الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 389/كتاب تحرير المرأة

مجلة الرسالة/العدد 389/كتاب تحرير المرأة

بتاريخ: 16 - 12 - 1940


للأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم

من بين ما قررته وزارة المعارف على طلبة السنة التوجيهية المتسابقين في امتحان اللغة العربية في خلال يناير المقبل كتاب (تحرير المرأة) للمرحوم قاسم بك أمين. وقد يكون من الخير أن نبين - في إيجاز - بعضاً من المناحي والأغراض التي عنى المؤلف بعرضها في كتابه، لعلّ في هذا توجيهاً للطلاب، واستحثاثاً لهم على الاستزادة والاستفادة.

(أ) شخصية المؤلف

ولد المرحوم قاسم بك أمين في أسرة مصرية تنسب إلى أصل كردي، وتربى منذ نشأته تربية أمثاله، ثم سافر إلى فرنسا حيث درس الحقوق وعاد في سنة 1885 ميلادية. وظل منذ ذلك الحين إلى أن عاجلته المنية في سنة 1908 قاضياً ممتازاً، ثم مستشاراً بارعاً بمحكمة الاستئناف.

وكان من خلقه: الصراحة، وحب العدالة، وحرية الرأي. ولم يكن من القضاة الذين قال عنهم (أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل) بل كان يحب الحق لأنه حقُّ وفضيلة، ويمقت الظلم لأنه ظلم ورذيلة.

ولم يكن يتقيد في قضائه بآراء الفقهاء، وأحكام المحاكم، بل لم يتقيد بنص القانون إذا لم يصادف هذا النص مكان الاقتناع منه.

وكان مولعاً بالبحث والتنقيب عن كثير من شؤون الإصلاح والاجتماع؛ فدعا إلى تحرير المرأة من رق الجهل، ورق الحجاب. وكانت هذه الدعوة من الأمور الشاقة الشائكة لأنها خالفت العرف المألوف، والتقاليد الموروثة، وأدت إلى ثورة فكرية انقسمت بها الأمة قسمين: معه وعليه. وقد أوضحها في هذا الكتاب، ودعمها بالحجج والبراهين.

(ب) تصوير فكرته التي أودعها كتابه

حمل المؤلف - رحمه الله - حملة صادقة على الرجعيين الذين رضوا للمرأة أن تعيش في الإسار كما يعيش الذليل المستعبد، وأن تحبس في الدار كما يحبس الطائر المعذب، وأن تقضي أيامها في هذا الوجود كما يقضي السجين أيامه في غياهب السجون؛ فاستنّوا لها أن يتصرف في شؤونها الخاصة والعامة قيّمٌ قهار يملك عليها إرادتها، ويقبض على ناصيتها، ويسيطر على عملها وحريتها؛ فلا تتحرك في ظلامها الحالك إلا بعلمه، ولا تتصرف في حياتها الضيقة الأفق إلا بمشيئته.

توهم هؤلاء القدامى أنها قليلة العقل، ضعيفة الإرادة؛ ومن ثم لا بد أن تحاط بسياج منيع يحول بينها وبين مشتهياتها، وإلا اندفعت إلى الشر وارتكبت ما يجلب لها الإثم والعار؛ فعطلوا فيها حرية الفكر والرأي، وحجبوها عن الوجود بحجاب كثيف لا تستشف ما وراءه من نور وضياء، وأقاموا بينها وبين حقوقها سداً لا تستطيع أن تظهره، ولا تستطيع له نقباً.

ظن هؤلاء أنها لا تصلح إلا للمعيشة في داخل منزلها فعزلوها عن البيئة الخارجية كما يعزل المريض عن الأصحاء، وفصلوها عن المجتمع كما يفصل العضو من الكائن الحي، وأخمدوا جذوتها، وأطفئوا شعلتها، حتى صارت لا حول لها ولا طول، ولا قوة لها ولا ناصر. فبقيت رهينة المحبسين، وثالثة الأذلَّين أمداً طويلا.

وتحكم بداهة العقل أن في هذا التصرف جَوراً عن الاعتدال وإسرافاً في العسف والإذلال، وأن فيه كَبْتاً لغرائز المرأة وميولها وطبيعتها وسائر قواها، وأن نتائج هذا الكبت ضارَّة بها إلى حد كبير.

