مجلة الرسالة/العدد 383/البريد الأدبي
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 383 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 04 - 11 - 1940 |
1 - إلى المفكر الكبير الأستاذ خليل مطران
إليك - وأنت مدير الفرقة القومية - أوجه القول:
هل ترى أن الأدب اليوناني القديم يقدم غذاءً نافعاً للعقل العربي الحديث؟
لقد شهدت تُمثيل رواية أوديب على مسرح الأوبرا الملكية فلم أرها إلا حماقة من حماقات الإغريق يوم كانوا يؤمنون بأن الآلهة أقوام مجانين يتصرفون في شؤون الخلق بلا بصيرة ولا خلق ولا رفق ولا ميزان
ومع أن المآسي تثير دموعي فقد أحسست قلبي وهو يتحول إلى جلمود عند شهود هذه المأساة، لأنها لم تكن إلا صورة من سخف الوثنية اليونانية، وهي وثنية عادت على أصحابها بأجزل النفع، لأنها مثلت أهواءهم وأوهامهم أصدق تمثيل، ولكنها لن تنفعنا بشيء، لأنها بلبلة خلقية وذوقية تلحق الضرر البليغ بأذواق الجيل الجديد. وهل هناك لرياضة الجمهور على التحزن والتحسر والتفجع لمصاير مجهولة خلقها الروح الإغريقي ليوهم بني آدم أن لا قدرة لهم على الخير أو الشر وأنهم لم يخلقوا إلا ليكونوا ألعوبة في أيدي المقادير الهوجاء؟
أنا أفهم أن تترجم أمثال هذه الروايات إلى اللغة العربية لتعين على تصور بعض ما مر بالإنسانية من أوهام وأضاليل، ولكني لا أفهم كيف يتخذ من أمثال هذه الروايات نماذج لروعة الفن، ونفاذ الفكر، ورجاجة العقل؛ وهي قد نشأت في أحضان الطفولة البشرية يوم كان الملوك والوزراء والحكام عبيداً مسخرين لسدنة الهياكل الوثنية، ويوم كانت مصاير الأحكام إلى من يحسنون الرجم بالغيب من الكهنة والعرافين
قد يقال إن في مصر رجلاً أسمه الدكتور طه حسين، وأن هذا الرجل يُقسم بأبوللون أن الفن لفي خُسر إن لم يفلح بأدب الإغريق القدماء
ولكن هذا الرجل لا يزعم ولا يستطيع أن يزعم أن الرأي ما يرى، وأن القول ما يقول، ففي مصر رجال يملكون رجعة إلى الصواب بلا مشقة ولا عناء، وسيرى ما يسره إن هم ينقض هذا الاعتراض، ولكنه لن يفعل لأن كهنة دِلْف أنبئوه أن خير ما يجاب به على اعتراضات زكي مبارك هو الصمت البليغ! للأستاذ خليل مطران أن يتفضل بالإجابة عن هذا السؤال:
هل استطاعت مأساة أوديب أن تصور مشكلة واحدة من مشكلات العدل والعقل والذوق؟
وكيف ولم تكن تلك المأساة إلا صورة بهلوانية من صور الوثنية اليونانية؟
كانت هذه المأساة مقبولة يوم كان الناس يتذوقون عبث الأساطير، وهي قد تقبل في مدينة روما أو باريس، حيث يطيب للناس أن يتلهوا بخرافات الوثنية بعد أن شبعوا من أطايب الأدب الحديث، وهو عندهم يقوم على نقد خلائق المجتمع بنزاهة وصدق
فهل الحال في القاهرة كالحال في روما وباريس؟ وهل تظن أن الفرقة القومية فرغت من تشجيع الروايات الاجتماعية والتاريخية التي تصور حاضرنا وماضينا، ولم يبق إلا أن تتحفنا بخرافات اليونان؟
