الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 389/القمراء

مجلة الرسالة/العدد 389/القمراء

بتاريخ: 16 - 12 - 1940


للأستاذ عباس محمود العقاد

انظر القمر، وارقب الخطر، واسأل القدر!

واذكر قول صديقنا الزيات: (ليت الذي صبغ وجوه المصابيح باللون الأزرق استطاع أن يصبغ به وجه القمر. . . إن بزوغ القمر أمسى نذيراً بالغارة، ودليلاً للجارة إلى قتل الجارة)

واسمع من يقولون: (لقد أوشك القوم أن يخيفونا من الأقمار. . .) فأقول: ومتى خلت الأقمار من الأخطار؟

لقد كان آباؤنا ينتظرون من كل قمر سهماً إلى قلب، واليوم ننتظر من كل قمر قذائف نيران!

إنه تقدُّم الزمن!

وهل تتقدم الأيام، إلا لتظهر القذائف بعد السهام؟!

وتخيلت شاعراً من أصحاب (الاختراعيات) وممن يقرنون بين الاستحداث والطيارات والدبابات، يتغزل فيقول:

قمري رمى بقذيفة من عينه ... وأذابني برصاصه ولجيته

وأطار نومي فانتفضت لأنني ... أنا هالك بحضوره وببينه

فناديت بيني وبين نفسي: الأمان الأمان. الكهوف أسلم من هذا الزمان، والعقول أحوج إلى المخابئ من الأبدان!!

قال بعض الفضلاء من قضاة المصريين: (متى نفهم هؤلاء الغربيين أو يفهمونا؟. . . إنهم يكتبون من الشمال إلى اليمين، ونحن نكتب من اليمين إلى الشمال. وهم يدخلون المعبد فيخلعون القبعة، ونحن ندخل المسجد فنخلع الحذاء. وهم يحبون فيغتبطون ويشكرون، ونحن نحب فنتأوه ونتألم. وهم يذكرون الشمس ويؤنثون القمر، ونحن نذكر القمر ونؤنث الشمس. وكل أولئك نقيض من نقيض. فمتى نفهم هؤلاء أو يفهمنا هؤلاء؟)

خطرت لي خاطرة ذلك القاضي الفاضل وأنا أذكر الغارات وأقمارها، والأقمار وأخطارها، فعاودني العجب من تذكيرنا القمر وتأنيث الغربيين إياه، وتساءلت: ماذا في القمر من صفات الذكورة وهو مقرون بالحنين والحياء، موصوف بالاتباع والاقتفاء، قليلٌ فيه ساطي المضاء وساطع الضياع، عارض له من المحاق ما يعرض للنساء؟

أهي زلة من زلات البداهة عند الشرقيين؟ أهم المستضعفون للأنوثة لا يفطنون لهذا المعنى الذي فطن له الغربيون؟ أم هو إمعان في البداهة أدركوا به من سطوة المرأة ما لم يدركه مذكرو الشمس ومؤنثو القمر، وأقاموا به ما عكسه أولئك الخاطئون؟

هو على كل حال من مفارقات الشرق والغرب، ولا بد لهما من مفارقات، ولو من طريق المصادفات!

وجاء البريد الإنجليزي الأخير فعاودتني هذه الخاطرة المتجددة كرة أخرى

في إحدى مجلاته مقال جميل للكاتب (ريتشارد ستراود يستوحي به المعاني التي أوحت إلينا مخافة الأقمار، وأن نقرن بينها وبين الغارات والأخطار، ولكنه جرى فيه على سنة التذكير في موضع التأنيث، والغبطة موضع الألم، والكتابة من الشمال في موضع الكتابة من اليمين، فحمد ليالي القمر، وود لو تتعاقب وتتكرر، وحسب أنهم موشكون أن يفتنوا بالأهلة والبدور، وهم أمة فتنت بالشمس من قديم الدهور.

قال إن التخبط في الظلمات إن هو إلا رمز محسوس لتخبط العالم بأسره في ظلمات رأس مخبول، ودماغ جاهل مجهول، فما أجدر الناس أن يحمدوا ليالي القمر كما يحمدون لمحات الصواب بعد غمرات الجنون! وما أحق هذا الكوكب أن يرمز اليوم إلى العقل والرشاد، وقد كان رمز الهيام والفتون!

ثم قال ما فحواه: إن سخرية القدر هي التي حكمت على عصر الكهرباء أن تقفر لياليه من الضياء. . . فمنذ فجر التاريخ والطرقات ما خلت قط من ضياء مصنوع على يدي ابن آدم: انطفأت المشاعل فأضاءت الفتائل، وانطفأت الفتائل فأضاءت مصابيح النفط والزيوت، وانطفأت هذه المصابيح فأضاءت أشعة الكهرباء، فلما بلغنا هذا المدى شاء لنا القدر أن نرجع إلى يوم لا مصباح ولا فتيلة ولا شعلة! واقترن ذلك بضراوة كضراوة السباع، وأصبحنا نبحث عن القمراء كما كانوا يبحثون عنها في عصور الظلمات، وعاد السؤال عن القمر كالسؤال عن الجو: نشيداً مطروقاً في الأحاديث، وتعلة معادة لابتداء الكلام! دع هذا ثم اقلب الصفحة إلى حيث تلمح بين سطور هذا الكاتب لمحة مما في سليقة أمته من روح الفن وحب الجمال

فهؤلاء القوم الذين تتساقط عليهم كِسَف الفضاء صباح مساء، والذين ينظرون إلى السماء فلا يأمنون رجوم الموت وصواعق الأعداء.

