مجلة الرسالة/العدد 39/العلوم
→ البؤساء | مجلة الرسالة - العدد 39 العلوم [[مؤلف:|]] |
القصَص ← |
بتاريخ: 02 - 04 - 1934 |
ماء جديد
للدكتور أحمد زكي
الماء من اقدم أشياء هذا الوجود، فهو لاشك سبق الإنسان وسبق الحيوان، ولاشك سبق النبات، أليس من الماء كل شئ حي؟ هكذا قالت الكتب السماوية، وعليها آمنت الكتب الفلسفية فالعلمية. وقد أدرك خطر الماء الحكماء في العصور الخالية، فعدوه رابع أربعة من جواهر حسبوا الكون بما فيه تكون منها، ومنها فحسب، بنسب تكبر وتصغر فيتألف منها الجسم الذي ترى بخواصه التي تعرف. وجرت على هذه العقيدة قرون تلتها قرون. حتى جاءت الكيمياء الحديثة بعناصرها ومركباتها، وجاءت بجزيئاتها وذراتها، فأفسدت على الحكماء حكمتهم، وطاحت بالأصول الأربعة التي فرضوها على الوجود، وأثبتت إن الماء مركب من عنصرين الأيدروجين والأوكسجين، بنسبة وزنية ثابتة. نعم قد يتغير الماء لونا وطعما وكثافة، فقد يتملح وقد يتطين وقد يتغوز، فالغازات تذوب بالماء كما تذوب الأملاح، ولكن إيت بالماء من الأرض أو من السماء، على أي حال تشاء، ثم رشحه من أوساخه، وقطره ليخلص من املاحه، واتبع لنقائه أموراً أخرى عديدة تجدها في مفصلات الكيمياء، ثم حلله تجد نسبة الأيدروجين الذي فيه إلى الأوكسجين ثابتة لا تتغير.
هذه بديهة من بدائه الكيمياء، فرغ منها العلماء من زمن، أو حسبوا انهم فرغوا منها. بديهة تسئمك قراءتها بلا شك، كما تسئمني أنا كتابتها، لولا إن البدائه كثيراً ما تنتابها الشكوك فتعكر عليها الهادئ في هذا الوجود المضطرب، حتى بدائه العلم.
إن الأيدروجين أخف الغازات المعروفة، وذرته أخف الذرات. ومن اجل هذا اتخذ وزن ذرته وحدة تقاس بها ذرات العناصر جميعاً. ولكن هذه العناصر إن اتحد بعضها بالأيدروجين فأمكن إيجاد ذرته، فأن الكثير منها لا يتحد به وإنما يتحد بالأوكسجين، فيمكن عندئذ احتساب وزن ذرته منسوبة إلى ذرة الاوكسجين، ولكن المراد نسبتها إلى الأيدروجين حتى يكون اصل النسب واحد، فكان لابد من احتساب كم من الأيدروجين يتحد بكم من الأوكسجين واحتساب ذلك بدقة كبيرة لان هذه النسبة سيتوقف عليها ضبط نسب أخرى عديدة.
اتجه الكيمياويون إلى احتساب هذه النسبة الخطيرة، وهي النسبة التي يتكون بها الماء الذي تشربه واشربه، وفي كل عقد وفي كل عام يخرج الباحثون بنسب متقاربة كل التقارب، إلا أن بينها فروقا صغيرة لا تفتأ تظهر عند الحساب! خطأ في الميزان يا صديقي، وفرق لابد منه مادامت يد الإنسان العاجزة تقوم بهذه التقارير، وأجهزته الناقصة هي كل حيلته في الوصول إلى بغيته. حسنوا الأجهزة، ودققوا في صنع الموازين، واتخذوا كل حيطة إنسانية لمنع الخطأ أن يتسرب، ولكن هيهات ان تتفق الأرقام الناتجة.
حتى كان يوم قريب قدروا فيه هذه النسبة من جديد، فتبين لهم من الأسباب ما حملهم على الاعتقاد ان الخطأ ليس في التقدير، ولا عجز في الإنسان ولا في نقص أجهزته، ولكن في الفرض الأساسي الأول: إن ذرة الأيدروجين ثابتة الوزن، وان ذرة الأوكسجين ثابتة الوزن.
