مجلة الرسالة/العدد 388/رسَالة العِلم
→ وحي السويس | مجلة الرسالة - العدد 388 رسَالة العِلم [[مؤلف:|]] |
البَريدُ الأدبيّ ← |
بتاريخ: 09 - 12 - 1940 |
من أمراء العلم
ماكسويل
للأستاذ قدري حافظ طوقان
أليس عجيباً أن يستنبط العالم بعض النظريات عن طريق الأرقام والمعادلات الرياضية؟ أليس مدهشاً أن تتنبأ المعادلات عن بعض الأجرام السماوية قبل أن يراها الفلكيون بالرصد؟
لقد رأى فراداي بعين البصيرة النافذة أن هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسية في الأثير، ولكنه لم يثبت ذلك عملياً. وجاء ماكسويل وأتى بالعجب العجاب، إذ لجأ إلى الرياضيات في حل هذه المعضلة: هل هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسية؟
وكانت محاولة، ولكنها موفقة، وانتصار عظيم للعلوم الطبيعية والرياضية. فلقد ابتدع معادلات أثبت بها أن في الفضاء اضطرابات كهربائية مغناطيسية تتصف بصفات الضوء، أي أن الاضطرابات الناشئة من شرارة كهربائية تبدو في مظهر أمواج في الأثير لا نراها، ولكنها كالأمواج التي تحدث الضوء والحرارة، وتسير جميعها بسرعة الضوء وقدرها 186000 ميل في الثانية! فهو بذلك قد وضع أساس الفنون اللاسلكية التي نراها متغلغلة في العمران ومنتشرة في كل مكان.
كانت معادلات ماكسويل من أعظم الأعمال العلمية التي قام بها عالم، فقد رفعته إلى مصاف العلماء العالميين الذين أدوا للحضارة أجل الخدمات التي قامت عليها الاختراعات العديدة والاكتشافات المختلفة التي تفرعت عن بحوث اللاسلكي.
رأى بعض العلماء أن هناك اضطراباً في فلك أورانوس، وقالوا بوجود قوة تقصيه عن الطريق التي تحددها الحسابات والأرصاد، وأن هذه القوة ليست إلا نتيجة لجذب كوكب غير معروف. وقام الفلكيان (أدمس) الإنكليزي و (الفريه) الفرنسي حوالي منتصف القرن التاسع عشر للميلاد، بالبحث في هذه المسألة فاستطاعا بقوانين الجاذبية والمعادلات الرياضية وحساباتها المعقدة أن يعينا مكان السيار المجهول وأن يحددا موقعه والطريق التي يسير عليها حول الشمس. وقد وجه الفلكيون فيما بعد مراقبهم إلى مكان السيار الجديد (نبتون) فوجدوه في الموضع الذي تنبأت عنه رياضيات أدمس والفريه.
وكذلك تنبأ العلماء عن طريق المعادلات والأرقام عن موقع سيار تاسع جديد أطلقوا عليه اسم (بلوتو
كانت هذه الحوادث واكتشاف الأمواج اللاسلكية من أجل الأعمال التي أقامت الدليل على صحة القوانين الطبيعية والمعادلات الرياضية، وهي من العوامل التي زادت ثقة العلماء بأنفسهم وبمقدرتهم على اكتناه أسرار الكون وروائع الوجود، كما كانت أيضاً من العوامل التي دفعت بالعلوم الطبيعية والرياضية والفلكية خطوات واسعة إلى التقدم والابتكار.
انحدر ماكسويل من عائلة عريقة في سكوتلاندة، وولد في ادنبرغ عام 1831 وتعلم في جامعتها وفي جامعة كمبردج ونال الجوائز التي لا تمنح إلا للمتفوقين. شغل مركز أستاذ في الفلسفة في مدة أربع سنوات، وكذلك أستاذ في الطبيعة والفلك في كلية الملك التابعة لجامعة لندن مدة ثماني سنوات (1860 - 1868) ثم اعتزل التعليم. وفي سنة (1871) تعين أستاذاً للعلوم الطبيعية التجريبية في جامعة كمبردج، وتحت رعايته نشأ معمل كافندش الشهير بنتائج بحوثه وروائع تجاربه. وتوفى في كمبردج عام (1879) أي أنه مات وعمره (49) سنة. وعلى الرغم من هذا العمر القصير، فقد وصل إلى أعلى المراكز العلمية التي يطمح إليها رجال العلم، وكان له مقام خطير بين علماء الفلسفة الطبيعية.
لقد تفتحت مداركه ومواهبه حينما كان في الخامسة عشرة من العمر فنشر رسائل علمية قيمة منها رسالة تبحث في طريقة ميكانيكية لرسم الأشكال الديكارتية البيضوية، وقد قرأها عنه الأستاذ فوربس في جمعية أدنبرغ الملكية.
وفي سن الثانية والعشرين نشر في مجلة هذه الجمعية رسالتين نفيستين تبحث إحداهما في توازن الأجسام المرنة، ويعترف العلماء بأن هذا البحث هو من الموضوعات الهامة التي تناولها ماكسويل، وكان الأساس الذي بنى عليه ابتكاراته فيما بعد.
