مجلة الرسالة/العدد 38/بمناسبة قصة خسرو وشيرين
→ في علم النفس | مجلة الرسالة - العدد 38 بمناسبة قصة خسرو وشيرين [[مؤلف:|]] |
تولستوي ← |
بتاريخ: 26 - 03 - 1934 |
كلمة في الشعر المرسل
للأستاذ مؤلف خسرو وشيرين
لقد تكرم الأستاذ اللوذعي صاحب الرسالة بكلمة نقد قيمة في قصة خسرو وشيرين تناول فيها قالبها أو رداءها من الشعر المرسل، وكان على عادته في كتابته قاصداً قوياً مهذباً.
ولقد أدهشني وأيم الحق أن رأيت بالرسالة الغراء كلمة في تلك القصة، وذهبت نفسي توغل في هزة من الطرب أنستها ما يجب عليها من وزن القول والقصد فيه.
وذلك لأنني منذ أخرجتها بعثت بها إلى أساطين الكتاب والأدباء وكبار المحررين، وانتظرت أن يقرأها بعضهم فيقول فيها كلمة، إما أن تكون كلمة نقد مر يظهر ما فيها من تفاهة وسخف، وإما أن تكون كلمة نقد هين يتعاقب فيها الاستهجان والاستحسان. وما كنت انتظر أن يقذف بالقصة في زاوية الإهمال لأن صاحبها لم يكتب عليها اسمه، أو لأنه لم يلح في طلب التقريظ، أو لأنه لم يلتمس إعانة أو حماية من أحد. فلما مضت أيام ولم أجد ذكراً لها على لسان ولا في صحيفة، طويت ذكراها في ثنايا الماضي وأنسيت نفسي إياها، وقلت ألتمس التعزية لنفسي، أنها لم تكن جديرة لا بالثناء ولا بالذم، فلعلها في نظر الأدباء أقل من أن يحكموا عليها بالسخف والسقوط. هكذا قلت لنفسي ورضيت القول على شدته، لأنني كنت دائماً أتهم نفسي بأنني كسائر المؤلفين موصوف بالعمى والغباء، فكم رأيت من المؤلفين من أسمعني قوله، فجال في فكري عند سماعه أن أقول له (أسأت)، ولكني ضعفت عن قول ذلك اللفظ فقلت له (أحسنت). فصدق ما قلته وذهب عني قرير العين موقنا أنه مؤلف مجيد موفق، وذلك العمى الخاص بالمؤلفين شبيه بما يصيب الآباء في حكمهم على أبنائهم. قيل ان أعرابياً فقد ابنه مرة، فمر الصبي بقوم فرأوه شبيها بالجعل القبيح، ثم مر الأعرابي بهم فسألهم عن ابنه فقالوا له صفه لنا، فقال لهم: (كأنه دنينير) أي كأنه دينار صغير من حسنه، وتردد بريق الجمال في وجهه ونفاسته. وهو على ذلك لم استبعد أن أكون كأحد هؤلاء المؤلفين البغيضين، وحمدت الله على أن وفقني لفكرة إخفاء اسمي عن الناس حتى لا تنالني معرة (قصة خسرو وشيرين!)
قلت لقد دهشت إذ رأيت في الرسالة كلمة عن تلك القصة، ولا سيما وهي كلمة من قل أستاذ أديب وكاتب أريب، لا أظنه يخدع عن غث القول وسمينه. ولما رأيته يتناول القصة في أول ما قاله بالثناء زدت عجباً، إذ كيف تكون تلك القصة جديرة بتقدير أديب كبير، ومع ذلك تجد من سائر الأدباء مثل هذا الإهمال. وكيف لا تستحق من الأدباء كلمة وقد استحقته من مثل الزيات كلاماً، حسبي إذن اندفاعاً مع هزة الطرب التي استخفتني، وذهبت باتزان قولي عندما قرأت مقال الرسالة في قصتي، فقد كنت أوثر أن الزم القصد في قولي، ولولا أن رأيت شيئاً لم أتوقعه فانطلق قلمي برغمي.
حسبي إذن لوما للأدباء والأساتذة، فلعل لهم العذر فيما كان، ولعلي أخطأت فهم قصدهم وعذرهم فما أكثر مشاغل الحياة وما أثقل أعباءها، وأولى بي أن آخذ الناس كما أجدهم ولا أعتب على أحد منهم شيئاً.
