مجلة الرسالة/العدد 382/رسالة العلم
→ موعد الشروق | مجلة الرسالة - العدد 382 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 28 - 10 - 1940 |
قصة الفيتامين
الفيتامين المانع لمرض البلاجرا
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 6 -
يفشو المرض المعروف بالبلاجرا في الطبقات الفقيرة في البلاد التي تقوم فيها الذرة المقام الأساسي في التغذية. وأعراض الإصابة بهذا المرض ظهور قروح وطفح جلدي على الأجزاء والأطراف من الجسم المعرضة للشمس (العارية) وتسميته الإيطالية بالبلاجرا يقابلها بالعربية الجلد الخشن. ويوجد هذا المرض كذلك في أوربا الوسطى والجنوبية وفي بلاد البترول، ويكثر انتشاره في شمال إيطاليا وجنوب فرنسا وإسبانيا والبرتغال وفي بلاد البلقان وشمال أفريقية وظهر أخيراً في الأمريكتين. ويشهد على خطورة الإصابة به أن 1535 شخصاً ماتوا بالبلاجرا في سنة 1915 بأمريكا الشمالية في ولاية مسيسبي. وفي السنوات الأخيرة أصيب به في أمريكا الشمالية ما يقرب من نصف مليون من السكان مات منهم ما يزيد على خمسين ألفاً. وتبدأ الإصابة به غالباً في فصل الربيع بأعراض مرضية عامة يتبعها اضطراب جلدي فوق الأعضاء الجسمية العارية. فعلى الوجه والرقبة واليدين يظهر على شكل طفح دميم قد يكسو اليدين تماماً كما يكسوها القفاز. ويصحب هذا آلام حادة في الرأس والأطراف والظهر وضعف عام وخمول ثم اختلال في الجهاز الهضمي يعقبه اضطراب عصبي يكون نذيراً بالاضمحلال الجسماني والهلاك. وقد يقدر الجسم عند الإصابة على المقاومة ردحاً طويلاً من الزمن يمتد إلى عشر أو خمس عشرة سنة، كما أنه لا يقاوم أكثر من أسابيع قليلة يضني ويهلك بعدها سريعاً
ولقد كثرت الأقاويل قديماً حول أسباب البلاجرا. فكما أعتقد خطأ زمناً طويلاً عزو مرض البري بري إلى العدوى عن طريق مُسببات دقيقة حية - ظُنَّ ثانياً يالبلاجرا. بيد أنه ظهر بعدئذ ما ينقض هذا الزعم الخاطئ. إذ كيف لا ينتقل المرض وتقع العدوى مثلاً من المرضع المريضة بالبلاجرا إلى رضيعها. زد حقيقة ثابتة أخرى وهي انتشار مرض البلاجرا في الأوساط الفقيرة فقط في البلدان التي تعتمد في غذائها على الذرة اعتماداً كلياً فاستنتج من هذا ارتباط مرض البري برى بالتغذية. وذهب بعض الباحثين في استنتاجهم إلى وجود مواد سامة في حبوب الذرة التي تكون قد أصابها الفساد والعطب من جراء التخزين. وأكتسب هذا الاستنتاج بعض الأهمية والسند من الحالة الاقتصادية الرديئة التي عليها الطبقات الزارعة الفقيرة التي ترغمها هذه الحالة إلى حصاد الذرة مبكرة قبل تمام نضجها ثم تخزينها رطبة تخزيناً غير صالح يضر الحبوب ويفسدها
ومما قوى الزعم في اتصال البلاجرا بالذرة أنه في مدينة ترنتينو بإيطاليا حيث تنتشر البلاجرا، أخذت الإصابة في نقص تدريجي أثناء حرب 1914 - 1918 بسبب هبوط عام في محصول الذرة؛ مما أضطر القوم إلى الالتجاء لأنواع أخرى من الغذاء غير الذرة ولكن الحقيقة التي لا جدال فيها، والتي يؤيدها العلم الحديث - كما ثبت كذلك في حالة البري بري - هي أن مرض البلاجرا. لا يرجع إلى وجود مادة ما في الذرة، ولكن يرجع إلى شيء ينقصها ولا يوجد فيها، وينشأ عند غيابه ظهور أعراض البلاجرا. وتعليلاً لهذه الصلة الوثيقة التي تربط مرض البلاجرا كنتيجة للتغذية بالذرة، نجد الذرة نفسها لا تحتوي على كميات ملحوظة من الفيتامين زد على ذلك افتقارها إلى المواد الزلالية. عاملان أو مادتان لابد عند نقصهما في الغذاء العام من رضوخ الجسم إلى تجارب واضطرابات غذائية قاسية، ولكنه يجب، مع ذلك أن تظهر البلاجرا في حالة أية تغذية أخرى لا تحتوي على الفيتامين ولا تدخلها الذرة بتاتاً وهذا ما حصل وشوهد أخيراً في المناطق الصناعية الأوربية التي يسودها عدم كمال التغذية ووفرتها ففي بعض البلاد السويسرية وفي برلين وفينا وبرسلاو وهامبرج أصيب بعض ساكنيها بالبلاجرا ولو لم يقربوا الذرة بتاتاً إلى مآكلهم وأفواههم
