مجلة الرسالة/العدد 380/إلى معالي وزير المعارف
→ ولز في كلمة موجزة | مجلة الرسالة - العدد 380 إلى معالي وزير المعارف [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 14 - 10 - 1940 |
التعليم الزراعي
- 3 -
(هذا الفلاح المزيف لا يصلحه تنظيم قريته ولا تجميل داره؛
إنما يصلحه تربية ذوقه وإرهاف حسه. فإن صاحب الذوق
يبني الدار الجميلة ويخط الحديقة البهيجة؛ أما فاقده فخليق به
أن يجعل القصر زريبة والبستان مزبلة)
(الزيات)
ثانياً: المدارس المتوسطة
الآن أطوي صفحة المكتب الزراعي وإنه ليروعني أن يعيش هذا الفرع من التعليم الزراعي خمس سنوات لا يحس به جل من يعنون أنفسهم بالبحث في فروع التعليم، وإن كثيراً ممن اشتغلوا بالتعليم الزراعي لا يعرفون عن المكتب الزراعي إلا قطرات لا تبل غلة. ولقد سألني صديق من ذوي الرأي والمكانة في دهشة: (وماذا عسى أن يكون المكتب الزراعي؟) قلت: (هذا نوع من التعليم أسدلت عليه سجف كثيفة خشية الفضيحة).
وبعد فلا عجب إن امتد الزمن بالتعليم الزراعي خمساً وعشرين سنة لا يفيق من غفوته ولا يتخفف من ثقله، فهو لقي في ناحية الوزارة لا يستشعر وجوده أحد، ولا يجد هو من يهتك عنه أستاره ليتكشف أمام الملأ في غير تمويه ولا زيف. وأنا حين أجرد القلم ليرفع صوت التعليم الزراعي وينشر شكاته على أعين أولي الأمر لا أبتغي سوى كلمة الإنصاف أول قول الحق.
النظام و (فوضى النظام)
لا ريب فالطالب الزراعي خَلْقٌ شاء هو، أو شاء له القدر، أن يتحلل من أثقال الدراسة ليقضي سنوات في مدرسة ليست هي في رأيه مدرسة ولكنها بعض متع الحياة؛ خاطره أنه سيطرح نصب الاستذكار وكد المطالعة وعناء الدرس. . . سيطرحها جميعاً وراء ظهره، لأنه سيكون فلاحاً نظيفاً يغدو إلى الحقل ويروح إلى المدرسة ينعم بالهواء الطلق ويمرح في الفضاء المنفسح، وينشق الحرية اللانهائية؛ يأكل وينام ويلعب ويهدأ متى شاء وأنى أراد؛ ثم هو بعد ذلك لا يستشعر بأساء الاختبار، ولا شدة الامتحان، ولا غلظة الدرس، ولا جفاء المدرس. . . ثلاث سنوات تمر مر السحاب، فإذا هو رجل يحمل بين يديه (دبلوماً) فتفتح أمامه مغاليق الحياة، وتهش له مصالح الحكومة!
يا ما أحلى هذه الأحلام حين تطيف بخيال الفتى وهو غر قد وقفت به همته عن أن يبلغ مبلغ الرجال، أو أعجزته الوسيلة عن أن يسمو إلى مراتب التعليم العليا، أو ضاقت به فرج التفكير عن أن يصل إلى الغاية!
هذا هو الطالب الزراعي، وإن نزوات الشباب لتتوثب في رأسه توحي إليه بأنه يوشك أن يكون رجلاً يعرف كل شيء في حين أنه يخرج من مدرسته لا يعي شيئاً، وهو أجهل ما يكون في الزراعة التي وقف عليها ثلاث سنوات من عمره.
ويغتمر الطالب في خضم هذه اللجة فتصفعه الحقيقة المرة صفعة تطير لها هذه الرؤى الجميلة بعد أن يكون قد استشعر لذتها حيناً من الزمان؛ فتعود إليه نكسة اليأس حين يرى أن المدرسة التي فزع منها هي المدرسة التي زج بنفسه فيها؛ فهو هنا سيقرأ ويكتب ويطالع ويجلس على مقعد في فصل يسيطر عليه مدرس، ثم يتذوق مرارة الدرس ولذع الامتحان ونكد الرسوب و. . . فإذا هو هو الطالب الذي أخفق ويخفق مرات ومرات، الطالب الذي حطمته السنون العجاف، الطالب الذي جاء ليموت في التعليم الزراعي أو يموت به التعليم الزراعي.
وليت كل طلاب المدرسة من بيئة واحدة وثقافة واحدة ووسط واحد، إذن لاستطاع المدرس أن يوائم بين نوازعهم ورغباتهم، أو أن يجد الحيلة فينفذ إلى عقولهم وأخلاقهم. ولكن هذا الجمع - وا أسفا - خليط لا يمت الأول إلى الآخر بسبب؛ فالفصل الواحد يضم بين جدرانه أشتاتاً من الطلبة تضطرب في غير ترابط ولا وفاق: فالحجرة الواحدة تجمع بين الطالب في الخامسة عشر والطالب في الخامسة والعشرين، وتؤلف بين من نال شهادة إتمام الدراسة الابتدائية هذا العام وبين من قضى سنوات ثلاثاً في السنة الرابعة الثانوية، وتربط بين من هو ما يزال في فتوة العقل ومن نخر اليأس حشاشة قلبه؛ وتلقى في ركن الفتى الريفي الذي رأى الغيط وجلس إلى الفلاح، وفي الركن الآخر الشاب الذي درج في المدينة وشب وترعرع ونما واشتد في حضن الحضارة الرفيق لا تربطه بالريف آصرة. . . وهكذا يصطدم المرء - أول ما يتغلغل في المدارس الزراعية المتوسطة - بهذا الخلل الذي أسميه في غير تحرج (فوضى النظام).
