مجلة الرسالة/العدد 381/عراك في غير معترك
→ محاورة أفلاطون الخيالية | مجلة الرسالة - العدد 381 عراك في غير معترك [[مؤلف:|]] |
نفثات ← |
بتاريخ: 21 - 10 - 1940 |
وحكايات أخرى. . .
للأستاذ محمد متولي
ذات صيف، إذ كنت صبياً في المدرسة الابتدائية، وكنت في الريف أقضي عطلتي، صادفت الليلة الختامية للاحتفال بمولد أحد الأولياء هناك، وذهبت أجوس خلال حلقات الذكر ليلتئذ، فإذا (مجذوب) ناحل هزيل، مأخوذ بشعور ما، يهذي بما هو أشبه بالدمدمة أو (الهلضمة) منه إلى الكلام الواضح المفهوم، بينما وقف بجانبه فتى شاب يصلح من شأنه وهو يقول له: (وحّد الله وحد الله. . .) ودفعني فضول المعرفة فرفعت قامتي القصيرة إلى الفتى وسألته: (الراجل دا بيقول إيه؟) فأجابني في ابتسام وإشفاق أنه يتكلم (اللاوندي)
ولقد كنت أنتظر من صديقي الأستاذ زكي طليمات، بعد أن لفته في مقالي السابق إلى وجوب (موضوعية) كلامنا، كنت أنتظر من هذا الصديق أن يكون أكثر لباقة فلا يدفعه الدكتور بشر في المزالق فيندفع وينزلق ويتورط في مسائل علمية وفنية، ويشط بعيداً، ويجيئنا بحكايات متناثرة متنافرة مشحونة بالزيف والبهرج، حتى لقد غُمض فحسبته، أول الأمر، يقصد بألفاظه إلى رموز خاصة بنفسه، كما في الصوفية؛ وصخب فخلته يتكلم ذلك (اللاوندي) الذي سمعت في حلقة الذكر منذ ربع قرن من الزمان، وجئت أردد له قول صاحبي الريفي: (وحد الله. . . وحد الله. . .)
كان العراك بين جبهتي بشر فارس والشاعر علي محمود طه في غير معترك، ولكن الأستاذ زكي لم ير هذا، لأنه لم يتفق معنا على أن (النقد الفني) يجب أن يقتصر على تبيين قيمة (الصورة) التي يقدمها الفنان كإبداع له وحدته، بخلاف ما كان بين الجبهتين من خلط وتنابذ واتهام. إنما يتصور الأستاذ أني قصدت بتقريري أن (العراك كان في غير معترك) كون رواية (مفرق الطريق) تافهة ممسوخة، وأنا لم أرد غير ما رأيته من ضلال الجماعتين (أصول النقد) فليس ذنبي أن قصر فهم صديقي دون إدراك غرضي في تلك العبارة، وهو قريب بيّن
وأحببت أن يكون العراك في معترك، فبينت أن رواية بشر ليست من الرمزية في شيء، كما دللت على أن الدكتور المؤلف لا يفرق بين (رموز الصوفية) و (رموز الفن)، مع أنه عمليتان تختلفان (سيكلوجياً)؛ ولكن بشراً وزكياً عقدا جلستهما وقررا كتابة الرد على هذا الرأي، ولعل لذة المعرفة فاتتهما، أو لعل غريزة (حب الغلبة) غلبتهما فحجبت جمال المعرفة عن بصيرتيهما، فنسيا موضوع الكلام وراحا يتفلسفان ويتعالمان!
وحدّ الموضوع كما قلنا - وكما يقرر (ريبو) - هو أن الرمزية في الفن (تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً. . . فإذا الناس والأشياء تمر دون أن تنطبع بزمان أو مكان، ولكنها تمضي وما ندري أين حصلت ولا متى؛ فلا هي (تمت) بصلة لأي بلد، ولا هي تمثل عصراً بذاته). والدكتور بشر يعرض علينا، في مفرق الطريق، صورة محلية (تجري حوادثها في مصر في أحد شوارعها، أمام صف من المنازل المنخفضة على شكل المنازل التي تصاب في الأحياء القديمة). فهل حاول أحد الفارسين أن ينقض هذا التحديد الذي يجرد مسرحيتهما من صفة الرمزية؟!