ومن أجل ذلك نادى المصلحون في عصور مختلفة بوجوب إعطائها حريتها المشروعة، وهي الحرية الصحيحة المقيدة بالنظم الدينية والقوانين الخلقية، ومن بينهم المرحوم قاسم بك أمين زعيم القائلين بإصلاح المرأة في مختتم القرن التاسع عشر ومفتتح القرن العشرين؛ إذ نادى بوجوب إنهاضها والأخذ بناصرها لتستمتع بما لها من الحقوق الطبعية والأدبية والدينية والاجتماعية ولتؤدي رسالتها التي خلقت من أجلها.

وإنه لم يجهر بهذه الفكرة إلا بعد أن محصها وقلبها على مختلف وجوهها، حتى اقتنع بصحتها، واستوثق من صدقها، وحلت منه محل العقيدة والإيمان، ثم أبرزها في كتابه (تحرير المرأة) وهذا ما عبر عنه في مقدمة هذا الكتاب حين قال: (هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت من كل ما كان يختلط بها من الخطأ، استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وزاحمت غيرها، وتغلبت عليه، وصارت تشغلني بورودها، وتنبهني إلى مزاياها، وتذكرني بالحاجة إليها. فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر).

(ج) موضوعات الكتاب

اشتمل كتاب تحرير المرأة على مقدمة تمهيدية تصف حال المرأة في الأيام القديمة، وتصوِّر اضطهادها وإذلالها واستحواذ الرجل عليها بقوته وجبروته، ومعاملته لها معاملة فيها قسوة وامتهان وبطش: بسجنها في المنزل، وعدم الثقة بها، والحيلولة بينها وبين الحياة، وتعطيل حقوقها وما وهبها الله من قوى التفكير والإرادة والشعور. وجاء الإسلام فسوّى بين الرجل والمرأة في الحقوق، وهذه الأحكام مقتبسة من تاريخ الأمم، والتاريخ أكبر شاهد عليها.

وعالج الباب الأول من الكتاب موضوع تربية المرأة وأثر هذه التربية في تثقيف عقلها، وتهذيب خلقها، وتنشئتها تنشئة صالحة، وإعدادها إعداداً تاماً للحياة الكاملة، حتى تنهض بنجاح وجدارة في الحياة العملية؛ فتدبّر أمرها وأمر منزلها، وأولادها، وتقوم بوظيفتها في المجتمع قياماً حسناً، وتطرح الخرافات والأباطيل، وتتمسك بالعقائد الدينية والآداب الاجتماعية وتتمتع بما في الكون من علوم ومعارف وآثار.

وقد حرمت فيما مضى - من التربية الصحيحة - فضعفت قواها الجسمية والعقلية والخلقية، وصارت مصدر شقاء لنفسها وبعلها وذريتها وأسرتها. لأن التربية الحقة تحيي في نفوس النساء معاني الشرف والكرامة والعفة، وتصونهن عن الفساد.

وأفاض الباب الثاني في شرح حجاب النساء واعتباره أصلاً من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها متى كان منطبقاً على ما جاء في الشريعة الإسلامية. وقد أنحى فيه المؤلف باللائمة على الغربيين لغلوهم في إباحة السفور والتكشف، وعلى الشرقيين لمغالاتهم في التحجب، وأبان أن الفضيلة وسط بين هذين الطرفين، ولا تتحقق إلا بالحجاب الشرعي. واستدل على ما يقول بما ورد في الشرع الشريف، وناقش موضوع الحجاب والسفور نقاشاً دل على درجة تمكنه من هذه المسألة الاجتماعية الخطيرة.

واختتم كلامه في هذا الباب بوجوب التدرج في السفور وإلا حدث انقلاب فجائي ينجم عنه ضرر جسيم، ويؤدي إلى عكس المقصود.

والباب الثالث من الكتاب يبين علاقة المرأة بالأمة، فهي النواة للأسرة، إن صلحت صلحت الأسرة، وإن فسدت هي فسدت الأسرة تبعاً لها، فهي المحور والمرتكز. ومن ثم كانت تربيتها أوجب من تربية الرجل. ومعلوم أن الأسرة هي الأمة مصغرة، ومن مجموع الأسر تتكون الأمة. فالمرأة المتمدينة تخدم بلادها أجل خدمة بما تؤديه من أعمال جليلة في مواقف عدة.

