مجلة الرسالة/العدد 39/التطور وروح الدين
→ مضى عام | مجلة الرسالة - العدد 39 التطور وروح الدين [[مؤلف:|]] |
الإسماعيلية الملقبون بالحشاشين ← |
بتاريخ: 02 - 04 - 1934 |
للأستاذ محمود الشرقاوي
(إنا وجدنا الشارع قاصدا لصالح العباد. والأحكام العادية تدور معه حيثما دار. فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة. فذا كان فيه مصلحة جاز)
(الشاطئ)
لكل دين من الأديان روح تسيطر على مجموعة، وتتمشى في أصوله وفروعه. وتميز دعوته وتربط أحكامه جميعاً، وتساوق بين أجزائه وتوجه تيارها إلى غاية خاصة،
والإسلام يمتاز من جميع الأديان بأنه دين عام خالد لا دين بعده ولا رسالة. فهو لذلك قد جمع الله فيه كل ما تحتاج إليه البشرية من الأصول لجميع ظروفها وأحوالها وأزمانها وأماكنها، والحياة البشرية متغيرة سريعة التحول والانقلاب والسير في طريق التطور من حال إلى حال ومن قديم إلى جديد، وبالأخص في عصرنا هذا الذي تضاعفت فيه سير الحضارة، واختلطت الشعوب والأفكار واستولى على الإنسانية كلها ما يشبه الحمى في سرعة التحول والانتقال
فهل روح الإسلام وغايته العليا تعارض سير الحضارة وتقدم العالم؟ وتلزم البشرية بالوقوف عند حال واحد لا تتعداها إلا إذا تركت الدين واستعاضت عنه بأشياء مدنية لابد منها لاستكمال الحياة البشرية واطراد السير فيها والتطور من حال إلى حال؟ أم أنافأجيب بان الإسلام لا يتعارض بتاتاً مع سير البشرية وتحولها. وانه دين لين واسع الافق، نستطيع ان نوفق بين روحه وبين كل مظهر من مظاهر الحضارة، وان تجد في نصوصه ما يساير الأطوار المختلفة التي تتخطاها البشرية في عصورها المتباينة، وهذا ما أريد أن اكتب عنه في هذا الفصل،
ويجب أن نلتفت إلى الفرق بين (روح) الدين وغايته. وبين أحكامه الفرعية وتطبيقها، والفرق بين الدين كشعور وعقيدة وإيمان، والدين كتقاليد وأشخاص دينيين ومظاهر كنسية للحكم والسيطرة. فروح الدين وجوهره هو الشيء الخالد الباقي الذي لا يتعارض مع أي عصر. والذي تجد فيه كل حضارة وكل أمة في كل زمان ما يتفق مع احتياجاتها ويعينها ويسددها في سبيل الغاية العليا والكمال البشري الذي تسير إليه، روح الدين وجوهره ه الشيء لذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وعلى هذا الفهم نستطيع ان نجد في نصوص الدين الإسلامي وفي تاريخه أشياء تؤكد لنا انه دين يستطع أهله أن يجدوا فيه كل ما يتفق مع مظاهر الحضارة التي تغمرهم وتجذبهم إليها وتستولي عليهم وعلى جميع الدنيا طوعاً أو كرهاً.
وهذه أشياء اذكرها تؤيد ما أقول وتفصح عما أريد:
هذه المسايرة للزمن، وتطبق الأحكام على ملائمات الأحوال والظروف واختلافاتها. مع المحافظة على جوهر النصوص وروح الدين. نجدها عند شخصيات في قلوبها بصيرة للوقوف على مراميها أدراك الغاية منها وعدم التقيد بحرفيتها، ونجدها في بيئة تختلف عن البيئة التي عرفنا فهمها لهذه النصوص ودرسنا ما قالته فيها وما استرشدت فيه بحاجاتها العقلية والمدنية ومميزاتها الجغرافية والتاريخية.
فمثلا إذا كنا في عصر هين لين نحتاج فيه إلى زيادة الإنجاب والنسل، نجد روح الإسلام ما يشجعنا على التكاثر والتناسل والنماء. وان كنا في عصر عسير محرج ضيق نحتاج فيه القصد في الإنجاب والالتفات فيه إلى الكيفية لا إلى الكمية. فنجد من روح الإسلام ما يجعلنا نخفف من نسلنا ونتقلل على ما نريد. بل نمتنع منه إذ نريد نجد صحابيا جليلا وحاكما قادرا يبيح لنا التقليل من النسل. بل يوشك أن ينهانا عن العيال: (يا معشر الناس: إياكم وخلالا أربعة، فأنها تدعو إلى النصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى المذلة بعد العزة، إياكم (وكثرة العيال) وإخفاض الحال. . . الخ).