اللهم لا شيء من ذلك، ولكن بشراً يدفع زكياً ليقول أشياء لامعة، ويذكر أسماء رنانة بينها وبين مسألتنا من البعد قدر ما بين الدكتور بشر ومفهوم الرمزية في الفن. وهذه الأشياء هي الحكايات التي استنبتها الفارسان على هامش المسألة، والتي أتناولها الآن بالتفنيد للتدليل على ما ذهبت إليه من أن صاحبينا يجترئان ويتأملان كتب الفلسفة والفن بالاجتهاد، ويقرآنها كما يقرآن روايات الجيب - مثلاً - فيزلاّن ويقعان فيما يجب ألا يقع فيه المخلصون في طلب المعرفة
وإذن ندور حول الموضوع تمشياً مع منطق الأستاذ طليمات ونعتذر عن هذا اللغو لأستاذنا صاحب الرسالة، ونعده ألاّ نعود إلى الكلام (خارج الموضوع) مهما يقل بشر أو زكي أو غيرهما
1 - استهل زكي مناقشته بنص للمستشرق (بروكلمن) وساقه برهاناً على أن مسرحية بشر عمل أدبي، وترجمة ذلك النص الدقيقة هي (نحن هنا في بداية تطور هو تجديد يمكن أن يؤثر في الحياة الأدبية، بعد نضال عنيف) وهذا النص بذاته برهان على أن الرواية (محاولة) فجة، إذا صدقنا أن (بروكلمن) يمكن أن يقدم (دراسة) لعمل أدبي في بعض صفحة من القطع المتوسط، ولكن الواقع أن هذا المستشرق يعرض المسائل عرضاً تاريخياً بسيطاً، ثم هو كالأستاذ زكي لا يحسن النظر في الأشياء ويتورط في أحكامه، لأن بشراً قدم روايته عملاً مطبوخاً وغير ناضج عام 1938 فيما أذكر، بعد أن قدم توفيق الحكيم (شهرزاد) عام 1934 مثلاً رفيعاً للأدب الرمزي، ليس في أدبنا وحده، ولكن في جميع الآداب، فكيف لا نصف (بروكلمن) بالغفلة إذا اعتبر مفرق الطريق (بداية تطور) مع أننا قبل ذلك وصلنا إلى غاية الغاية برواية توفيق الحكيم؟!
2 - والمسألة عند زكي (محصورة فيما إذا كان بشر قد استلهم في كتابة مسرحيته. . . من (كذا) الفيلسوف (كانت). أو هو استوحى فلسفة برجسون، وهذا الحصر مرفوض لأنه لا معنى له عند من (يشعر) بمعنى الإيحاء أو الإلهام و (يعرف) طريق النظر في أية فلسفة، وكذلك هذا الحصر ليس إلا لفاً حول الموضوع ورجوعاً إلى (الخناقة على اللحاف)
3 - والأستاذ زكي يصف أسلوبه بأنه (أوضح وأدنى إلى الثقافة العربية) وأنا لم أعرف أني (مستشرق) وإذا كانت المصطلحات الفلسفية غريبة على ثقافته، فليس هذا من خطئي ولا هو مما يدعوني إلى أن أسوق له عبارات مبتذلة كي يفقه قولي. وعلى أي حال، كنا نحب أن نحمد الله لأنه (لم يغب عن ذهن زكي) التفريق بين (الصورة) و (الفكرة) في الفن، لولا أنه عاد فقال إن (اقتصار الفن على الصورة أو الشكل لا يعني أن يكون هناك فن رفيع وفن رخيص، وفن أصيل مبتكر وفن متبع مقلد، وشاعر يسرق وكاتب يستمد) قال هذا فبدا لنا عقله كصندوق حروف، ورأيناه هو كأنه (مطبعجي) يرص الحروف وهو لا يقصد من ورائها إلى معنى في نفسه محسوس، ذلك أن الفن يجب أن يكون رفيعاً، وإلا فهو تهريج لا نسميه فناً، ويجب أن يفيض عن الروح طريفاً لطيفاً، وإلا فهو شيء صناعي لا حياة فيه؛ أما عبارة الشاعر الذي يسرق والكاتب الذي يستمد، فقد نرجو إعادة حروفها إلى (الصندوق) إذا كان ممكناً، فلا يقرؤها الناس فيسيئوا الظن بصديقي المعروف من أهل الفن