ولما كان ارتقاء الأمم يحتاج إلى عوامل شتى من أهمها ارتقاء المرأة، وانحطاط الأمم ينشأ من عوامل مختلفة من أهمها انحطاط المرأة، لزم العمل على إنهاض المرأة بتهذيبها وتطهيرها وتجميلها بالتربية الكاملة؛ فهي الدعامة لبناء مجتمعها، إن قويت قوي المجتمع، وإن ضعفت ضعف المجتمع وساء مصيره.

والباب الرابع خاص بنظام الأسرة وما يمس حياة العائلة من حقوق وواجبات وأحكام وعادات مما يتصل بمسائل الزواج، وتعدد الزوجات والطلاق. واستند المؤلف في هذا على ما ورد بكتب الفقه والمعاملات، والشرائع والاجتماع.

وقد أساء الناس فهم ما قصد إليه المرحوم قاسم بك أمين فظنوا أنه يدعو إلى الإباحة والمنكر؛ وهو إنما دعا إلى الخير والإصلاح بما يتمشى مع الشرائع ولا يتنافى مع روح الدين.

(د) الأسلوب

في أسلوب هذا الكتاب سهولة واسترسال. فلم يكن المؤلف متأنقاً في اختيار الألفاظ، ولا متحذلقاً في صوغ العبارات، ولم يعمد إلى زخرفة كتابته، ولم يولع بالصنعة التي أغرم بها معاصروه من الكتاب ومن كانوا قبله.

فجاءت كتابته خالية من التكلف والسجع. ولو أن قارئاً اطلع على كتاب (تحرير المرأة) ولم يكن يعرف أنه لقاسم أمين لعدّه من المؤلفات الحديثة في الوقت الحاضر؛ لأن أسلوبه يقارب الأسلوب الذي يتوخاه الأدباء والصحفيون في هذه الأيام من حيث السهولة والسلاسة.

أما المعاني والأفكار والبحوث فهي مرتبة ترتيباً منطقياً سليماً لأنه كان يأتي بالقضايا والأحكام بعد أن يمهد لها بمقدمات موصلة إليها، ثم يدلل عليها بأدلة عقلية ونقلية، ويعززها بشواهد كثيرة يسوقها من التاريخ ومن الواقع، ليمنع عنها كل لبس، وينفي كل شبهة، ويسد على المعارضين طريقهم بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة. ولم تسلم ألفاظه وتراكيبه من أخطاء لغوية وصرفية؛ ولم تخل تعابيره من التواء في بنائها. والسبب في هذا النقص يرجع إلى أمور من بينها أن اهتمامه كان متجهاً إلى ناحية الفكرة الإصلاحية التي يرمي إليها أكثر من اتجاهه إلى الناحية اللغوية، وأنه لم يكن متضلعاً من فقه اللغة ولا من الدراسة الأدبية العربية في الكتب القديمة التي هي المنبع الفياض للأساليب القوية الجزلة السليمة؛ ونذكر على سبيل الاستشهاد بعضاً من هذه الأخطاء: فقد أكثر من استعمال كلمة (العائلة) وصوابها (الأسرة)، وجمع كلمة (الأهل) على (الأهالي) وصوابها (الأهلون)، وعدي الفعل (أعطى) باللام وهو يتعدى إلى المفعولين إذ قال: (وكثير من الرجال قد أعطوا لنسائهم مقاماً في الحياة العائلية)، كما عدى الفعل (أمكن) باللام إذ قال: (أمكن للأمة أن تنتفع بجميع أفرادها)، وجمع (عادة) على (عوائد) والصواب (عادات).

ومن أمثلة الالتواء في التعبير قوله: (وأذكر ملاحظة واحدة تؤيد ما قدمته - وهو أن نساء الإفرنج على العموم مهما كان حالهن في الباطن يحافظن على الظواهر فيعيش الواحد بين رجل وامرأة يحب بعضهما بعضاً أياماً وأشهراً ولا يكاد تقع منهما هفوة تظهر ما كان خافياً بينهما الخ) إلى غير ذلك من الهفوات اليسيرة التي لا تخفى على الأديب.

ومهما يكن من شيء فالكتاب له قيمته الاجتماعية، ويعتبر أثراً من الآثار الخالدة.

محمد أبو بكر إبراهيم

المفتش بوزارة المعارف