الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 383/سيجموند فرويد

مجلة الرسالة/العدد 383/سيجموند فرويد

مجلة الرسالة - العدد 383
سيجموند فرويد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 11 - 1940


العالم النفساني الكبير

للأستاذ صديق شيبوب

- 5 -

حين أربي (فرويد) على السبعين كانت نظرياته في علم النفس قد استحكمت حلقاتها وقامت كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً بعد أن عمل على تشييدها جزءاً فجزءاً، وكان (الجزء يلد من الجزء تباعاً) كما يقول: (ليوناردو فينتشي، وأخذت هذه النظريات تؤثر في كل علم وفن. فهل استراح هذا الشيخ مطمئناً إلى ما قدم من خدمات وما أحرز من نصر؟)

لا شك أنه رأى مجال العمل ذا سعة ولكن أزعجه أنه سوف لا يجد فسحة من الأجل لإتمام ما يبتدئه من بناء للمستقبل. لذلك صار يلقي من الذروة التي تنسم قمتها نظرة شاملة على الماضي على طريقته التحليلية المعهودة، ولكنه بدلاً من أن يعالج الأعصاب والنفس في الفرد، أخذ يعالج العالم ويبحث التاريخ كمجموعة إنسانية فريدة، وبدلاً من أن يوجه أبحاثه شطر المادة أخذ يسوقها ناحية المسائل النظرية بالرغم من أنه كان يأبى هذا التوجيه في شبابه، وهو القائل من قبل: (إني لا أرضى عن تركيب النظريات العامة) فكأنه أراد أن ينتحل لنفسه الأعذار حين قال: (لقد طرأ على أسالبي في العمل تغيير لا أنكر نتائجه. كنت من قبل لا أعرف كيف أحتفظ في نفسي بنظرية أعتقد أنها جديدة وكنت أفضي بها بالرغم من أنه لم تجتمع لدي الأدلة على صحتها. . . لأن الزمان كان منفسحاً أمامي، كان الزمان خضماً واسعاً كما يقول شاعر ظريف. وكانت مواد البحث تتدفق عديدة بحيث أجد من الصعوبة اختيار كل ما بين يدي. أما اليم فقد تغير وضع الأشياء فالزمان محدود الأجل، وفيه من الفراغ ما لا يسده العمل بعد أن تضاءلت ظروف الاختبارات الجديدة. فقد أصبحت لا أجرؤ على الإفضاء بما أكتشفه من جديد مخافة ألا أجد متسعاً من العمر للتدليل عليه. . .)

سلخ (فرويد) خمسين عاماً من حياته لا يقابل فيها غير مرضاه، ولا يعرف من الإنسانية غير أفرادها المصابين التاعسين في غرو إذا نظر إلى الحياة في مجملها نظرة مليئة بالتشاؤم في الكتابين اللذين وضعهما في طور شيخوخته وهما (مستقبل وهم) و (علة المدنية) ولا غرو إذا قرر أن (الحياة عبء ثقيل على الإنسانية جمعاء كما هي على كل فرد)

عرض (فرويد) للإنسانية في عصرنا الحاضر فوجد أنها بلغت من الرقي حداً بعيداً بينما لم يستطع هذا الرقي أن ينيل الفرد السعادة التي يصبو إليها كل إنسان

وللتدليل على هذا استعرض (فرويد) تاريخ العالم منذ الإنسان الأول أي منذ كان الإنسان يجهل القوانين والأخلاق ويبعث كالبهيمة حراً طليقاً من كل قيد. وعندما تألفت الجماعات والقبائل حد هذا التآلف من أطماع الفرد وأهوائه، لأن كل حياة اجتماعية مهما كان شكلها أولياً تحد من حرية الفرد في سبيل إخوانه، فصار لزاماً عليه أن يمتنع عن أشياء كثيرة، فاستحدث الحرام والحلال، ونشأت التقاليد والتواضع والحقوق والواجبات واستتبع هذه جميعها العقاب الذي يقع على من يخالفها

ولم تلبث معرفة الحرام وخوف العقاب، وكانتا ظاهرتين ماديتين، أن نفذتا إلى رأس الفرد وقلبه فاستحدثتا فيهما ما هو أبعد من الذات المادية، أي أنهما أوجدتا فيه الضمير، ونشأت في الوقت نفسه الثقافة العقلية والفكرية والدينية، وأوجدت فكرة الإله القدير العليم يقظة الضمير وكبت الشهوات فتحولت القوى المادية التي كانت تحرك الإنسان الأول إلى قوى عقلية وأخلاقية خالقة وأخذت تسيطر على العالم حتى أخضعت عناصره واستخدمتها في سبيل غايتها

ثم قرر (فرويد) أن الاختراعات والاكتشافات التي قربت الإنسان من درجة الألوهية من حيث الخلق لم توفر للإنسانية أسباب السعادة ولم تدخل الغبطة والسرور عليها. وسبب ذلك أن الثروة الثقافية التي أنتهي إليها الإنسان لم ينلها مجاناً لأن ثمنها الحد من حرية الغرائز. وكل ريح للإنسانية خسارة تلحق بالفرد في أسباب سعادته

