الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 382/من رسائل الصيف

مجلة الرسالة/العدد 382/من رسائل الصيف

بتاريخ: 28 - 10 - 1940


النيل المنتصر

للأستاذ عبد الحميد يونس

أخي إبراهيم:

. . . وشاءت الأقدار أن تحول بيننا وبين اللقاء فوق تلك الصخرة الناتئة في البحر عند سيدي بشر، التي يعرفها الناس باسم صخرة (بئر مسعود). . . وكنا قد تعودنا اللقاء عندها كل صيف، ولعلك لم تنس بعد ما كان لنا هناك من مجلس وما دار بيننا من حديث

ألم يكن يهولنا البحر الذي رأيناه كائناً حياً يفيض بالمشاعر ويزخر بالأحاسيس؟ أما عجبنا من بغضه للقراءة وعداوته للأوراق مما يحجب الإنسان عن الاتصال به والغناء فيه؟ وكم من مرة اختطفت نسائمه، وما عرف عنها من فضول، الصحف من أيدينا، فما رددنا ذلك - لفرط افتتاننا به وقتذاك - إلى الجهل، وإنما رددناه إلى اختلافنا وهذا البحر في النظرة والاتجاه، فنحن قد عكفنا على القراءة عكوفنا على لفائف التبغ إنفاقاً لجهد محتبس وتزجيه لفراغ طويل، وفراراً من العقل والقلب جميعاً!

ألم نكن نأخذ على هذا البحر ولوعه بالجمال وكلفه بالحسن، لا يبالي في ذلك احتشاماً ولا يحفل بتقليد؟ ألم ننتقد فيه تلك الإباحية التي تدفعه إلى إيثار العري أو ما يشبه العري، ولا نأبه لدفاعه على ألسنة أمواجه المدمدمة ورياحه المصفقة، بأن التخفي والتستر ضرب من النفاق يجب أن يزول؟

ألم تكن تلمح فيه بنوع خاص عزوفه عن تكلف الزينة التي أصبح الناس يحذقونها إلى حد جعل السواد الأعظم منهم لا يفرق بين الطبيعة والصناعة في قليل أو كثير، بل حتى وأصبح الفن لوناً من التزييف المحكم الدقيق؟

ألم نلاحظ في ذوق هذا الهمجي توحيده بين الجمال والقوة، أو على الأقل تقريبه بينهما، ثم تفرقته بين الجمال والجنس حتى لكأنه يوناني النزعة في تفضيل الذكور على الإناث في النوع الإنساني. . .؟

لقد سرنا أيها الصديق شوطاً بعيداً في محاولة الكشف عن شخصية هذا الكائن المهوب ودراسة نوازعه ومعرفة أهوائه. ومن يدري فربما كنا نكسب عليه شعاعاً من نفوسنا نحن، ونلقي عليه قبساً من نوازعنا نحن، وأهوائنا نحن؛ والإنسان يضفيُ من مشاعره على كل ما يحيط به، ينطق الصخور الصم الجلاميد بالشعر، ويرسل الحكمة على الألسنة الرياح المختلطة الأصداء والنغم. . . وإلا فكيف غاب عنا ما في هذا البحر من غدر وبطش وفتون؟. . .

واليوم لا مجلس لنا عند تلك الصخرة العاتية، ولا سمر ولا حديث! أين المظلة المنعزلة عن أخواتها لأن أصحابها زعموا لأنفسهم أنهم أكثر اتصالا في الطبيعة وأقوى شعوراً بالجمال؟ وأين جنيات البحر اللاتي لم يكن يراهن سوانا ونحن ينشرن أجنحتهن على صفحة الماء بالألوان السبعة التي تتفرق وتتداخل حتى يرد عنها البصر وهو حسير؟ أين بنات (ليليت) وهن يرقصن في نشوة وجنون على موسيقى الأمواج والرياح الزاعقة؟ أين. . . أين؟

