مجلة الرسالة/العدد 387/حكمة الأقاصيص
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 387 حكمة الأقاصيص [[مؤلف:|]] |
مسابقة الجامعة المصرية ← |
بتاريخ: 02 - 12 - 1940 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
قرأت فصولاً كثيرة في التفرقة بين الفلسفات الاجتماعية والسياسية فلا أذكر أنني قرأت في سطور معدودة تفرقة أظرف وأفكه من التفرقة التي تمثلها لنا قصة البقرتين الأمريكية التي نلخصها فيما يلي:
فالاشتراكية هي أن تكون لك بقرتان فتعطي جارك إحداهما. والشيوعية أن تكون لك بقرتان فتأخذهما منك الحكومة كلتيهما وتعطيك من اللبن ما تحسب أنك في حاجة إليه
والفاشية أن تكون لك بقرتان فتبقى البقرتين عندك وترسل اللبن إلى الحكومة.
والنازية أن تكون لك بقرتان فتأتي الحكومة فتأخذك أنت وتأخذ معك البقرتين.
والإصلاح الأمريكي الجديد على طريقة روزفلت أن تكون لك بقرتان فتصطاد الحكومة إحداهما وتحلب الثانية وتريق لبنها على التراب!
والديمقراطية أن تكون لك بقرتان ملكا فتؤدي ثمنها مرة أخرى على التقسيط ضرائب وإتاوات
و (الرأسمالية) أن تكون لك بقرتان فتبيع إحداهما وتشتري بثمنها ثوراً وتنتج منهما عجولاً وبقيرات
وفي هذه القصة من المبالغة ما في معظم الفكاهات والصور الهزلية، ولكن أين هي السطور القليلة التي تفرق بين الفلسفات السبع تفرقة أقرب إلى الفهم وحسن المقابلة من هذه التفرقة الفكاهية؟ وأين هو الجد الذي يسلم من المبالغة كل السلامة على إرادة من صاحبه أو على غير إرادة؟
ويبدو لنا أن المباحث الحديثة أحوج ما تكون إلى كتاب يعالجها على أسلوب القصة الأمريكية، وإننا نحن الشرقيين أولى بإخراج هذا الكتاب لأننا حذقنا فن القصة الحكيمة من عصور بعيدة، ولأننا قليلو الصبر على دراسة المطولات في هذه الموضوعات
والظاهر أن بلاد كليلة ودمنة - ونعني بها الهند - تأبى أن يفوتها نصيبها من هذا الواجب الحديث، وأن الأستاذ الفاضل عبده الزيات قد اهتدى إلى كتاب من قبيل الكتاب الذي نقترحه على العالم الشرقي، حين ترجم إلى العربية (حكايات من الهند) يجتمع لها ما نبغيه من حسن التقريب وحسن الفكاهة وحسن الإيجاز
فكتاب (حكايات من الهند) ثروة لا تقل في جوهرها عن الثروة الغالية التي ربحها العالم من كتاب كليلة ودمنة، وأنفس ما فيه تلك البساطة التي قد تصغر من شأنه في نظر السطحيين وهي هي مزيته الكبرى وغايته القصوى، بل غاية جميع الحكماء من تبسيط المركبات وتسهيل المعضلات. . . أليس المقصود بهذه الحكمة القصصية أن تمثل لنا الحقائق العويصة في صورة البدهيات التي لا تحتاج إلى بينة ولا إطالة بيان؟
إليك مثلاً قصة الرجل الذي ترك لأبنائه الثلاثة بطيخة يحتفظون بها فظن أحدهم أنه يحتفظ بتراث أبيه إذا أبقاها عندهم حتى تفسد وتفسد ما حولها، وظن الثاني أنه يحتفظ به إذا باعها واشترى غيرها، وظن الثالث أنه يحتفظ بذلك التراث أجمل احتفاظ إذا أنتفع ببذور البطيخة ولم يحرص على قشورها وفضولها
أليست هذه معضلة التجديد في أوضح صورة وأبسطها؟ أليس المحتفظون بالبطيخة حتى تفسد ويفسد ما حولها هم الجامدين الغافلين؟ أليس الذين يبيعونها ويشترون غيرها هم المجددين الذين يستبدلون جديداً بقديم ولكنهم يقطعون الصلة بين هذا وذاك؟ أليس زارعو البذور هم المجددين الصالحين الذين يصونون تراث الآباء ويضاعفونه ولا يخسرون طرافة الجديد في كل موسم؟ أليست هذه حكمة يسيرة عسيرة تستدني النجم البعيد فإذا هو في متناول اليدين؟
ولقد حكى المؤلف حكايته ثم عقب عليها بمغزاها فزاد الحكاية الصغيرة توضيحاً على توضيح حين قال: (. . . أما الاحتفاظ بالبطيخة الفاسدة حتى يأتي الدود عليها جميعاً فمجلبة للسخرية والأمراض ومضيعة للبطيخة. . . وأما رميها برمتها والاعتياض منها بجديدة نبتاعها فتبديد لتراث أبينا وللنقود التي نؤديها في ثمن هذه وأثمان غيرها، هذا إلى أن كل ما نشتريه لابد أن يجري
عليه من الفساد مثل ما جرى على بطيختنا. إن التجديد هو ملاك الحياة والتقدم بيد أن جديد ينبغي أن يتولد من بذور الماضي)
وذلك فيما نعتقد فصل الخطاب في مسألة التجديد.