عرفت الكيمياء في السنوات الحديثة، إن العنصر الواحد قد تتشكل ذرته من تشكل واحد. فالزئبق والكلور والبروم والكربتون والزينون وكثير غيرها لكل منها شكلان فأكثر تتفارق في الوزن تفارقا صغيرا وتتقارب في الخواص تقاربا كبيرا. وإذن فلم لا يتشكل الأيدروجين أو الأوكسجين أو كلاهما مثل هذا التشكل؟ لم لا يكون للأيدروجين ذرتان، ذرة خفيفة وذرة ثقيلة، وإذن لم لا يكون للماء جزيئان، جزئ خفيف وآخر ثقيل، اعني لم لا يكون الماء مائين، ماء ثقيل يليق بالحلاقيم الغليظة للجنس الخشن من الرجال، وماء خفيف يتفق والجنس اللطيف من الآلي يدميهن الحرير ويؤذيهن النسيم.
العلم يتخيل فيخال، وإذا بالخيال حقيقة. وتلك الحقيقة أتثبتها الأستاذ لويس وذلك بأن أمر التيار الكهربائي في الماء يحلله على ما هو معروف إلى عنصريه، فأثبت إن الأيدروجين الخفيف هو الذي يصعد من الماء أولا، وانه عندما يتحلل اكثر الماء تتبقى منه بقية صغيرة هي الماء الثقيل الذي يحتوي الأيدروجين الأثقل. أعيدت هذه التجربة بصورة أكبر فنتج عنها ماء ثقيل أكثر تركزاً. وخالوا أن الذي يأتي به التحليل بالكهرباء يأتي به التقطير بالنار، فقطروا الماء فحصلوا على نفس النتيجة. كم من ألوف حللو الماء، وكم من ألوف قطروه في الأجيال المنصرمة، وفاتهم جميعا كنه ما يصنعون.
ومن الغريب أن هذا الماء الجديد سم. نعم سم برغم ان الماء اصل الحياة. وضعوا فيه فراخ الضفدع فماتت في ساعة، ووضعوا فيه سمكا فمت في ساعتين، ووضعوا فيه دودا فمات في ثلاث. ولكن بالطبع كان هذا (الماء الثقيل) مركزا تركيزا كبيرا، فقد كان تركيزه 92 في المائة. ولما أضافوا إليه (الماء الخفيف) حتى بلغ تركيزه دون الثلاثين في المائة عاشت فيه كل هذه الأحياء (والماء الكثيف) يوجد في الماء الشرب العادي بقدر جزء واحد في كل 25 ألف جزء أو نحو ذلك. فهو لا اثر له في الإنسان. بل على النقيض قد يكون فيه نفع له. أليس كثير من العقاقير كالزرنيخ والأستركنين سما زعافا. ومع هذا يعطى للمرضى بمقادير صغيرة فيكون فيه الشفاء من أدواء؟ على أن اثر هذا الماء الجديد في الأحياء الراقية ومنها الإنسان لم يمتحن بعد، فالحصول على المقدار الكافي منه لا يزال عملا عسيرا.
ويختلف (الماء الثقيل) في خواصه الطبيعية عن الماء العادي، فهو لا يتجمد على درجة الصفر المئوي بل في نحو درجة 4، وهو لا يغلي على المائة بل على نحو درجة 101. فإذا ذكرنا أن درجة الصفر ودرجة المائة إن هي إلا درجات اصطلاحية، تعريفها أنها درجة تجمد الماء ودرجة غليانه على التوالي، حق لنا أن تبتسم ابتسامة خفيفة لما حاق بعلم الحرارة من إخلال بأساسات مقاساته، وقد كان عدها الفيزيائيون ثابتة تزعزع الجبال وهي لا تتزعزع.
ونال الفيزيائي غير هذا إخلال جديد في أساس أوزانه. فالجرام ما هو؟ أليس هو وزن سنتيمتر مكعب من الماء ولكن أي ماء، ثقيلة أم خفيفة؟ على أن هذه إختلالات لا تؤثر في حوائج العلم العادية، ومطالب الحياة الجارية، فعين الإنسان قاصرة، ترى الكون كتلا كبيرة ولو ظنتها جسيمات صغيرة، ويده تحس الكون كذلك كتلاً، وانفه يشم الكون أجمالا لا تفصيلا، وأذنه تسمع أنغامه وتظن أنها تستطيع إدراكها نغمة نغمة، ولو إن كل نغمة منها أنغام تحتوي انغاماً، وهو مستمتع في كل هذا بقصور حواسه، قانع برؤية الوجود غبشا وضبابا، مادام لا يحس انه غبش وضباب، فلننس ما كان من تحقيق العلماء وتدقيقهم، ولنشربه زلالا سائغا خفيفه وثقيله، وعلى الدنيا وعلى العلماء العفاء.
احمد زكي