ولست أدري ماذا فعلت أنت في هذا الصيف. أما أنا فقد أستعظت عن البحر بالنيل، ولم يكن مجلسي منه على صخرة ناتئة صلبة إسفنجية السطح كصخرة بئر مسعود، وإنما كان حيث ما يلذ لي أن أجلس على شاطئه السخي الحنون. وما من مرةٍ خلوت إليه إلا ذكرتك. ترى لو كنت معي في هذه اللحظات التي لا تقاس بالأعمار، أكنت تشاركني في الإعجاب به؟. . أنه أسمر الطلعة، ولكنه واضح الجبين، تلتقي فيه الحكمة والشعر. أنه لا يحس الجمال فحسب، ولكنه يخلقه خلقاً ويبدعه إبداعا؛ ثم هو لفرط شعوره بالقدرة يعبد خالق القدرة وينفق جانباً كبيراً من وقته في التسبيح والترتيل والصلاة!

في كل بقعة من واديه حياة، وفي كل ناحية من أنحائه حب، وفي كل ركن من أركانه معبد للجميل الذي يحب الجمال. . .

ولا عيب فيه إلا حلاوة في طبعه، ودماثة في خلقه، ورحابة في صدره، يراها الأغرار مظهراً من مظاهر ضعفه مع أنها سمة من سمات قوته، وشارة من شارات اعتزازه بنفسه صيانة لها عن إدعاء القوة في معترك لا شبيه له فيه ولا قريب. . .

النيل يبذل في غير تبذير، ويأخذ في غير اغتصاب دائم الصداقة، دائم الإحسان، معتدل في حالتيه بين البسط والقبض، لا تهاون فيه ولا غفلة ولا طيش. . .

النيل خلاق ولود فيه من الأبوة ميل إلى البناء والتعمير واختزان التجاريب على الأيام والعصور. . .

أتذكر أيها الصديق كتاب طبقات الأرض الذي شقينا بدراسته أيام الحداثة والذي كنا نعتبره إذ ذاك أنجع دواء للأرق! أنت تذكره ولا شك، ولكنك لن تصدق أنني مشوق إلى قراءته من جديد! أنه الكتاب الذي فتح عيني على سر العظمة في هذا الملك العظيم. . . ألم تقرأ فيه أن البحر كان يبسط سلطانه القاهر إلى الصعيد؟ فمن الذي رده إلى حيث هو اليوم، ومن الذي سيرده إلى أبعد من هذا غداً؟

قل لهؤلاء الذين ظنوا به الهرم: لقد جهلتم طبيعته واستخفكم هدوءه. . . إنه يحتمل ويحتمل، ولكنه لا يصبر طويلاً على الأذى. إنه يأخذ من الجبل الأشم ويبسط جناحيه على الصحراء الجافية ويطأ البحر بقدميه الثابتتين في أناة وبطؤ وعزم!

قد يستعدي البحر قبضات من رمال الصحراء عليه تستدرجها أمواجه ثم تقذفها عليه، وقد يرسل البحر رياحه تدفع الكثبان للإغارة عليه، ولكنه يهضمها فيما يهضم ويحيلها مادة من مواده وكتيبة من كتائبه، وما أندر ما عسر هضمه على معدته القوية الجبارة، إنه يلفظه إلى حيث لا يمكن أن يعود

تعال أيها الصديق أنظر إلى عرائس حقوله بعيونهن العسلية التي تفيض بالوداعة والبشر والإيناس. إنهن يتحدثن في همس، ويتحركن في لين وخفة، يزيد شغفك بهن كلما سترن محاسبتهن تحت الشفوف ذوات الألوان الثابتة، وإذا رقصن أعدن عليك مشاهد الصلاة القديمة التي كان يمتزج فيها الفن بالعبادة

فتننا البحر كما فتن غيرنا لأن الإنسان يكلف بما ليس في طبيعته. إننا ذرات صغيرة من هذا النيل، وأنا في هذه الأيام السود أشعر بقوة هذا الامتزاج حتى لكان هذا النيل يسعى على قدمين

إنه يتأهب لوقعة حاسمة سينتصر فيها كما أنتصر دائماً، ولن يبذل في سبيل ذلك إلا ذرات صغيرة، وأن تكن عزيزة عليه، وما أسعدني يوم يضمني إليها حين يدعو إلى التضحية والفداء

(طبق الأصل)

(حمدي)