ولقد رأيت في حياتي ألف مصداق لـ (عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)، ورأيت مرات أننا لو أطلعنا على الغيب لاخترنا الواقع، ولكني لا أحسب أن قصة صغيرة تقرب هذه الحقيقة البعيدة كما قربتها قصة المؤلف الهندي التي جعل عنوانها (لم كان الصخر صلباً؟) وروي فيها أن حجاراً تعب من صلابة الصخر، فتمنى على الله لو أصبح هذا الصخر الصلب رخواً كالزبد والعجين، فلما أستجيب دعاؤه قطع في يوم واحد أضعاف أضعاف ما كان يقطع في أيامه السابقة، ولكن الصخر بار وكسد، لأن الناس استغنوا عن البناء به وأعرضوا عن شرائه؛ وعاد الحجار يقول: (رب! إنك لأعلم أين الخير لعبادك، فاغفر لي دعوتي ورد الصخر صلباً ثقيلاً كما برأته أول مرة).
ويعرض المؤلف مزية الصلابة ومزية الرخاوة في معرض آخر حين يروي عن الصخر أنه تكبر على الطينة القريبة منه، فشمخ بأنفه عليها وقال لها: (أنا صلب نظيف جميل حمول قوي. أما أنت فرخوة قذرة متداعية قبيحة ضعيفة. . .).
فلم تنكر الطينة شيئاً من مزاياه ولا شيئاً من عيوبها، ولكنها أجابته قائلة: (إني لأنمي الحبوب والخضر التي يعيش عليها كل حي، فماذا تنمي أنت؟ إن قوتك عقيمة، وأما ضعفي فمثمر)
وكثير ما يستفاد من أمثال هذه المقابلات والمسجلات، كلما عرفنا أن ننقلها من كبار المشكلات وصعاب المعضلات.
كنت في سيارة من سيارات الأجرة فخطر للسائق أن يختصر الطريق فينحرف إلى الشمال مقاطعاً في بعض الميادين الصغيرة بدلاً من الاستقامة على طريقه إلى الأمام.
وفرق المسافة مائتا متر على أكبر تقدير.
ولكنه حسب فرق المسافة بالمتر وأهمل كل حساب آخر، لأن السيارات كانت مقبلة تتري من الجهة الأخرى، فكانت تعبره واجدة بعد واحدة وهو واقف في مكانه، وحاول أن يرجع فإذا هو قد سد المجاز على من خلفه واستعصى عليه الرجوع، ثم تحول المرور وهو في الانتظار حيث كان، ولو مضى من أول الأمر قدماً لوصل من جانب التطويل قبل أن يصل من جانب الاختصار!
هذا السائق لم يخطئ في مسألة علمية أو مسألة سياسية أو عقدة من عقد البحث والفلسفة، ولكنه أخطأ في العمل الذي يعمله كل يوم وينقطع له دون سائر الأعمال.
ولكنه مع هذا قد يشكو ظلم الأرزاق ويرشح نفشه لمهام الدولة التي يظفر بها المجددون ولا يذوده عنها إلا غفلة الحظوظ. وأنه لمثل واحد من أمثلة خالدة قلما يخلوا منها زمن.
وما أكثر ما ذكرت من هذه الأمثلة وأنا أقرأ في الكتاب قصة الوزير والخادم!
خادم سمعه الملك يوماً يقول: (إن هذا العصر عصر ظالم، فأنا أعمل طول اليوم ثم لا أنقد إلا سبع روبيات في الشهر، والوزير الذي يركب السيارات ويضيع وقته في الكسل يقبض ألفين من الروبيات).
فأمتحنه الملك باستطلاع أمر مسافر قادم على بعد، فذهب مرة ليسأل عن أسم ذلك المسافر، وثانية ليسأل عن إقليمه، وثالثة ليسأل عن المكان الذي قدم منه، ورابعة ليسأل عن الوجهة التي يقصدها، وخامسة ليسأل عن المرحلة التي يقف فيها، وسادسة وسابعة وثامنة وتاسعة ليسأل عن غرضه وعمن يلقاه وعن موعد اللقاء إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يذكرها إلا إذا أمليت عليه
ثم بعث بالوزير مستطلعاً فعاد بالخبر كله في لحظة قصيرة وأجمل ما علم في مقال وجيز. فاستدار الملك إلى خادمه وقال له: (أرأيت أن ما كلفك تسع رحلات مضنية وخمس ساعات قد كلف الوزير نصف ساعة ورحلة واحدة؟ لعلك تتعلم الآن لماذا تقبض سبع روبيات في الشهر ويقبض الوزير ألفين. . .)
ومن السهل أن يقال إن من الوزراء من يخطئ خطأ الخادم ومن الخدم من يصيب إصابة الوزير، ولكن الحقيقة الباقية بعد هذا أن من الناس من يعمل في رحلة واحدة ونصف ساعة ما يعمله غيره في تسع رحلات وخمس ساعات، وإن الظلم كل الظلم أن يتساوى هذا وذاك.
وقد أشتمل الكتاب على نيف ومائة قصة من هذا الطراز، ما أظنها أهملت مسألة عصرية أو خلت إحداها من عبرة سهلة عصية، وكلها زاد قراءة سائغ لمن درس تلك المسائل في مراجعها ولمن يكتفي منها بهذه الأشباه المخيلة والعبر الممثلة، وهم أكثر من الكفاية في بلادنا.
عباس محمود العقاد