الآن تذكرت ما كنت نسيت توجيهه إليك، فقد كنت أحب أن أسأل عما صنعت وصنع زملاؤك في الانتفاع بما في مصر من مواهب وآراء؛ وقد صح عندي أنكم ورجال الإذاعة سواء، فانتم جميعاً لا تعرفون غير من يتعرف إليكم، ولا تذكرون إلا من يذكركم بنفسه، وليست عندكم طريق مرسومة لاستثمار المواهب المكنونة في هذه البلاد. أليس من العجيب أن يكون في زادكم الفني روايات بالية لا ينتظر من بعثها غير إعلان الفاقة والإملاق؟
والآن عرفت ما لم أكن أعرف، فقد تعب المفكرون في البحث عن السبب الذي استوجب أن يهتم العرب بنقل ما عند اليونان من فلسفة وأن يزهدوا في نقل ما عندهم من آداب
أهتم العرب بنقل فلسفة اليونان لأنها وليدة العقل، وزهدوا في آداب اليونان لأنها بهلوانية، تقوم على قواعد واهية من الزخرف والبريق
فهل يظن الأستاذ خليل مطران أنه أعقل من أئمة العقل لعهد ازدهار الحضارة العربية؟
وخلاصة القول أن الفرقة القومية في حاجة إلى العلاج وهي لن تعافى من أدوائها المزمنة إلا بعناية أطباء بارعين لا يكون منهم فلان وفلان وفلان، فللفن والأدب أصول لا يعرفها هؤلاء
فإن لم أكن على حق فحدثوني كيف جاز أن تنفرد الفرقة القومية بالإخفاق وقد جمعت نوابغ الممثلين والممثلات؟ يعوزكم شيء واحد: هو التأليف. فابحثوا عن المؤلفين، لأن التأليف هو الروح، وكل شيء في الفن ما خلا التأليف إخراج وتمثيل.
2 - مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
ذلك مشروع جميل أقرته وزارة المعارف ودعت إليه، وهو حين يحقق على الوجه المنشود يجذب الطلبة إلى مسايرة الأدب الحديث، ويغرس فيهم الشوق إلى تعقب الآراء الأدبية والمذاهب الاجتماعية.
ولكني لاحظت مع الأسف أن أكثر الطلبة انصرفوا عن الانتفاع بهذا المشروع بعد أن أقبلوا عليه. وقد أخبرني كثير من المدرسين أن طلبة السنة التوجيهية لم يعرفوا كيف يدرسون المؤلفات المختارة للمسابقة. وأن المدرسين أنفسهم لا يعرفون على وجه التحقيق كيف يوجهون تلاميذهم إلى درس تلك المؤلفات، لأن الوزارة لم تضع منهاجاً واضحاً للاستفادة من هذا المشروع الطريف
وقد دعتني الرغبة في معاونة طلبة السنة التوجيهية على الاستفادة من مسابقة الجامعة المصرية إلى درس تلك المؤلفات على صفحات (الرسالة) درساً تحليلياً يستطيعون به الوصول إلى ما تشتمل عليه من مقاصد وأغراض، بحيث يصبح الانتفاع من المسابقة ميسوراً لكل طالب يُقبل على درس تلك المؤلفات بعناية واهتمام وقد وضح أمامه منهج الفهم والاستقصاء
وسنبدأ في الأسبوع المقبل بتحليل كتاب (فيض الخاطر) للأستاذ أحمد أمين، والله بالتوفيق كفيل
زكي مبارك
معنى القديد
وفق الأستاذ محمد فخر الدين السبكي في حديثه عن (زيارة الرسول ﷺ) الذي أذيع من محطة الإذاعة مساء 21 رمضان - توفيقاً كبيراً
بيد أنه فسر (القديد) - في قول الرسول (ص) للأعرابي حينما دخل عليه فارتاع من هيبته: (خفض عليك فإنما أنا أبن امرأة تأكل القديد بمكة) - تفسيراً لم أسمعه قط.
