة بين حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء وسمراء، وقد امتدت على الجوانب وفوق المرتفعات وبين الصدوع على أشكال متباينة متآلفة تخالها خمائل الأزهار في بستان الأمير وقت الربيع.

يتبع

الدمرداش محمد