و (فوضى النظام) تتسلل إلى المدرسة منذ أول يوم من أيام السنة الدراسية، حين تفتح المدرسة أبوابها على مصاريعها، لا تدفع طالباً ولا ترفض طلباً؛ ولقد تظرف معي صديق فقال: (لعل كل هم مدارس الزراعة أن تستنفذ ما عندها من استمارات الدخول طلباً للربح، كدأبها في منتجاتها ومحاصيلها، ولا عليها بعد ذلك!) وقال آخر: (وإنه ليتراءى لي لو أن (عربجياً) تقدم إلى مدرسة زراعية لقبلته بين طلبتها في غير غضاضة، ولا أنفة!) هذه عبارات كانت تحز في نفسي وتؤج في صدري، لأن فيها التهكم اللاذع والسخرية المرة. وليت شعري أي مدرسة في العالم تفتح أبوابها لكل من كان (أفندياً) يتأنق في البذلة والطربوش؟
وتدخل (فوضى النظام) المدرسة فتتشعب لتفعم القسم الداخلي والقسم الخارجي، والصلة بين المدرس والطالب، وبين المدرس والناظر، وبين المدرسة وأولياء أمور الطلبة، و. . . ثم إلى بيت المدرسين.
إن الاضطراب الذي رأينا - من قبل - بين جدران الفصل نشعر به أيضاً في أركان (العنبر) في القسم الداخلي، فهناك مهزلة العلم يمثلها المدرس وتلامذته على مسرح الفصل حين يجهد نفسه ليتغلغل إلى عقول التلاميذ، فلا يجد السبيل، وقد ضرب بينه وبينهم بسور لا يستطيع أن يظهره إلا لماماً؛ وهناك مهزلة الأخلاق يمثلها التلاميذ وحدهم على مسرح (العنبر)، وإدارة المدرسة إما لاهية وإما عاجزة، ولها عذر؛ فهي لا تستطيع أن تسدل حجاباً بين الطالب الكبير والطالب الصغير وهما يقضيان عمر اليوم جنباً إلى جنب، صديقين في الفصل وفي الحقل، ثم. . . ثم في (العنبر)، والكبير يوسوس للصغير ويزين له فيندفع فتنفرط أخلاقه فيهوى، وينفض السامر عن أشياء تصم جبين العلم، لأن كلاً منهما ينطلق يريد أن يشبع رغباته الشريرة على حين قد غفا الرقيب. . .
وهكذا نجد أثر التباين في السن والثقافة واضحاً في هذه المدارس، ولا سيما في القسم الداخلي. ومن الغريب أن النظام الداخلي يوشك أن يعم التعليم الزراعي المتوسط، في حين أنه قد ثبت فساده في التعليم العام.
لهذا جاء ناظر المدرسة وإن أوصاله لترعد من شدة الخوف والفَرَق. . . جاء ليحول بين الطالب والمدرس، وبين المدرس وولي أمر الطالب، يبذل في ذلك جهد الطاقة، ثم هو يرمي أشرف مبادئ التربية الحديثة بأقذع الهجاء وأقسى الألفاظ.
هذا الداء. . . داء اختلاط الشر بالخير، حري به أن يدفع أولي الأمر إلى أن يجتثوا أصول الشر ليذروا الخير وحده ينمو ويسمو في هذا الوسط. غير أن شيئاً في المدارس المتوسطة يقوي الشر وحده فيضوي له الخير، هذا هو داء (إعادة القيد) وهو أيضاً أثر من آثار (فوضى النظام).
وداء (إعادة القيد) هذا هو نظام احتال به الرئيس مرة ليعيد طالباً إلى مكانه في مدرسته بعد أن رسب سنتين في فرقته فرفت؛ فأصبح قانوناً. وهذا الضرب من الطلبة هم الشر المحض الذي يتخلل أثناء المدرسة، وهم الفئة الباغية التي يجب أن تستأصل من هذه المدارس ليجد الخير سبيله فيها.
وانسربت (فوضى النظام) إلى (بيت المدرسين)، وهو بيت خلقته يد الإصلاح ليسكنه جماعة من المدرسين ليكونوا إلى جانب تلاميذهم، يراقبونهم ويهيئون لهم وسطاً علمياً أدبياً يستروحون من خلاله نسمات الهداية والرشاد؛ غير أن الانكماش الذي أرادهم عليه الرئيس نفث في هذا البيت معنى آخر، فأصبح خلوة للمدرس، وحاجزاً بينه وبين تلامذته؛ أو هو كبعض (تكايا) العهد البائد يسكن فيه المدرس ويأكل ويستمتع بالراحة والهدوء، لا يشعر بتكاليف الحياة ولا مضض العيش، دون أن يدفع من ثمن ذلك في الشهر إلا دريهمات لا تكفي غيره سوى يوم أو بعض يوم، وهذا البيت نفسه بعث في المدرس روح الكسل والتراخي والتواكل والحرص، فما فيه من نشاط جسمي ولا عقلي، وما فيه من فرحة للنفس ولا لذة للقلب؛ وإذا قدر لإنسان أن يرقى إلى بيت (المدرسين) ألفى هناك شراذم من المدرسين يزجون الوقت بين الهذر والمزاح والنرد والورق و. . . ثم لا يجد سوى بقايا مذكرات قديمة وأوراق متناثرة وجرائد ومجلات هزلية، أشياء مما تنحط بالعقل والتفكير، ثم لا يعثر على كتاب أدب ولا رسالة في علم ولا نشرة زراعية ولا بحث في موضوع ولا. . . ولا. . . مما يرقى بعقل المدرس ويفيد الطالب.
(للموضوع تكملة)
(*)