4 - ويحدثنا الأستاذ طليمات عن (شرائط الفن المقطوع بها) في المسرحية، ويحددها بأنها (مراعاة بلاغة العرض لحوادثها وجودة الحبك لمشاهدها، وبراعة الحوار ولطفه، وعمق التفكير وانسيابه إلى أعماق النفس يكشف عن خفاياها)؛ وهذا الحديث يذكرنا بذلك الطراز من نقاد المدرسة القديمة الذين يحتفظون بعدد من (الكليشيهات) يضيفونها إلى أسماء الشعراء والأدباء، من غير نظر ولا تأمل، فإذا الفرق بين شاعر وشاعر أن هذا (جزل الألفاظ)، وأن ذاك (سلس الأسلوب)، وأن الآخر (حسن الديباجة). زكي معذور في هذا، لأنه يتصور الفن تصوراً (ميكانيكياً) لا أثر فيه للعاطفة، فيبتدع تلك (الشرائط) ويقطع بها وحده، ويحاول أن يفرضها علينا قبل أن يطبقها، ولو استطاع تطبيقها لما انطبقت إلا على الرواية الفاسدة التي لا يمكن أن تصدر عن روح فنان، وإنما يخرجها (مصنع تزييف)
5 - ولقد كان الأستاذ زكي يستطيع أن يصفني بالتفلسف لو أنني أخذته إلى مجاهل ما وراء الطبيعة، ورحت أحدثه في نظرية المعرفة عند (كانت) أو (برجسون)، بينما نحن نتكلم في مسألة فنية، ولكني أردت أن أهديه سواء السبيل، فأخذت بيده إلى علم الجمال الذي موضوعه الفن، وبدلاً من أن يبهره هذا النور الجديد رأيته، كالتلميذ الكسلان، يركب رأسه، ويأبى متابعتي؛ بل رأيته أكثر من هذا يطالبني بأن أترك مصطلحات علم الجمال إلى ما يدعي أن رجال المسرح اصطلحوا عليه حتى يكون قولي قائماً على الدقة والإحكام في نظره. يطالبني بهذا الكفر، وليته كان صادقاً، فرجال المسرح لم يصطلحوا على شيء اسمه (الرمزية الفنية)، وهذا الشيء لا وجود له إلا في (صندوق حروف) الأستاذ المخرج الممثل
6 - وفي هذه الحُزُون، يصل الأستاذ زكي إلى الهاوية السحيقة، ويدفعه بشر، ويسقط، فإذا هو مبقور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن، ثم هو، مع ذلك كله، يأسف من أجلي راثياً لأني لم أتعقب (المراحل الحديثة التي مر بها علم النفس بعد العهد الذي ألف فيه (ريبو). . .) ولأني لم أعرف (أن علم النفس الذي أفادت منه الرمزية كثيراً قد دخل في طور جديد تبدلت على أثره أوضاع في الأدب عامة وفي الرمزية خاصة) وبعد الأسف والرثاء (يود) الأستاذ العالم أن نقف (على آراء علماء اليوم فيما كتبه (ريبو) خاصاً بالمخيلة. . . وذلك كما وردت (كذا) في مؤلف كبير يدرس اليوم في جامعة السوربون بباريس) ويزيّف علينا أن (وليم جيمس) يقول في هذا الكتاب: (يلوح لنا أن علم النفس عند ريبو في مسائل المخيلة والاختراع لا يزال تحت تأثير النظرية الآلية البسيطة الخاصة بتجزؤ الذهن إلى ذرات متجاورة) وأخيراً لا ينسى حضرته أن يصف وليم جيمس بأنه (الفيلسوف الأمريكي المعاصر)
ولو أمكن إيجاد محكمة تحفظ كرامة العلم وتحاسب المستهترين بقدسيته وتعاقبهم على جناياتهم، لو أمكن إيجاد هذه المحكمة وقدمنا لها هذا الكلام الذي يرسله صديقي زكي إرسالاً، إذن لحكمت عليه بالحرمان الأبدي من القراءة والكتابة، ولحكمت على الدكتور بشر بسحب شهادته بتهمة التحريض والإفساد
أما أنا فأؤكد للأستاذ زكي أني أعرف موضوعي لدرجة تسمح لي أن أصحح له ولشريكه تلك الأوهام التي يعيشان فيها؛ فليسمع، أو ليسمعا
(أ) (وليم جيمس) ليس معاصراً، بل هو متوفى عام 1910، أي منذ ثلاثين عاماً، بينما (ريبو) متوفى عام 1916
(ب) ألـ (طبعة 1923 - 24 ذات الثلاثة الأجزاء) التي يعتمد عليها زكي وبشر أصبحت منسوخة لأنها تطبع الآن في تسعة أجزاء بزيادات وتفصيلات، وقد ظهر الجزء الخامس منها عام 1936، وظهرت قبيل الحرب أجزاء لا علم لي بها
