الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 384/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 384/رسالة العلم

بتاريخ: 11 - 11 - 1940


قصة الفيتامين

الفيتامين ومرض الأسخربوط

للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي

- 7 -

غالباً ما يكون حلول الربيع مدعاة لبدء الإصابة بمرض الاسخربوط، وذلك عندما تعم الشكوى من الأمراض الناشئة عن تقلبات الجو كالضعف والخمول وفقد شهية الإقبال على العمل وآلام الرأس والشعور بالثقل في الحركة وآلام في الأطراف. ولم يهتد بادئ ذي بدء إلى تعليل هذه الأعراض ومعرفة أسبابها إلا بعد ظهور المعلومات الحديثة عن المواد الحيوية الموجودة ضمن الأغذية والطعام، ولأنه كان غريباً وداعياً إلى الدهشة والتفكير تفشي هذه الأمراض بين الناس في هذا الوقت من كل سنة، وفي الشهور: مارس، أبريل، مايو، التي ترتفع فيها أثمان الخضر الجديدة (حسب المقتضيات الأوربية)، وصدوف سواد الناس عن شراء الخضروات أو إقلالهم من استهلاكها، وبذا تقل طبعاً كمية الفيتامينات اللازمة لحفظ الكيان والصحة

ويعزى (مرض الربيع) هذا إلى نقص في كمية الفيتامين التي تدخل الجسم، يؤيد هذا القول ظاهرتان هامتان أخذتا من الإحصائيات. وأولى هاتين الظاهرتين هو بطء النمو عند الأطفال في هذه الشهور، وطبقاً لما تردد ذكره من ارتباط النمو بالفيتامينات، فقد تبين أنه تبعاً للنقص في تموين الجسم بالفيتامينات في وقت الربيع ينخفض مستوى النمو الجسمي العام، وثانياً ازدياد نسبة الوفيات في شهري مارس وأبريل؛ وهناك مثل ألماني يشير إلى هذا المعنى ويقول: (إذا أخطأ مارس وولى، كان لأبريل القدح المعلى). وإذا ما علمنا أن وجود الفيتامينات في الجسم يدرء عنه العدوى من الأمراض المعدية، ويحصنه ضد كثير غيرها، وأن خلو الجسم منها يجعله أكثر قابلية للرضوخ لكثير من الأذى والعلل - قام هذا دليلاً آخر على الصلة بين التغذية المفتقرة إلى الفيتامينات، وبين الزيادة الظاهرة في أرقام الوفيات. فإذا تم بهذا ولو لحد ما حصر الأسباب الرئيسية التي ترجع إليها أعراض مرض الربيع. أي انخفاض مستوى نمو الأطفال وصعود نسبة الوفيات، فقد بقي سؤال آخر بلا جواب ألا وهو: أي نوع يا ترى يكون مرض نقص الفيتامين هذا الذي يسمى أول أعراضه وأولى صورة بمرض الربيع؟

ضمن أعراض مرض الربيع ظاهرة استعداد لحم الأسنان إلى الإدماء السريع حتى بأقل مجهود يبذل في تنظيفها، وتزداد هذه الظاهرة شدة وخبثاً وتتداعى عندها اللثة كلها إلى الإدماء وقد استعمل قديماً اسم الأسخربوط للتدليل على هذا المرض ولكنه نسخ بعدئذ بالتسمية الصحيحة بمرض نقص الفيتامينات. ويقابل الأسكربوط بالألمانية شاربوك، وهي منقولة عن الهولندية، شار بمعنى فتحة أو ثلمة، بك بمعنى فم، فيكون معنى الكلمتين مجتمعتين الفم الجريح أو الفم الدامي

ولقد كانت صورة المرض قديماً من البشاعة فوق ما يتصوره الإنسان، يدل على هذا البقايا العظيمة للجيوش الرومانية في عهود قياصرة الرومان وفي جيوش المحاربين الصليبين. ويُحدث المؤرخ السويدي أولاوس ماجنوس المولود عام 1490 في كتابه (تاريخ الشعوب الشمالية) بإسهاب عن إصابة رجال السفن الشراعية من رائدي القطب الشمالي من البحاثين وتابعيهم ومن صائدي الحيتان والسمك. كذلك كان ينشب المرض أنيابه على اليابسة بين الناس وقت الحروب والأسر والمجاعات، وبلغ من شدة وطأته أحياناً في العصور الوسطى وفي أزمنة الشدة أن أعتبر في المدن الكبيرة بجانب أمراض التدرن من الأمراض المستعصية التي لا يرجى معها شفاء. كما تخذ في عام 1911 في مدينة نوربنرج بألمانيا شكلاً وبائياً كارثاً إثر نكبة في المحاصيل الزراعية