إذ قال: أي أنا أبن امرأة تأكل التمر الجاف!
والذي أعرفه في كتب اللغة، وفي كتب اللغة، وفي كتب السيرة أن القديد (هو اللحم المشرر المقدد، أو ما قطع منه طوالاً). اهـ قاموس
(لحم قديد: مشرح طولاً) اهـ مصباح (هو اللحم. المجفف، فعيل بمعنى المفعول تنبيهاً له على أنه مأكول المساكين) اهـ شرح الشقا، للفاضل علي القارئ
لهذا لزم التنبيه على ذلك في الرسالة الغراء والسلام عليكم ورحمة الله
عبد الحفيظ أبو السعود
حول تفسير بيتي أبن عربي
كتب إلى أديب من القاهرة في رسالة خاصة بشرح لي معنى بيتي أبن عربي اللذين استفتيت فيهما الأستاذ ناجي الطنطاوي على صفحات مجلة الرسالة وهما:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل منه حالاً ... فإن الشمس ليس لها غروب
فجاء في رسالته هذه ما نصه (إن ابن العربي يعارض الآية القرآنية (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، ويدعى أن الله ليس حتماً أن يذكر لأنه حال فينا (كشمس ليس لها غروب) فالذكر في شرع أبن العربي يبعد بنا عن هذه الشمس، أما الذي يقربنا منها فشيء آخر يسأل عنه هو ومن أتبعه من المتصوفة لا ناجي الطنطاوي)
وقد رأيت في هذا الشرح ما تطمئن إليه النفس نوعاً ما فأحببت أن تتفضل مجلة الرسالة الكريمة وتسجله على صفحاتها فلعل من قرائها من ينتظره.
(الأبيض - سودان)
وجاءنا من صاحب الإمضاء الفاضل هذه الكلمة في هذا الموضوع:
عرفت رجلاً صوفياً وسمعت منه شرح هذين البيتين، وقال: (بذكر الله تزداد الذنوب الخ). في مذهب القوم، إنما يذكر الغائب، والله تعالى حاضر لا يغيب، وخاصة في مقام المشاهدة. فكيف يذكر؟ إن ذكره حينئذ يدل على بعد عن ذاته وجلاله. والبعد حرمان يدل على كثرة الذنوب والعيوب. والبعد عن الذات طمس في البصائر وظلمات في القلوب
وترك الذكر أفضل كل شيء ... فشمس الذات ليس لها غروب
هكذا رويت عنه. وهو وجيه في نظري وخاصة لما تضمنه الشطر الثاني من تعليل طريف. قال: إذا أستغرق العبد من مقام الشهود، وبت أسبابه بالعالم وما فيه من مخلوقات بائدة ليس لها وجود. فلا داعي للذكر حينئذ، لأنه في حال دونها كل ذكر. وكيف يذكر من يراه ومن لا يغيب عنه طرفة عين؟ لا. إن شمس الذات العلية مشرقة لا تغيب، وضاءة لا تحتجب، فذكر الله يدل على غيبته، وهو سبحانه حاضر مشاهد لا يفنى، وهو معكم أينما كنتم. اهـ باختصار.
وحديث القوم لا يفهمه غيرهم لأن لهم رموزاً تدق على الإفهام
محمود محمد بكر هلال
الأدب والانتحار
منذ شهرين أنتحر الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم بأن ألقى بنفسه في أليم ليذيب فيه أحزانه ويدفن أحلامه. وأختار الأستاذ الموت على هذه الصورة ليروي ظمأه ويطفي حرارته
وفي هذا الأسبوع انتحر الأستاذ فخري أبو السعود بأن أطلق على رأسه الرصاص
والأستاذ أبو السعود ليس غريباً عن قراء الرسالة فقد ساهم في تحريرها عدة أعوام
فهل كان اتفاقاً أن ينتحر أديبان لهما قيمتها في المحيط الأدبي؟
أم هي مصادفة ألقت بها المقادير في هذه الأيام التي كثرت فيها العجائب وطغى الشر
وأين أثر البحر الذي يشيد به الدكتور زكي مبارك في أعصاب هذين الأديبين
الواقع أن الأديب رجل مرهف الحس شديد التأثر، له من المنى ما أخفق فيه وما تحقق، وحتى هؤلاء الذين ظفروا ببعض الأماني يشعرون بالغبن ويحسون بالنقص
فلن تكن مصادفة أن ينتحر أديبان في مدة وجيزة وفي بلد واحد هو الإسكندرية
وإنما هو الألم. . . ولعل الأدباء يفكرون في علاج هذه الظاهرة قبل أن تجر عليهم الفناء
رحم الله الأستاذ فخري وأجزل لأدهم الثواب
عبد العزيز سالم
الحرب والشعر
تفضل الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد فأتحف قراء (الرسالة) ببحثه التحليلي الممتع في العدد الماضي، وقد قرر فيه أن الحروب لا تشحذ ملكات الشعر، لأن الشعر فردي، وإن ما يروج في أيام الحروب هو الأغاني والأناشيد، فإن حكمها حكم الخطابة، لأنها تتردد بين الجماهير في الاجتماعات، ثم قال أستاذنا الجليل إن الملاحم في الأمم البائدة ليست هي التي شحذت تلك الأفكار التي نتج عنها تلك المنظومات الشعرية).
فهل يسمح الأستاذ الجليل أن أقول: كيف لا تكون الحروب شاحذة للملكات الشعرية في حين أن أستاذنا نفسه استشهد في ثنايا مقاله شعرية رائعة لشاعر إنجليزي، لو لم تكن الحرب لظل مغموراً في مهنته الطبية؟ فإذا كانت الحروب تخلق من الطبيب شاعراً، فكيف بالشاعر المطبوع؟
وهل يتفضل أستاذنا الجليل ويزيد الموضوع إيضاحاً في منظومات الملاحم؟ ولماذا لا تكون دليلاً على أن الحروب تشحذ ملكات الشعر في حين أنه لو لم تكن الحروب لما كانت تلك المنظومات؟
أجل، إن الشعر ينزر في أيام الحروب، ولعل السر في ذلك (ورأي أستاذنا القول الفصل) أن الأمم في أيام ثوراتها وحروبها تكون منهمكة بشئونها ما بين حاضرها ومستقبلها، ومضطربة الخواطر، جياشة بمختلف الأحاسيس، ليس لديها الصبر الكافي لقراءة الشعر والتروية فيه، فالخطيب يستهويها لأنه يستطيع أن يتخذ من الحوادث اليومية مجالاً لقوله وجلجلته، فهو لا يحتاج إلى ساعات يزور فيها خطبة، بل تأتيه الجمل عفو الخاطر، وقد تكون في أسلوبها عادية، ولكن موقفه الحماسي يجعل لها شأناً آخر، أما الشاعر فلابد له من سويعات يجمع أشتات فكره، ثم يدبج ببراعته صيحاته، فإن كان شاعراً حقاً عبقرياً استطاع أن يغتصب منبر الخطيب ويستأثر بالجماهير لترديد شعره وقراءته، كالشاعر الإنجليزي (كبلنج)، وإلا فهو بالطبع سيمنى بالفشل، ولعل هذا هو السر في أنه لا ينزل إلى ميدان الشعر في أيام الحروب إلا من وثق من نفسه أنه يستطيع بإلهامه وجودة شعره أن يستأثر بقلوب الجماهير ويحملهم على قراءة شعره
إذاً، فالحرب تشحذ ملكات الشعر وتجودها، غير أنها تمتاز بأنه لا يقوى على الظهور فيها والشيوع إلا الشعر العبقري الحق فحسب، وأنا في انتظار رأي الأستاذ الجليل والسلام
يحيى زيارة
عضو البعثة اليمانية