(ج) لو أن الأستاذ زكي ذو عهد بالدراسة الجامعية لما قال إن كتابا يدرس بجامعة السوربون، كما تقرر الكتب في المدارس الابتدائية والثانوية، ولعرف أن أي كتاب يمكن أن يدخل الجامعة إنما ليقلب ويجرح، حتى ولو كان مؤلفه زكي طليمات
(د) (ريبو) الذي لا يرضي زكي طليمات، هو الذي عرف قدره فاختاره ليكتب مقدمة الـ واعترف بفضله فأهدى السفر إلى ذكراه بعد موته
(هـ) لا وجود لكلمة (المخيلة)، ولا وجود لكلمة (الاختراع) في النص الذي ينقله زكي عن (وليم جيمس). وإذا كان هذا النص مذكوراً في باب (الاختراع) فقد جاء في عرض (جيمس) لوصف العملية الفسيولوجية لتداعي الخواطر ' عند (ريبو) (راجع ص20 في كتاب ' ولكن زكي يفتي فيما لا يدري فيضطر إلى تزييف هذا النص الذي يتعلق بمسألة (بسيكوفيزيولوجية) ولا يتعرض للظاهرة النفسية ذاتها، والذي يدل على مكان فيلسوفنا العظيم ولكن من يقرأ؟! قال (وليم جيمس)
' , ' - ' - , '
(و) مفهوم علم النفس عند الأستاذ زكي شعبي خاطئ لا يزيد على ما نسمعه من بعض زبائن (قهوة بيرون) لأنه يفهم أن الرمزية (أفادت من علم النفس) والأمر بالعكس، فهذا العلم الذي موضوعه ظواهر النفس هو الذي أفاد من وجود الرمزية.
7 - وأنا لم أستنكر أن يحاول صديقي زكي أن يناقشني في مسائل الفن والفلسفة، فهل هو يستكبر إذا فسرت له نصاً فلسفياً لم يفهمه فأفسد ترجمته؟ (راجع النص الفرنسي وترجمة زكي ص1548 - العدد 379 من الرسالة) رضى أو لم يرض فواجبنا يحتم أن نعلمه أن الرمزية الميتافيزيقية (الفلسفية عند (ريبو) هي الرمزية الفنية التي يتكلم عنها الفيلسوف نفسه في صفحتي 169 - 170 من كتابه ' ولو أدرك زكي أنه لا وجود لغير نوعين من الرمزية، لعرف أن الرمزية الميتافيزقية، أو الفلسفية، هي بعينها الفنية، ولا استطاع أن يفهم (ريبو) ويترجمه في أمانة؛ وإلا فهل وجد هو (ريبو) يذكر اصطلاح في أي فصل من فصول كتابه؟!
إن زكي في حيرته ودورانه يدعي أني (أخلط خلطاً صريحاً) بين الرمزية الفنية وبين ما يسميه (رمزية ما وراء الطبيعة)؛ فهل يتفضل الزميل بأن يفسر لنا هذه الرمزية الثالثة التي يضيفها إلى النفس الإنسانية وكأنه يريد أن نتصور إنساناً بثلاث أرجل أو عيون مثلاً؟!
8 - بقي أن نهمس في أذن الصديق زكي أن تاريخ الرمزية الفنية، هو تاريخ تطور العقل البشري، وأن هذه الرمزية إذا كانت قد بلغت بهذه الصور المركبة، فهي قد بدأت بالأساطير في أحضان الدين، بل يرجع تاريخها إلى ابتداع الحروف الأبجدية كرموز تدل على أصوات، وهي في جميع مراحلها تقوم على أساس (سيكلوجي) واحد. والفرق بين هذه الرمزية وبين الرمزية الصوفية هو أن الأخيرة تعتمد على رموز شخصية ينتزعها الصوفي من نفسه انتزاعاً ليس فيه أي عنصر عقلي، ولهذا السبب لا يفهمها أحد غيره، بينما الرمزية الفنية تقوم على رموز تنتزع من الحياة العامة، فتكون عند جميع العقول
ولقد أكتفي بهذا القدر لأن الأستاذين زكيا وبشرا يذهبان في مناقشتي على غير أساس من العلم الوضعي، مما أشاع الغلط والسفسطة في كل سطر كتبه زكي، ومما جعل المناقشة معهما سقيمة عقيمة؛ فإلى أن يجدا ما يقولانه في (الموضوع) سيجدانني في كل لحظة مستعداً لتقديم كل ما يحتاجانه لدراسة الرمزية وفهمها، على أن يعاهدني الدكتور بشر ألا يحاول التأليف، فليس الفن قواعد وتطبيقات، إنما الفن فيض من عند الله، يؤتيه من يشاء
محمد متولي ماجستير في الفلسفة
ومفتش شئون التمثيل بوزارة المعارف