مجلة الرسالة/العدد 39/المصري الغريب في مصر!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 39 المصري الغريب في مصر! [[مؤلف:|]] |
كاظم باشا الحسيني ← |
بتاريخ: 02 - 04 - 1934 |
للدكتور طه حسين
هو مختار رحمه الله. فقد كان في حياته مرآة صادقة كل الصدق لنفس مصر الخالدة التي لا تحد ولا تحصر. كنت تجد في هذه المرآة صوراً صادقة لنفس مصر القديمة، ولنفس مصر الإسلامية، ولنفس مصر هذه التي يكونها هذا الجيل، ولآمال مصر ومثلها العليا بعد أن يتقدم الزمان ويتقدم، وترث أجيال أخرى ارض الوطن عن هذه الأجيال التي تضطرب فيها الان.
كان مختار هذه المرآة الصافية المجلوة التي تنعكس فيها حياة مصر على اختلاف أزمنتها وما يحيط بها من الظروف، فكان من هذه الناحية اشد أبناء مصر اتصالا بها وقربا منها وتمثيلاً لها. ولكنه على ذلك كان غريباً في مصر أثناء هذه الأسابيع التي ختمت مساء الثلاثاء حين ختمت حياة مختار. اقبل من أوربا فلم تكد الصحف تتحدث عن إقباله، ولم يكد يخف للقائه من أصدقائه إلا نفر قليلون. وأقام في مصر مريضاً مكدوداً يلح عليه الألم والسقم فلا يكاد يذكره من المصريين الذين كانوا يعجبون به ويحشدون له ويهتفون باسمه ويعتزون بمجده ويرفعون رؤوسهم بآثاره إلا نفر يحصون، ولعلك إن أحصيتهم لم تبلغ بهم العشرين، أخشى ألا تبلغ بهم اقل من هذا العدد اليسير , ثم اشتد عليه المرض والجأه إلى المستشفى فلم تكد الصحف تتحدث عن ذلك إلا حديثاً يسيراً جداً. وخف أصدقاء مختار إلى المستشفى يسألون عن صديقهم ويريدون لقاءه فحال المرض بينهم وبين اللقاء. أعلن إليهم أن الحجاب قد ألقى بينهم وبين هذا الصديق وان كانت الحياة ما تزال تتردد في جسمه النحيل. ثم اصبح الناس يوم الأربعاء وإذا نعي مختار يملأ القاهرة ويقع من نفوس أهلها موقع الألم اللاذع والحزن الممض. ثم أمسى الناس يوم الأربعاء، وإذا جماعة من خاصة المصريين وقليل من الأجانب عند محطة القاهرة يستقبلون جثمان مختار، ثم يسعون معه إلى المسجد. ثم يفترقون ويمضي مختار إلى مستقره الأخير، ومن حوله قل في إحصائهم ما شئت فلن تستطع ان تبلغ بهم نصف المئة. ثم يصل مختار إلى قبره، ثم يهبط مختار إلى هذا القبر، وهؤلاء الأصدقاء قائمون قد ملكهم وجوم عميق لا يقطعه إلا هذا الصوت الرفيق المزعج، صوت المساحي والمعاول وهي تسوي القبر عليه، وتقطع ما بقى بينه وبين الحياة من اسباب، والا هذا النداء الذي يتردد بين حين وحين عنيفاً يتكلف الرفق، طالباً الماء الذي يحتاج إليه في تسوية هذا القبر، وإقامة هذا السد بين صاحبه وبين الحياة، وإلا هذا اللغط الذي يؤذي الأسماع، وكان من حقه أن يكون موسيقى عذبة رقيقة تأسر القلوب الجريحة وتهدئ النفوس الثائرة، وترد الجازعين اليائسين إلى ما ينبغي لهم من الإذعان لقضاء الله والرضى بحكم الله. وهو لغط هؤلاء القراء الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب، وقد كره الله أن يلوي الناس ألسنتهم بالكتاب، لانه كتاب مبين مستقيم لاعوج فيه ولا التواء. وانما فيه هداية للعقول وشفاء لما في الصدور. ثم ينقطع كل صوت، ويتفرق هؤلاء الأصدقاء يحملون في قلوبهم ما يحملون من حب ووجد، ومن أسى ولوعة، يحملون هذا كله لينغمسوا به في هذه الحياة التي تنتظرهم على خطوات قليلة قصيرة من مستقر الموتى.
