مجلة الرسالة/العدد 388/الأخلاق وهذه الحرب
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 388 الأخلاق وهذه الحرب [[مؤلف:|]] |
أخلاق القرآن ← |
بتاريخ: 09 - 12 - 1940 |
جلست ساعة إلى المذياع أقلب مفاتحه على أفواه المذيعين المختلفين في أقطار أوربا المجنونة، فخيل إلى أني انتقلت إلى عالم آخر من خلق الشيطان تقطعت بينه وبين خلق الله وشائج الآدمية؛ فلا الأيدي تستند في أفعالها إلى العدل، ولا الألسن تعتمد في أقوالها على الحق، ولا النيات تتجه في غاياتها إلى الخير؛ وإنما هو زِياط وعياط من الأضاليل السود والأراجيف الحمق والأفاعيل النكْر يحملها الأثير إلى النفوس الآمنة الرِخوة فترتاع، وإلى القلوب المؤمنة الساذجة فتشك، وإلى العقول الراجحة الوزينة فتدهش.
رباه ماذا جرى لأوربا العالمة العاملة المتمدنة حتى انقلب كل كلامها كذباً لا يستحي، وكل سياستها خداعاً لا يستتر، وكل قتالها تدميراً غاشماً أهوج لا يفرق بين المحارب والمسالم، ولا بين الشاكي والأعزل، ولا بين الرجل والطفل، ولا بين الحصن والكنيسة؟!
كانت الحرب في العصور الخوالي نظاماً من البطولة الإنسانية له سننه وآدابه وعرفه: لا يقاتل القوي من ضعف أو قل، ولا ينازل الكميُّ من هان أو ذل، ولا يطعن الفارس خصمه طعنة الغدر، ولا يعطي المتعهد من ذمته عهداً إلا جعله من ورائه دمه وماله. ثم دخلت الحروب في سلطان الدين فنظمها بقيوده وحدوده تنظيمه للشر الذي لا بد منه، حتى غدت سلاحاً من أسلحة الحق يظهر بها على الباطل. ثم انشعب من نظامها المهذب أنظمة أخرى كالفروسية والفتوة والمرابَطة والكشف وما يدخل في بابها مما يقوم على المروءة والشهامة والشجاعة والإيثار والوفاء والعفة. وجرت المدنية الحديثة في تنظيم الحرب على سَنن الدين والخلق، فكفكفت طغيانها بالقوانين، وقللت عدوانها بالعهود، ووقفتها لدى الحدود التي رسمتها الطبيعة للدفاع المشروع والجهاد المقدس.
وفي الوقت الذي طمحت فيه الإنسانية الأوربية إلى قطع أسباب الحرب بالمجالس التحكيمية والمحاكم الدولية والعصبة الأممية، انبعث من ركنين متجاورين من أركان التمدن الحديث مسيخان دجالان فاستوحيا الشيطان دينين جديدين يجعلان الآخرة للدنيا، والأمة للفرد، والعقل للهوى، والعلم للشر، والحضارة للدمار، والحياة للموت. ثم خرجت هاتان النِّحلتان من الكهوف والمواخير وانتشرتا في أجواء برلين وروما انتشار الظلام المضِل والغاز الخانق؛ فعميت عيون كانت ترى، وغبيت قلوب كانت تفقه، ورمت النازية والفاشية جوانب الأرض وخوافق السماء بالموت الوحي في شتى أشكاله وأهواله، حتى أصبح أكث أوربا الجميلة خليطاً من الأنقاض والأشلاء، ومزيجاً من الدموع والدماء. وأشد ما أصاب العالم من هذه الحرب الغشوم ضياع ما ورثته المدنية من حُر الخلال وكريم الأخلاق، فإنها القبس الإلهي في الإنسان تصدر عنه الألفة والثقة والاطمئنان فيكون لكل كلام معناه ولكل عَقد أثره. ومن المستطاع تجديد ما دُكَّ من البيوت وأغرق من السفن، وتعويض ما أزهق من الأنفس وأُنفق من الأموال؛ ولكن تجديد ما انهار من البناء الأخلاقي وهو عمل الأديان المختلفة والحضارات المتعاقبة على كر الدهور أمر لا تتعلق به طاقة المخلوق.
افتح المذياع على أبواق الدعايات الأوربية واصبِرْ نفسَك على مكاره الفجور قليلاً تسمع الأعاجيب من فحش الكذب وسوء البغي: هذا يتبجح مما أحرق وأغرق، وذاك يتمدح بما راع وأجاع، وذلك يفيش بما أسر وقتل؛ وكل أمة إنما تبدأ الكلام وتختمه بلعن أختها ورميها بما تبرأ هي منه من التزيد والافتراء والخور والدس واستغلال الضعف في الشعوب الصغيرة. وكل شيء تسمعه من المذياع إلا الصدق والحق والرحمة. ومن كلال الحس وبلادة الضمير أن يصك المذيع مسمعيك بأخبار الدمار والبوار في كل أمة وفي كل مدينة وفي كل أسرة وفي كل نفس، ثم يرسل إليك في خلال ذلك أفاكيه الغناء وأفانين الموسيقى، كأنما فناء الشباب وثكل الوالدين وحرمان اليتامى وشقاء الأيامي وخراب الأرض أصبحت من توافه الأمور التي لا تنبه الوجدان ولا تمس القلب!
من كان يصدق قبل انهيار الأخلاق في الأمم الدكتاتورية أن روسيا تحارب بولونيا وفنلندة، وألمانيا تهاجم بلجيكا وهولندة، وإيطاليا تغزو ألبانيا واليونان؛ وكل أمة من هذه الأمم الباغية الثلاث تستطيع أن تحشد من الجنود ما يزيد على عدد السكان في كل فريستين من فرائسها الست!
إن الدكتاتورية تدير هذه الحرب على غير قانون ولا خلق. ومن الصعب على العقل السليم أن يفرض القانون والخلق فيما يعقب هذه الحرب من سلم ويقوم عليها من نظام. وإذا كانت الأخطاء لا يتألف من مجموعها صواب، والآثام لا تنشأ من جملتها براءة، والأباطيل لا ينتج من تعددها حق، فإن نزوَ النازية وفِياش الفاشية لا يمكن أن يؤديا إلى عدل شامل وسلام دائم. ولا يزال في الديمقراطية المجاهدة رجاء الحق المضاع والخلق الصريع، لأن السلطان القائم على دستور الحق، يساعدك على الانتصاف لنفسك منه بمنطق الحق.
والنصر مكفول للديمقراطية لا ريب فيه؛ فإن الديمقراطية هي الصحة التي انتهى إليها جسم الإنسانية العليل؛ أما الطغيان والبربرية فهما نكسة المرض؛ والنكسة خلل عارض لا يلبث بحسن علاج الطبيب وصدق إيمان المريض أن يزول!
أحمد حسن الزيات