هؤلاء القوم تشوقهم ليالي القمر لما تعرض لهم من أشعة وظلال، ومشاهد روعة وجلال، ويقول كاتبهم هذا: (إن المدن والحقول وهي محلاة بالفضة القمرية لتبرز لك كأنها في يوم خلقها الجديد. ولقد قيل: إن هتلر فخور بأن يسلك نفسه مع رجال الفنون. فمن الحق إذن أن نقول إنه أفلح فلاحاً يتجاوز الأوابد من أحلام ريمبران. . . لأن الأشباح والظلال في أحقر الشوارع التي يفعمها الأسى والشجى بالنهار، لتضفي على أعطافها في القمراء جمالاً وهيبة كأفخر ما تلقيه هياكل يونان).

قلت: إن الكاتب الإنجليزي استوحى معاني القمراء على سنة الغبطة في موضع الألم وكتابة الشمال في موضع كتابة اليمين، وأخال أن الأمر فيه اختلاف غير اختلاف الشرق والغرب أو غير اختلاف كيلنج الذي قال إن الشرق شرق والغرب غرب وليس لهما لقاء.

فالمغيرون في إنجلترا ألمان، والمغيرون في مصر طليان، والأولون يغيرون ليل نهار، ولا يقصرون الإغارة على مواعد الأقمار.

أما الطليان فيغيرون في (القمراء)، ويخطئون الأهداف في الظلام والضياء على السواء.

فإذا كان أنس الإنجليز بليالي القمر أعظم من أنسهم بليالي المحاق فلا غرابة في ذاك؛ وإذا عكسنا نحن الأمر فما نحن بمخطئين وإن كنا لنرجو أن يكثر فيها المحبون للأشعة والظلال، إلى جانب المجفلين من الأوجال والأهوال.

وخصلة أخرى في هؤلاء الغربيين أنهم يسبغون خيالاً على كل حقيقة، ثم يستخرجون عبرة من كل نكبة، أو كما يقولون فضيلة من كل ضرورة.

هم لا ينامون مع الغارات المتواليات إلا غراراً، وفي النهزة بعد النهزة على غير موعد محدود ولا وتيرة معروفة.

فهل تركوا هذه الحالة بغير عبرتها؟ وهل أبطئوا في استخراج الفضيلة المشكورة من هذه الضرورة القاهرة؟ لا. لم يتركوها ولا أبطئوا في الاستفادة منها. فقد رجع أناس من باحثيهم المتفرغين للملاحظة والدراسة إلى الأصل في النوم المتعاقب بضع ساعات، أو إلى الأصل في زعم الزاعمين أن الرقاد في الفراش ثماني ساعات كل يوم ضرورة لا محيص عنها للإنسان فيما بين الشباب الباكر والكهولة العاملة.

فسألوا: أهذا صحيح؟ ولم يا ترى يكون هذا كذاك؟

وظهر لهم من مجرد السؤال أن هذا الزعم ليس بالحقيقة المقررة، وليس بالرأي المستند إلى أصل وثيق.

فالهرة تنام غفوات غفوات بالليل أو بالنهار، وفصائل شتى من الماشية تنام كما تنام الهرة ولو لم تكن من كوادح الليل.

فما بال الإنسان لا يشبع حاجته إلى النوم على هذا المثال؟

كل ما أوجب النوم المتعاقب من قديم الزمن فإنما هو عادة الإنسان الأول أن يلوذ بالكهوف ويأوي إلى المضجع، لأنه لا يحسن أن يصنع شيئاً غير ذلك قبل اختراع الضياء المصنوع الذي يشبه ضياء النهار.

ولو أنه استطاع في ذلك العهد الدابر أن يعمل بالليل عمله بالنهار لما رسخت فيه عادة الهجوع من مغرب الشمس إلى مشرقها، ولأضاف إلى عمره بتفريق أوقات النوم عشر سنين، وتعوَّد أن ينام ساعة كلما أعياه الكد والكدح ساعات، فإذا هو بعد ذلك مفيق ناشط للعمل من جديد.

ولنرجع إلى الحساب في عصر الحساب.

فإذا صح أن غارات الليل ستعلمنا أن نضيف إلى كل حياة عشر سنين فقد نخرج من الجمع والضرب على أن الأعمار التي كسبها الإنسان أكثر وأغلى من الأعمار التي تضيع الآن!

عباس محمود العقاد