واعترف معاصروه بفضله وعبقريته فمنحوه جائزة أدمس من كمبردج وذلك على أثر نشر رسالة مبتكرة في حلقات زحل، فقد بين فيها أنها ليست مناطق جامدة أو سائلة وأنها مؤلفة من نيزكان. وكذلك منح جائزة رومفرد من الجمعية الملكية لبحوثه وتجاربه في اللون والألوان الأساسية في الطبيعة. وعنى بنظرية الغازات وحركاتها، وكانت من أهم البحوث التي طرقها، وظهر فيها كعالم جمع بين التجربة والرياضة فقد قدم سنة (1860) إلى مجمع تقدم العلوم البريطاني موضوعاً يتعلق بنظرية (برنوي) القائلة بأن الغازات مؤلفة من دقائق عديدة متحركة في حالة تصادم شديد، فأثبت في هذا الموضوع أن السنتمتر المكعب من الهواء (على درجة عادية) يحدث فيه (8000) مليون اصطدام بين دقائقه. وكذلك كشف قانون توزيع السرعات في ذرات الغازات ويعرف هذا القانون بقانون (ماكسويل).
وألف كتاباً نفيساً في نظرية الحرارة ورسالة قيمة في المادة والحركة واشتهر بتبسيطه بعض البحوث الطبيعية، تشهد بذلك محاضراته التي كان يلقيها أحياناً في مجمع تقدم العلوم البريطاني في (الجزئيات) و (المادة والحركة) و (التلفون) وبحوث أخرى في الغازات ولزوجتها.
درس الرياضيات وجال فيها وغاص في أرقامها ومعادلاتها فرسخت قدمه فيها رسوخاً مكنه من تسخيرها لميادين الطبيعة، وفي ذلك كشف أعظم مكتشفاته، وبلغ درجة جعلته من المقدمين في تاريخ تقدم الاختراع والاكتشاف. لقد فسر (ماكسويل) بحوث فراداي في خطوط القوة رياضياً، وكان من ذلك أن مكَّن العلماء فيما بعد من توسيع نطاق هذه البحوث وتطبيقها في ميادين الاختراع.
رأى في انتظام برادة الحديد خطوطاً في أشكال معينة عند نشرها على ورقة تحتها مغناطيس، دليلاً على وجود قوة مغناطيسية وأن خطوط هذه القوة هي شيء حقيقي أكثر من مجرد تفاعل بين قوتين، ويقول: (. . . ولا يسعنا إلا الظن بأنه حيث توجد هذه الخطوط لا بد من وجود حالة طبيعية أو فعل طبيعي على جانب كاف من الطاقة لإحداث ظاهرة انتظام برادة الحديد. . .) وفوق ذلك فرض ماكسويل أن للتيارات الكهربائية وجوداً مستقلاً في الفضاء والمواد المعزولة، وقد أسند إلى هذه التيارات الخواص التي تسند إلى التيارات الكهربائية التي تجري في دورات كهربائية مقفلة، وعلى ذلك فمن شأن هذه التيارات إحداث حقل مغناطيسي وتيارات بالتأثير بالإفاضة إلى حقلها الكهربائي. . .
وضع هذه الفروض أساساً وسخر الأساليب الرياضية، فإذا هو يستنتج وجود الأمواج الكهرطيسية وخرج بالقول إنه (. . . إذا تغيرت قوة (الحقل الكهربائي) تغيراً دورياً في السعة والاتجاه كان لا بد من حدوث موجة كهربائية. . .) وأوضح أنه إذا طبق هذا الأسلوب على الحقل المغناطيسي أمكن إحداث أمواج مغناطيسية، وقال: (إن الموجة الكهربائية يصحبها موجة مغناطيسية، والمغناطيسية يصحبها موجة كهربائية وأن الواحدة لا تحدث إلا والثانية معها، وأثبت أن قوة الحقل الكهربائي عمودية على قوة الحقل المغناطيسي، وأن كلا منهما عمودي على اتجاه التيار. . .) وظهر له أيضاً أن هذه الأمواج مستعرضة تشبه أمواج الضوء وأنها تسير بسرعة الضوء.
ولا يخفى أن هذا الاستنتاج ذو أهمية عظمى وكان له شأن كبير في تقدم اللاسلكي، وقد حمله على القول بأن الضوء قد يكون نوعاً من أنواع الطاقة الكهرطيسية لولا بحوث ماكسويل ومعادلاته لما تقدمت المخاطبات اللاسلكية تقدمها الحاضر، ولما كان في إمكان العلماء أن يملئوا الأجواء بعجيج الأمواج اللاسلكية وقد حملت على أجنحتها الأنباء والأخبار والصور.
إن ماكسويل من الذين وضعوا الأسس التي يقوم عليها الاختراع في هذا العصر، ومن الذين أنعم الله عليهم بقوى خارقة عملت على ترقية الفكر العلمي وكشفت عن أسرار الطبيعة وغرائبها وأخضعت قواها لمطالب الإنسان، فهو من مفاخر الإنسانية ومن كبار العلماء المقدمين الذين تركوا آثاراً خالدة ومآثر جليلة في ميادين العلوم الطبيعية والرياضية. إن ماكسويل وأضرابه من المستنبطين من أغلى الممتلكات التي تملكها الأمة ويقول هوفر: (. . . إن كل مبلغ من المال مهما يعظم ضئيل إزاء عمل هؤلاء الرجال الذين يملكون قوة الإبداع والتفاني والمثابرة على ترقية الفكر العلمي خطوة خطوة حتى يصلوا به إلى البيوت فينشروا فيها أسباب الصحة والراحة والرفاهة. إننا لا نستطيع أن نقيس ما عملوه لترقية العمران بكل أرباح البنوك في جميع أنحاء المعمورة)
(نابلس)
قدري حافظ طوقان