الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 380/خواطر مهاجر

مجلة الرسالة/العدد 380/خواطر مهاجر

مجلة الرسالة - العدد 380
خواطر مهاجر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 14 - 10 - 1940


- 4 -

سار (موكب الرؤية) من (مركز البندر) في صفين طويلين من الجنود المشاة تتقدمهم فرقة الموسيقى في شتى آلاتها وشاراتها، وتتلوهم طوائف الصوفية في مختلف هيئاتها وإشاراتها، وعشاق رمضان محتشدون على جوانب الطرق وفي طنوف المنازل يجتلون الموكب المهيب ووجوههم يشرق فيها السرور كأنما يستقبلون وافداً من الملأ الأعلى سيغمرهم بالسرور ويطهرهم بالنور ويزكيهم بالبركة. فلما أتم الموكب خطاه الوئيدة الموزونة تفرق، واجتمع الناس على شاطئ النيل يرتقبون بشرى المحكمة بطلعة الهلال الوليد! ولرمضان في رأي الريفيين هلال غير أهلة الشهور، يولد من نور الجنة، ثم يدرج في رياض الشفق دروج الطفل المدلل الموموق، حتى إذا أيدر واستحار شبابه تردد كل يوم بين المشرق والمغرب في موكب ذاكر من كرام الملائكة، يختلط فيه تسبيح القائمين بذكر الصائمين، ويمتزج فيه سلسل النور بسليل الطين؛ وتلك هي الأيام المباركة التي تتصل فيها السماء بالأرض من كل سنة

وهلال رمضان في لغة الريفيين هو رمضان نفسه. لذلك يتخيلونه رجلاً له حياته وعمره وأجله. فإذا لم يبق منه إلا ربعه الأخير تمثلوه في محفته السماوية محتضراً يعالج غصص الموت بين أناشيد الحور وصلوات الملائكة، فيندبونه في البيوت والمساجد، ويرثونه على السطوح والمآذن، ويبكونه يوم الجمعة اليتيمة أحر بكاء!

قصفت المدافع المصرية في كل محافظة وفي كل مديرية في لحظة واحدة وعلى فترات محددة، فأفتر البشر على الشفاه، وجرت التهنئات على الألسن، واستولى على المنصورة شعور نقي هادئ خاشع لا يصدر عنه إلا الكلم الطيب والعمل الصالح. ورمضان يرجع المسلم الصادق نقياً كقطرة المزن، طاهراً كقطرة الوليد، لا ينغمس في منكر، ولا يخف إلى شر، ولا يلغو في حديث، ولا يبغي في خصومة. ومن ذلك كان كل حي سعيداً في رمضان، ما عدا الرومي والشيطان!

كان في كل طلقة من طلقات المدفع المبشر تنبيه إلى فضيلة من فضائل الصوم. فالمؤمن حين دوى في سمعه صوت البارود تيقظت في نفسه نوازع الخير ففكر في توثيق ما وهن بين القلب والدين، وتقريب ما بعد بين الغني والمسكين، وتأليف ما نفر من القلوب المطمئنة، ووصل ما انقطع من الأرحام الشابكة. ولكنه وا أسفا لم ير في هذا العام المآذن تتلألأ في أجيادها قلائد النور، ولا فوانيس الأطفال تخفق شموعها في الشوارع والدور، فتذكر أن هناك على سواحل البحر الأبيض وشواطئ بحر المانش مدافع غير هذه المدافع، تنطلق لتطفئ كل نور وتظلم كل قلب وتخرب كل عامر وتقتل كل حي وتقطع كل سبب وتغشى أجواء السماء بدخان من البوار والدمار لا يقوم تحته قائم ولا ينسم فيه حي!

ليت الذي حول لوثر هتلر، ومسخ في هتلر الإنسانية نازية، جعل في كل ركن من هذا الجحيم الأوربي رمضان بحكمته وطبيعته وعقيدته! إذن لكان كل مدفع للسلام، وكل مصنع للخير، وكل مخترع للحياة، وكل مورد للناس! (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين!).

إن الفرق بين مدافع رمضان ومدافع هتلر، كالفرق بين القرآن و (كفاحي). كتاب الله دستور الخالق لجميع خلقه، فهو خير مطلق وأمن شامل؛ وكتاب هتلر نزغ من الشيطان للألمان، فهو شر محض وفزع دائم. فأنا حين أسمع مدافع رمضان في الغروب أو في السحر، أعتقد أن جياعاً سينالون القوت، وضلالاً سيجدون المثوى، وجوارح ستكف عن اجتراح الإثم، ونفوساً سترتاض على مكاره الفضيلة، وأمماً في جميع بقاع الأرض سيغمرهم الشعور السامي الجميل بأنهم يسيرون إلى غاية الوجود قافلة واحدة، ممتزجة الروح متحدة العقيدة متفقة الفكرة، متشابهة النظام، متماثلة المعيشة.

وأنا حين أتصور مدافع هتلر أعتقد أن كتائب من الشباب الفريض قد صهرتهم النار فهم حمم على وجه الماء، أو مزقتهم الشظايا فهم مزق على أديم الثرى؛ وأن آلافاً من الدور الأنيسة قد نبت مراقدها فهي حبوس، وخمدت مواقدها فهي رموس، ثم دكتها القنابل فهي أنقاض على أشلاء، أو أحرقتها الصواعق فهي غسلين على فحم؛ وأن ملايين من الأطفال قد حرموا عطف الأب وحنان الأم، فهم يعانون في مطارح الغربة غصص الحرمان ومرارة اليتم؛ وأن ألوفاً من الأيامى والثكالى أصبحن بغير عائل ولا مأوى ولا أمل، فهن يمشين في ثيابهن السود بين الأطلال والخرائب كأنهن الأطياف الحزينة تجوس في الليل خلال المقابر؛ وأن ملايين من العمال والصناع أدركتهم العطلة وقعد بهم الكساد فضلوا يكابدون حسرة الحاجة في أنفسهم ولوعة الهم في أهليهم، وباتوا يضطربون من البؤس واليأس اضطراب القنيص لا يجدون مخلصاً للحياة ولا للموت.

إن الحرب في تاريخ الديمقراطية الإسلامية لم توقد نارها إلا دعاء إلى سبيل الله، أو ابتغاء لخير الناس، أو ذياداً عن سلامة الوطن؛ أما أن تنهب الممالك لأنك تريد أن تأكل، وتسحق الشعوب لأنك تريد أن تنتقم، وتخضع الدول لأنك تريد أن تسود، فذلك ماض البربرية الحمراء، وحاضر الطغيان الأسود!

(المنصورة)

أحمد حسن الزيات