ومما دعم القول بأن مرض البلاجرا هو نتيجة لنقص الفيتامين وبدون سابق أية تغذية بالذرة - النتائج الأكيدة التي حصل عليها عند إجراء تجارب غذائية على القردة والكلاب والفيران فهذه أصيبت بأعراض مرضية شديدة الشبه بأعراض البلاجرا لدى الإنسان وذلك بإطعامها غذاء نزع منه الفيتامين كلية. ولقد توصل العلم إلى الكشف عن الفيتامين إلى درجة مرضية كما أمكن تحضير بلورات صغيرة منه من الخميرة وهو فيتامين يقاوم الحرارة ويذوب في الماء ويتأثر بالأشعة فوق البنفسجية، وفي حالته النقية الدقيقة يمثل مادة ملونة صفراء تشبه المادة المعروفة باللاكتوفلافين التي تحضر من اللبن (لبن , أصفر ولقد حضر هذا الفيتامين على هيئة بلورات في مجمع القيصر ولهلم الطبي في مدينة هايدلبرج في ألمانيا باستخدام خمسين ألف لتر من اللبن. وكانت كميات ضئيلة من بلوراته لا تزيد على ثلاثة أجزاء من المليون من الجرام كافية لانتظام واطراد النمو في الفيران، ولكن حدث بعد أن انتزعت المادة الملونة الصفراء منه أن قل ووقف تأثيره في اطراد نمو الفيران، وبهذا أخذ قديماً في تسمية الفيتامين بفيتامين النمو، ولكن نسخت هذه التسمية فيما بعد عندما ثبت أن كل نقص في أي فيتامين يكون مدعاة لتأخير النمو الجسماني العام
والمهام الملقاة على عاتقه عديدة وذات أهمية كبيرة. فبتعاون هذه المادة الملونة الصفراء مع مركبات عضوية أخرى عويصة هي الأنزيمات تكسبه تأثيراً ومفعولاً في دورة الأوكسجين عند عملية الاحتراق في الخلية أي في النفس الخلوي وكذلك في حالة تحليل الكربوهيدرات التي يساهم فيها بقسط وافر. ويلعب كذلك دوراً هاماً في تكوين الكرات الدموية الحمراء، تساعده في إتمام هذه العملية مواد يفرزها الجسم هي الهرمونات الموجودة في العصير المعدي التي تساهم بدورها في تكوين الدم، ولذا يعزى فقر الدم أو عدم القدرة على تكوين كرات حمراء جديدة لسببين أولهما نقص الفيتامين والثاني غياب الهرمونات في العصير المعدي. ويأخذ العلم الحديث اليوم بأن فقر الدم البسيط يرجع إلى عدم وجود الفيتامين في حين أن الأنيميا الخبيثة أي الضعف الدموي الحاد الذي كان يعتبر إلى ومن غير بعيد من الأمور المستعصية العلاج، ترجع إلى غياب الهرمونات المكونة للدم عن العصير المعدي، وكم أفادت هذه المعلومات الحديثة الطب العلاجي فائدة جليلة الشأن
ولقد كشف لنا ظهور الفيتامين في هذا الميدان عن تأثيرات متداخلة جليلة الشأن والأثر لقوى عاملة. مادتان مؤثرتان يفرزهما الجسم تستأثران بمهام حيوية خطيرة لا تقومان بواجبهما على الوجه الأكمل حتى تظهر دعامة ثالثة لهما تكسبان بظهورها وحلولها قوة ذات حول وطول كما تكسب المواد القابلة للاشتعال زيادة قوة على الاشتعال بحلول الأوكسجين مثلاً ولا يقدر الجسم وحده على تكوين هذه القوة الثالثة حتى مع ضآلة جرمها وصغر الكمية التي يحتاج إليها، ولابد له من الحصول عليها إما من النبات والخضراوات أو من لحم الحيوانات الآكلة للخضر والعشب وذلك في صورة مادة ملونة صفراء مشعة. فإذا تم الحصول على هذه القوة الثالثة اتحدت هذه الأخيرة مع الأخرى الموجودة في بطن الإنسان، تارة للمساهمة في عملية الاحتراق والتنفس الخلوي وتارة أخرى تتعاونان معاً على تنبيه النخاع الشوكي ودفعه إلى تكوين الكرات الحمراء الوسيطة في تبادل الغاز
وقد قامت الطبيعة بتخزين كميات وفيرة من هذه المادة الحيوية التي بدونها لا تقوى الخلية الحيوانية على القيام بعملها. وكما سبق القول بأن الفيتامين المضاد للبلاجرا يوجد غالباً بصحبة الفيتامين المضاد للبرى برى؛ فالمصادر الرئيسية التي يوجدان بها هي: الخميرة، واللحم الطازج، والكبد، والأعضاء الفارزة الأخرى، والحبوب، وفي كثير من الخضر والفواكه، وفي اللبن وفي زلال البيض. ويكونان في أغلب الأحايين بنسب متساوية، مع ملاحظة أرجحية وجود الفيتامين في الخضر والحبوب ومنتجاتها وأغلبية وجود الفيتامين في المواد اللحمية (اللحوم)؛ ومن الصعب جداً فصل تأثيريهما مع ضرورة وجودهما لحفظ الإنسان، وتبعاً لتلازمهما فقد صح حصرهما تحت التسمية الجامعة فيتامين
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي