مجلة الرسالة/العدد 39/رسالة الربيع
→ كاظم باشا الحسيني | مجلة الرسالة - العدد 39 رسالة الربيع [[مؤلف:|]] |
الرجوع إلى الباطل خير من التمادي في الحق. . .! ← |
بتاريخ: 02 - 04 - 1934 |
للأستاذ عبد الحميد العبادي
لو تمثل هذا الربيع لكان إنسانا، ولكان شابا رائع الشباب، مشرق الطلعة، حلو الشمائل، معطاء اليدين، يملأ العيون والقلوب مهابة وجمالا. أفلا يرى القارئ تصديق هذا التصوير فيما يأخذه الحس والشعور من الطبيعة في أيامنا هذه من اعتدال جو وانبعاث شمس، وإيراق شجر، وتفتح زهر، وترنم طير، وتتابع خير؟ أفلا يرى أن كل مظاهر الطبيعة قد غدت ولسان حالها يصيح بمن يمر: ألا تراني فتفهم حكمة الخلق العجيب؟ ولكن وا رحمتاه للناس! انهم عن هذه الدعوة الكريمة في شغل شاغل، (وكآي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) لقد شغلوا بالعرض عن الجوهر، وبالسفساف الحقير عن الجميل الجليل. انهم يوشكون أن تموت قلوبهم ويغول نفوسهم الصفق بالأسواق.
رحم الله أسلافنا الأقدمين وآباء الأولين. لقد كانوا اقرب منا إلى الطبيعة، وأبر بهذا الربيع واحسن استقبالاً له. فالمصريون القدماء على شدة تفكيرهم في الحياة الآخرة، لم يهملوا الأخذ بأسباب التمتع في الحياة الدنيا. كانوا كلفين بالطبيعة، وحياة الطبيعة. وهل شئ أبهج للخاطر واسر للقلب من الطبيعة وحياة الطبيعة؟ لقد فتنوا بنهرهم المتدفق الوقور فقدسوه وعبدوه، وكلفوابالزهر حتى لقد اتخذوا منه رمزاً وشعاراً لملكهم السياسي، فكانت الزنبقة رمز مملكتهم الجنوبية، وزهرة النيلوفر رمز مملكتهم الشمالية. وصاغوا تيجان الأعمدة التي تنهض بعمائرهم على مثال برعمة السدر، والنيلوفر، ورؤوس النخيل. وكانوا يحتفلون لمقدم الربيع احتفالاً بقيت لنا منه آثار نلحظها في عيدنا الطبيعي الوحيد المعروف (بشم النسيم).
وكان الفرس القدماء من اشد خلق الله حباً للزهر والماء والجو الطلق، لذلك جعلوا (النيروز) الذي هو أول الربيع اعظم أعيادهم، واسبغوا عليه هالة من التقديس والإجلال، فزعموا أن الله فرغ فيه من خلق الخلائق، وانه يقسم فيه السعادة لأهل الارض، ولذلك سموه (يوم الرجاء)، ولفرط شغفهم بالربيع كانوا إذا هجم الشتاء ألح على بلادهم المطر والبرد والثلج إعتاضوا عن مناظر الربيع الطبيعية بصور لها قد وشيت بها بسطهم وسجادهم الشهيرة بحيث إذا جلسوا عليها للطرب والشراب خيل إليهم انهم في روضة معطرة من رياض الربيع. وان من يطالع الأدب الفارسي جملة يجده عبقا بعبير الورد والزنبق والبنفسج والياسمين وغيرها من فنون الرياحين، أما العرب فربيع بلادهم هو حياتها على الحقيقة دون المجاز، فإذا اقبل عرفوه بتألق البرق وجلجلة الرعد، بالغيوث الهاطلة والأودية السائلة، فإذا كان ذلك اخضرت المراعي واعشوشبت الوهاد والنجاد، ونعم بآثار ذلك كله الإنسان والحيوان. وكان ملوك بني أمية جريا على مقتضى غريزتهم البدوية إذا اقبل الربيع برزوا إلى بادية الشام فقضوا شهوره في قصور اتخذوها لذلك خاصة. ولا تزال آثار تلك القصور ماثلة إلى اليوم. فلما اختلط العرب بالفرس اخذوا عنهم عادة الاحتفال بالنيروز الفارسي. فكان عمال بني أمية على المشرق إذا اقبل النيروز جلسوا للناس جلوسا رسميا عاما يتقبلون فيه تهانئهم به وهداياهم. ولما قامت الدولة العباسية اصبح النيروز من أعياد الدولة الرسمية، وصار له شأن أي شان، بل لقد اشتقوا منه عيدا رسميا خاصا بالخلفاء وأسموه (نيروز الخليفة) يقول البيروني (انه كان يقع فيه ببغداد من رش الماء وحثو التراب والملاعب ما هو مشهور) وهذا من قبيل النوروز القبطي، الذي يتحدث عنه المقريزي في خططه، ومن قبيل ما يفعل في أعياد المرافع المشهورة في بعض بلدان أوربا لعهدنا هذا والمعروفة (بالكرنفال).
وقد افتن شعراء العرب في وصف الربيع ولنيروز وآتوا في ذلك بالبديع المطرب من الشعر , ولا يزال ما قاله الطائيان في هذا الصدد هو المقدم والمحتذى سواء اكان ذلك من الناحية الفلسفية التي ينتحيها أبو تمام أم من الناحية الفنية التي ينتحيها البحتري.
قال أبو تمام يصف الربيع من قصيدة يمدح بها الخليفة المعتصم بالله العباسي: -
أربيعنا في تسع عشر حجة ... حقا لهنك للربيع الأزهر
ما كانت الأيام تسلب بهجة ... لو أن حسن الروض كان يعمر
أو ما ترى الأشياء إن هي غيرت ... سمجت وحسن الأرض حين تغير
يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربى فكأنما هو مقمر
دنيا معاش للورى حتى إذا ... حل الربيع فإنما هي منظر أضحت تصوغ بطونها لظهورها ... نورا تكاد له القلوب تنور
من كل زاهرة ترقرق بالندى ... فكأنها عين إليك تحدر
تبدو ويحجبها الجميم كأنها ... عذراء تبدو تارة وتخفر
حتى غدت وهداتها ونجادها ... فئتين في حلل الربيع تبختر
مصفرة محمرة فكأنها ... عصب تيمن في الوغى وتمضر
وقال البحتري مخاطبا الوزير الفتح بن خاقان:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غلس الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها برد الندى فكأنه ... ينث حديثا كان قبل مكتما
ومن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيا منمنما
أحل فأبدى للعيون بشاشة ... وكان قذى للعين إذ كان محرما
ورق نسيم الريح حتى حسبته ... يجييء بأنفاس الأحبة نعما
وبعد: فأن لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة رسالة بليغة تؤديها إلى النفوس الشاعرة والفطر السليمة. فليت شعري أية رسالة يحملها الربيع إلى ذوي القلوب الواعية منا؟ قابل أيها القارئ بين الشتاء والربيع، بين رقدة الطبيعة ونهضتها، وان شئت، فبين موتها ونشورها، فستجد هذه الدورة على قصر أمدها قد تضمنت حكمة الحياة كلها. وإلى هذه الحقيقة يشير الربيع في رسالته إلى الناس!
(أن الطبيعة أيها الناس هي الأول والآخر، والأصل والمال من طيباتها تبنون ابدانكم، ومن جمال منظرها وروعة سحرها نمت عواطفكم وألهمتكم فنونكم وآدابكم. ومن تصرف سنتها واختلاف مقاديرها يسرا وعسرا، أملا وباساً وعافية وبأسا ألهمتهم عقائدكم ومللكم. ومن دقة هذه السنن واطرادها استبنتم أصول شرائعكم ونظمكم، ومن الصبر لأحكامها تكونت أخلاقكم فان تكن أجسامكم قد ضويت، وعواطفكم قد خبت، وعقائدكم قد وهت، وشرائعكم قد قست، وأخلاقكم قد رثت، فما ذلكم إلا لأنكم عققتم أمكم الحنون، وجفوتم ظئركم الرءوم. فإلى الطبيعة ايها الناس، إلى الطبيعة فهي وحدها الكفيلة بإزاحة عللكم، وجبر مصابكم. وهي القادرة على أن تنشئكم نشأة أخرى، وتبعثكم خلقاُ جديداً.