وأعراض المرض في أواخر الشتاء أو أوائل أيام الربيع على المصابين هي التهاب اللثة وإدماء أغشية الفم المخاطية وإدماء ونزيف من الجلد والأنسجة والعضلات، ثم تثقل حركة الأرجل وتهزل هذه وتصاحبها آلام مبرحة في العضلات، وتفقد الأسنان تماسكها وارتباطها، وتضعف العظام وتصير هشة غضروفية. وإذا استمرت التغذية على ما هي عليه رغم هذه الأعراض فمصير المريض إلى التهلكة لا محالة. ولكنه إذا تنوع الغذاء وتعددت ألوانه وأضيف إليه الخضر واللحم الطازج، ولو بمقدار طفيف، تزول هذه الأعراض كما يزول كيد السحر لم يبق شك بعد هذا في أن مرض الأسكربوط هو مرض غذائي. وفي أثناء الحملة الاستطلاعية التي قام بها شارل الثاني عشر ملك السويد على أراضي أوكرانيا في مستهل القرن الثامن عشر، عالج أطباء حملته مرضى الجنود بالاسكربوط بالحقن بواسطة إبرة من الخشب بمادة أتت بنتائج طيبة مما جعلها تلقى طريقها إلى مستشفيات برلين للعمل بها في علاج الاسكربوط. وقاوم الإيطاليون من قديم الزمن مرض الأسكربوط بعصير العنب، وصرح أحد الأطباء العسكريين النمسويين في عام 1720 بأن عصير البرتقال والليمون أكثر فعلاً في مقاومة الأسكربوط وقد أخذت برأيه حينذاك رياسة البحرية البريطانية واستعملته في عام 1804 فوق سفنها في علاج رجال بحريتها الذين انتشر بينهم هذا المرض الخبيث

ولقد ساعدت هذه المعلومات القديمة حتى حرب سنة 1914 في مقاومة ودفع مرض الأسكربوط بالرغم من وجود بعض الإصابات الشاذة التي لم تنجح مقاومتها. وانتشر المرض في بعض الأقاليم الريفية في روسيا التي تقتات بالحبوب وظهرت أعراض الأسكربوط بانتظام في بعض جهات ألمانيا والنمسا التي كانت تتناول غذائها من الأطعمة المحفوظة كاللحوم والبطاطس والخضر المجففة واللبن المكثف وتفشي كذلك بين الأتراك وأهل رومانيا ووجد مرتعاً خصيباً بين الأسرى الألمانيين والنمسويين الذين وقعوا في أيدي الروس. أما أثره في الكتائب الإنجليزية في العراق فيكفي أن أحصي عدد المرضى بالأسكربوط بأحد عشر ألفاً من الجند. وكذلك انتشر مرض الأسكربوط بين الأطفال في الجهات التي وقع عليها حصار بحري أو أرضي في الحرب الماضية، إذ تبعا لهذا الخناق وانقطاع الصلات عبر البحر أو الأرض لم يكن هناك غير اللبن المعقم للتدوال في إطعام الأطفال، واللبن المعقم تقل حتى تنعدم فيه الفيتامينات، وأخذ المرض في الأطفال شكلاً خاصاً وكان يخطفهم ويلقي بهم في دور الرعاية والمستوصفات حتى امتلأت بهم. وكانت أعراضه عليهم آلاماً حادة في العظام ومبرحة في الأطراف ومضخمة في المفاصل ومصحوبة بإدماء في الفم والجلد والأغشية المخاطية. وأما الظاهرة الهامة فهي الخوف الذي استحوذ على الأطفال من لمس أي شيء عفواً

وإذا ما أضيف إلى الغذاء أنواع أخرى منه غنية بالفيتامين كالإسباناخ مثلاً أو عصيدة البنجر فلابد من أمل في الشفاء في أجل قصير. ويجدر بنا أن نورد هنا ما تصنعه كثير من الفلاحات الأوربيات اللائي لا يعرضن أبنائهن بأنفسهن بحكم الضرورة فهن يضعن بعضاً من البنجر المقشور في زجاجات لبن الأطفال

وحتى مع هذه النتائج والتجارب العديدة لم يتوصل أحد آنئذ إلى الكشف الصحيح أو إلى نتيجة حاسمة شافية تميط اللثام عن هذا المرض العضال الذي أخذ أشكالاً متعددة تارة عند الأطفال وأخرى لدى الكبار، وفي كل يبدأ على هيئة (مرض الربيع) وبين عامي 1907 و1912 توصل بعض العلماء النرويجيين بناء على تجارب غذائية دقيقة إلى إثبات حقيقة مرض الأسكربوط بأنه مرض غذائي. فقد حضروا غذاء خاصا من الشعير واللبن والبرسيم والعلف الجافة خالية من الفيتامين الواقي من الأسكربوط وأطعموا منه عدداً كبيراً من الحيوانات، فما لبثت أن ظهرت عليها أعراض شديدة الشبه بأمراض الأسكربوط لدى الإنسان. وفي هذه الآونة فقط أمكن البحث وراء المواد الشافية التي تحتوي على هذا الفيتامين المضاد للأسكربوط، والذي أطلق عليه فيما بعد الفيتامين كما بدأت المحاولات لمعرفة الكميات اللازمة من هذا الفيتامين التي يجب أن تتوفر في الغذاء كي تقف وتحول دون ظهور أعراض المرض

وبما أن عصيري البرتقال والليمون يعتبران من المواد الشافية الواقية من الأسكربوط، فكان طبيعياً أن يبدأ البحث فيها لاستخلاص الفيتامين، وكان لابد من التغلب على بعض العقبات التي اعترضت مجرى البحث في تحضير هذا الفيتامين في هيئة بلورية نقية ثم الكشف عن تركيبه الكيميائي. ولهذا أبتدأ تاريخ البحث عن الفيتامين أشبه شيء بالقصة، وكان من الأمثلة الحية على تعاون العلماء في مختلف البلاد تعاوناً جدياً للوصول إلى الحقيقة رغم بعض الاقتراحات الخاطئة المخلصة التي كانت تعرقل البحث وتؤخره.

(يتبع)

عبد اللطيف حسن الشامي