وكذلك انتهت قصة مختار مع انتهاء النهار يوم الأربعاء، وكذلك أسدل ستار الموت على حياة مختار في الوقت الذي أسدل فيه ظلام الليل على حياة الأحياء. وما اكثر ما تنتهي قصص الناس في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة. وما اكثر ما يسدل ستار الموت حين تشرق الشمس أو حين تغيب، فلا نحس ذلك ولا نلتفت إليه، لان الذين تختطفهم المنية أو تحصدهم في جميع الأوقات قوم مجهولون لم تميزهم الظروف أو لم تميزهم أنفسهم، فهم يمضون دون أن يحسهم أحد كما يقبلون دون أن يحسهم أحد. ولكن مختار كان غريباً حقاً في آخر حياته، وكان غريباً حقاً في أول موته، وأي عجب في هذا؟ لقد آثر حياة الغربة منذ أعوام، فكان لا يزور وطنه إلا لماما، ولقد تعود الجفوة من مواطنيه. واكبر الظن أن ذلك كان يؤذيه، ولكنه كان اكرم على نفسه من أن يشكو أو يظهر الألم. ولقد سمعنا انه احتمل المرض شجاعا، واستقبل المرض شجاعا، لم يدركه جزع ولا فرق. ولو انه رأى بعد ان مات كيف ودعه مواطنوه لما اثر فيه ذلك اكثر مما أثرت فيه جفوة مواطنيه قبل أن يموت. ولعله كان يألم لذلك في قرارة قلبه الممتاز، ثم لا يظهر من ألمه شيئاً كما كان يفعل أثناء الحياة، إنما نحن الذين ينبغي لهم أن يألموا اشد الألم، وان يحزنوا اشد الحزن، وأن يستشعروا شيئاً غير قليل من اللوعة والحسرة وخيبة الأمل حين ترى هذا العقوق، وحين نقدر أثره في نفس صديقنا الراحل العزيز. فقد كنا ومازلنا نتحدث بأن مختاراً هو الذي رد إلى مصر بعض حظها من المجد الفني، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد مكن مصر من أن تعرب عن نفسها وعما تجد من الألم والأمل بلسان جديد لم تكن تستطيع أن تصطنعه من قبل، وهو لسان الفن. وكنا ومازلنا نتحدث بأن مختاراً قد انطق مصر بهذه اللغة التي يفهمها الناس جميعاً وهي لغة الجمال، لغة الفن، بعد أن كانت لا تنطق إلا بهذه اللغة التي لا يفهما إلا جيل بعينه من الناس، وهي لغة الكلام. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد جدد في مصر سنة كانت قد رست ومضت عليها قرون وقرون. وهي سنة الفن، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختار قد لفت الأوربيين إلى مصر، أقام لهم الدليل على أن مطالبتها بالاستقلال لم تكن عبثاً ولا لغواً، وإنما كانت نتيجة لحياة جديدة، ونشاط جديد، وقد لفت مختار الأوربيين إلى ذلك في اشد الأوقات ملاءمة، في وقت الثورة السياسية. وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً على حداثة عهده بالفن كان اسبق المصريين إلى إعجاب أوربا، ألم يعرض آثاره في باريس؟ ألم تتحدث صحف الفن عن مختار قبل أن تتحدث صحف الأدب عن كتابنا وشعرائنا؟ ألم تستقر أثمار مختار في متاحف باريس قبل أن تستقر آثار كتابنا وشعرائنا في مكاتبها؟ كنا نتحدث بهذا كله، وكنا وما زلنا نتحدث بأن مختاراً قد ردإلى المصريين شيئاً غير قليل من الثقة بأنفسهم، والأمل في مستقبلهم والاطمئنان إلى قدرتهم على الحياة الممتازة الراقية. كنا وما زلنا نتحدث بهذا وبأكثر من هذا، ومع ذلك فقد قضى مختار آخر حياته شريداً أو كالشريد. وقد قضى مختار آخر أيامه في مصر منسياً أو كالمنسي وقد عبرت جنازة مختار مدينة القاهرة يطيف بها جماعة من الخاصة ليس غير!! نستغفر الله بل مرت جنازة مختار أمام التمثال الذي صنعه بيديه كما تمر أمام أي شئ لم يظهر على التمثال ما يدل على الحزن أو ما يدل على الاكتئاب، أو ما يدل على الشكر أو عرفان الجميل. وعبرت جنازة مختار مدينة القاهرة تجهلها الحكومة المصرية أو تكاد تجهلها، لم يمش في جنازة مختار ولم يقم على قبر مختار وزير العلوم والفنون. ولم يلق أحد على قبر مختار كلمة الوداع، وإنما كان الصمت يشيعه، وكان الصمت يواريه التراب. وكان الصمت يودعه حينما تفرق من حوله الأصدقاء. ولو قد مات مختار في بلد غير مصر لكان موته شأن آخر. ولو قد كان مختار فرنسيا أو إنكليزيا أو إيطاليا وأدى لبلده مثل ما أدى لمصر لقامت الدولة له بشيء آخر غير الإهمال والإعراض. إذن لكانت جنازته رسمية تنفق عليها الدولة، ويمشي فيها رجال الدولة، ويخطب فيها كبار الدولة، ولكن مختاراً نشأ في مصر، وعمل في مصر، ومات في مصر فحسبه ما أتيح له يوم الأربعاء من توديع الذين كانوا من أصدقائه وأحبائه ليس غير.
ولا ننس ان رئيس الوزراء قد تفضل فندب من مثله في جنازة مختار. وهذا، وبالسخرية الأقدار، كثير جداً ينبغي أن يشكر لرئيس الوزراء. فقد ينبغي أن لا ننسى أن مختارا لم يكن من أنصار السياسة الرسمية، ولا من الذين يستمتعون بعطفها وحبها ورضاها، فكثير أن يتفضل رئيس الوزراء فيندب من يمثله في جنازة هذا المعارض وان كان صاحب فن، وأن كان قد انفق حياته كلها لمصر لا لحزب من الأحزاب ولا لجماعة من الجماعات. لا اكذب المصريين أن لنا في مثل هذه الأحداث والخطوب مواقف لا تشرفنا ولا تلائم ما نحب لأنفسنا من الكرامة، ولا تشجع العاملين على أن يعملوا. ومن الذي نسى موت الشاعرين العظيمين حافظ وشوقي وموقف السياسة منهما. ذهب المعارضون بحافظ، واستأثر المؤيدون بشوقي، ثم ذهب المعارضون بمختار منذ أيام، وضحى بالأدب والفن في سبيل الأهواء والشهوات، وظهر المصريون في مظهر العقوق الذي لا يليق بالشعب الكريم. لا اكذب المصريين انهم في حاجة إلى أن يرفعوا أنفسهم أمام أنفسهم وأمام غيرهم عن هذه المنزلة المهينة، انهم في حاجة إلى أن يرفعوا الأدب والعلم والفن عن أعراض الحياة، وأغراض الخصومة السياسية، لان في الحياة أشياء أرقى واطهر واكرم من السياسة وخصوماتها، والأدب والعلم والفن أول هذه الأشياء.
لقد هم أصحاب حافظ أن يخلد واذكر حافظ فلم يوفقوا. وهذا حافظ يخلد ذكر نفسه - ولقد هم المستاثرون بشوقي من رجال السياسة الرسمية أن يخلدوا ذكر شوقي فلم يفلحوا. وهذا شوقي يخلد ذكر نفسه. فهل بين المصريين من يهمون بحماية آثار مختار من الضياع وبتخليد ذكر مختار، وهل هم إن فعلوا موفقون إلى ما يريدون؟ أم هل تدخل السياسة في أمر مختار فتفسده كما أفسدت أمر حافظ وشوقي؟ سؤال مؤلم، ما كان ينبغي أن يلقى، ولكن انظر جوابه لن يكون طويلا، ولعله لا يضيف ألما إلى ألم، وحزنا إلى حزن.
طه حسين
-