تعاودنا في أحلامنا ورغباتنا الغرائز التي أجبرتنا المدنية والأخلاق على كبتها، ولا تزال الذات الأخلاقية تصبو إلى الفوضى والحرية والحيوانية التي كان الإنسان الأول يتمتع بها. فكأننا نفقد من حيويتنا كلما تقدمت المدنية. ويحق لنا إذن أن نتساءل: هل المدنية لم تسط على نفس الفرد، وهل (ذات) المجتمع لم تصب (ذات) الفرد بغبن فاحش؟ فما هو الدواء الذي يصفه (فرويد) لمعالجة العلة التي وصفها؟

إن علم تحليل النفس يقرر نظرياً تفوق العقل الباطن والغرائز على العقل الواعي، ويقرر عملياً أن تغلب العقل الواعي هو الوسيلة الوحيدة لشفاء الإنسان

ترى هل يصف (فرويد) للمجتمع ما قرره من قبل للفرد بعد ان لاحظ ما في قوله من الاختلاف بين النظريات وبين العمليات، وهو الذي قرر بشكل حاسم أن الغرائز حاسم أن الغرائز الهمجية هي التي تسيطر على العقل

كان فرويد قد شهد الحرب الأخيرة، ولاحظ تغلب الغرائز على العقل، فلم يقرر علاجه تقريراً باتاً ولكنه رجا أن تصل إليه اليد الإنسانية بعد ردح من الزمان متعللاً بالأماني فقال: (نستطيع أن نستمر على القول في حق بأن العقل الإنساني ضعيف إذا قيس بالغرائز، ولكن هذا الضعف أمر عجيب. إن صوت العقل خافت ولكنه لا يفتأ يتردد حتى يسمع، والعقل لا أشك واصل إلى غايته في النهاية بالرغم من اندحاره أكثر من مرة، وهي ظاهرة من المسائل النادرة التي تحملنا على التفاؤل في مصير الإنسانية. إن تفوق العقل قائم في منطقة نائية، ولكنها ربما كانت غير بعيدة المنال)

وكان آخر مؤلفات (فرويد) كتابه عن موسى وفكرة التوحيد عند اليهود، وهو الكتاب الذي قرر أن موسى لم يكن من العبريين، وأنه كان مصرياً مستدلاً على ذلك باسمه. إن كلمة (موسى) في رأيه مصرية معناها الطفل أو العبد بدليل أسم الملك (تحوتمس) أو (تحوت موسى) أي عبد (تحوت) فيكون أسم موسى اختزالاً كما نقول بالعربية (عبده) لعبد الله. وقد أطلقت أبنه فرعون عليه هذا الاسم المصري الذي لم يكن معروفاً عند العبرانيين

كان موسى من رجال حاشية الملك إخناتون الذي كان أول من قال بالتوحيد عند قدماء المصريين، وجرى بعد وفاة هذا الملك أن ثار الكهنة واستردوا سلطانهم فتفرق أشياعه، ومنهم موسى الذي هرب من مصر وأخذ معه الإسرائيليين لأنهم كانوا مستعبدين مضطهدين

وقد عرض في كتابه لأدلة عديدة مثل مصرية أسماء اللاوبين الذين يقول إنهم كانوا أشياع موسى، واقتباس العبريين عن المصريين الختان وتابوت العهد وهندسة بيت المقدس إلى غير ذلك مما يطول بنا بيانه.

هذه آثار (فرويد) في العلم والفكر. ولا شك أن أسمه سيظل عالقاً بنظرية العقل الباطن التي أكتشفها والتي جعلته زعيم مذهب تشيع له علماء كثيرون نذكر في طليعتهم (يونج) و (ادلر) اللذين بنيا أبحاثهما على نظرياته ووصلا إلى نتائج تختلف عن نتائجه خصوصاً في تفوق الغريزة الجنسية واللبيد، وقد أرادا بهذه الكلمة الأخيرة معنى آخر غير الذي قرره لها (فرويد)

على أن أثره لم يقتصر على علم النفس وطب الأعصاب بل تعداهما إلى مختلف العلوم والفنون كالتربية (بداجوجيا) ودرس الميثولوجيا والشعر والنقد والفنون الرفيعة

حين قرر فرويد أن الناس قد يتشابهون في أجسامهم ولكن نفس كل فرد كائن قائم في ذاته لا وجه للشبه بينه وبين غيره فتح باباً جديداً، لا في العلم فحسب، بل في فن النقد والقصة وكتابة التراجم، وجعل من بعض العلوم التي كان العلم الحديث يعترها ضرباً من الوهم كقراءة الطالع بواسطة النجوم أو الكف أو الكتابة علماً يقوم على نظريات جديدة لعلها صحيحة

وخلاصة القول أنه مهما اختلف العلماء في الحكم على مذهب الفردية من ناحية العلم والأخلاق فلا سبيل إلى إنكار فضله لأنه أفاد الإنسانية فوائد جمة في مختلف النواحي فسار بها شوطاً بعيداً في التقدم والرقي وساعد على تخفيف ويلاتها وزاد ثروتها العلمية والفنية فاتسعت آفاق البحث وتشعبت أصوله وفروعه.

صديق شيبوب