وإذا كنا في عصر يتشدد أهله في علاقاتهم الزوجية ولا يمتهنون رباط الأسرة، ويعرفون ان ابغض الحلال إلى الله الطلاق، فنحن نستطيع ان نجد في أحكام الإمام والخليفة عمر بن الخطاب ما يجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا، وإذا كنا في عصر مثل عصرنا الحاضر وهنت فيه العلاقات الزوجية واضطرب رباطها وأصبحت ألفاظ الطلاق على كل لسان، فنحن نستطيع ان نجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة، ونجد في نصوص الإسلام ما يتيح لنا ذلك كما وجدنا ما أباح لنا الأول: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبى بكر الصديق وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: ان الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة. فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم) وهذا ما فعلناه نحن في مصر،
وإذا كنا في إقليم وفي مجتمع يلزمنا عمرة خاصة للرأس. وكان غيرنا من المسلمين في إقليم أو مجتمع يلزمهم عمرة للرأس خاصة غير عمرتنا، أو يجعلهم يسيرون حاسرين، تجد من روح الإسلام ما يجعلنا نلبس ما نشاء. ويجدون هم من روح الإسلام ما يجعلهم يلبسون ما شاءوا أو يحسرون كما يشاءون: (كل ما شئت واشرب ما شئت ما اخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة)
الإمام الشاطئ من اعلم الرجال في أصول الدين. ومن أبرعهم وأوسعهم ذهنا في تطبيق النصوص الدينية والموازنة بينها وبين الأحوال. وله كلام يجب على كل رجل من رجال الدين ان يتدبره ويعتبره، لما يدل عليه من فهم جيد لروح الإسلام ومسايرته لكل عصر وكل حضارة. وطواعية أحكامه ونصوصه لان توافق كل حضارة وكل جيل.
يقول الشاطئ: (. . . والسكوت عنه من الشارع لا يقتضي مخالفة. ولا يفهم الشارع قصداً دون ضده وخلافه فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح. فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه أعمالا للمصالحالمرسلة. وما وجدنا فيه مفسدة تركناه أعمالا للمصالح أيضاً. وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحثات أعمالا للمصالح المرسلة أيضاً).
ويقول (إن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات. واكثر ما علل فيها بالمناسب الذي ان عرض على العقول تلقته بالقبول، ففهمنا من ذلك ان الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص).
وللشاطئ أشياء في غاية الجمال والإبداع من هذا الفهم الواسع المحيط. وهذه النظرة الشاملة النافذة إلى جوهر الدين وحقيقته الواعية لروحه الكلي الشامل، على رأس هذا الفصل فقرة هي الدستور الذي يجب ان يستوحيه كل مفكر ديني.
يقول الشاطئ أيضاً: (قد تكون العوائد ثابتة وقد تتبدل ومع ذلك فهي أسباب لأحكام تترتب عليها. . . والمتبدلة منها ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح وبالعكس. مثل كشف الرأس فانه يختلف بحسب البقاع في الواقع. فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد الشرقية. وغير قبيح في البلاد المغربية. فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح، واعلم بان ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في اصل الخطاب. لان الشرع موضوع على انه دائم أبدى لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية).
ويقول سيدنا عمر بن الخطاب عن الرمل في الحج: (فيم الرملان ألان والكشف عن المناكب، وقد اظهر الله الإسلام ونفى الكفر وأهله. . .؟).
وسرق جماعة لحاطب بن أبى بلتعة ناقة لرجل من مزينة. فلما أرسلوا إلى عمر بن الخطاب اقروا على سرقتها، فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم. ثم ردهم وقال: (انهم يجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له، ولم يقطع أيديهم).
ولما جاءت المجاعة والقحط في سنة 18 هـ أيام خلافة عمر بن الخطاب لم يقطع أيدي السارقين.
نحن نستطيع ان نسير مع كل حضارة. وان نأخذ عن حضارة الغرب ما يفيدنا وينعشنا ويلقح حياتنا باللقاح المجدد، ولا نجد في روحالإسلام ما يصدنا عن ذلك.
ولكن المشكل هو في وجود الرجال الذين يفهمون روح الدين بالعقل اليقظ الواسع الحر العارف حاجات العصر وتيارات الحضارة والذهن البشري.
محمود الشرقاوي عالم من الأزهر