أما شعر المرسل فقد رأيت الأستاذ الجليل قد وضعه تحت ضوء قلمه الوهاج فأعشى وهجه العيون وكاد يحجب ما دونه. لا فائدة هنا في أن يدافع أحد عن أسلوب من القول، ولا فائدة في أن يحاول حمل الناس على تذوق ما يحلو في ذوقه، فهذا شيء من العبث وضرب من طلب المحال، غير إني أرى من حقي أن أبين للناس كيف يجب أن يكتب الشعر المرسل الذي كتبت فيه قصتي (خسرو وشيرين) فان وحدة هذا الشعر هي الشطر الواحد، وليس البيت المكون من شطرين.
لقد تعارف شعراء اللغة العربية على وحدات متعددة لشعرهم، فأكثر القصيد وحدته البيت المكون من شطرين كما هو معلوم، والرجز وحدته الشطر الواحد مع مراعاة انتهاء كل وحدتين منه بقافية واحدة، وهناك المثلثات والمربعات والمخمسات على ما هو معروف. وأما الشعر المرسل فوحدته كما تقدم الشطر الواحد. وأما حكمة ذلك فلا فائدة من بيانها. فان اختيار أوزان الشعر المرسل واختيار جعله من شطرات مفردة لم أصل إليها إلا بعد درس واختبار ومحاولات تجريبية كثيرة. غير أن بيان أسباب ذلك الاختيار لا يجدي نفعاً، إذ أن تلك الأسباب مهما تكن وجيهة فإنها لا يمكن أن تحمل الناس على استحسان شيء لا يبدو لهم مستحسناً.
ولهذا أكتفي بأن أقول إن من يحاول أن يكتب الشعر المرسل أو يقرؤه يحسن به أن يجعل وحدته الشطر الواحد، وان يكتفي بما في الوزن من الموسيقى بغير ان يقف عند آخر الشطر إلا إذا كان المعنى ينتهي إليه.
ولم يلجأ أحد في لغة من اللغات إلى الشعر المرسل لكتابة الأغاني، وهذا ما لا يراد به في اللغة العربية. فالأغاني وكل ما يعبر عن العواطف الثائرة التي تهز القلوب هزة وقتية قصيرة لا ينفع فيها الشعر المرسل. أقول هذا وأكرره كثيراً حتى لا ينزعج الأدباء من دخول هذا الباب في اللغة العربية. وما أنا ممن يحاولون هدم القديم إذ إني أفاخر بذلك القديم وقد تقدمت بي السن إلى حدود القدم، فلست ممن يتعلقون بالهدم، ولست ممن لا يحرصون على كنوز القرون المتعاقبة، بل أجد من نفسي أشد الحرص على تلك الكنوز، وذلك لما استمد منها من لذة وحكمة. وإنما اقصد إلى أن أفتح باباً جديداً كان إلى الآن مغلقا وهو باب القصة الشعرية أو الملحمة الطويلة، وفي مثل هذه الأبواب كانت القافية غلا يقيد المعنى، ويغير مجاريه، حتى أن شعراء اللغات الأخرى رأوا أنفسهم مضطرين إلى الاستغناء عن القافية والاكتفاء بموسيقى الوزن. ولو فعل البستاني مثل ذلك في ترجمة الإلياذة ولو فعل شوقي مثله في رواياته المسرحية لكان لعملهما شأن آخر، ولصارت الإلياذة العربية اليوم في متناول المتأدبين سهلة لينة، ترسم صورة الإلياذة اليونانية الأصلية، وليست كما هي اليوم، فالقطع الشعرية الطويلة تكون طللا يابساً غيرمتناسق، ولو كانت أجزاؤه من قطع مرمرية بديعة، فانك عندئذ إذا نظرت في القطعة الصغيرة منها أعجبتك ولكنك إذا تابعت النظر إليها لتراها مجتمعة راعك منظر غير متآلف وحركات جامدة غير متوثبة مع الحياة. لست ادعى إنني أحسنت، ولكني أقول قول الواثق أن الشعر المرسل يكون أداة إصلاح وسعة في اللغة العربية إذا وجد من يحسن القول فيه. وإذا أنا ضربت من قولي مثلا له فلست أضربه على أنه قول حسن، ولكني اضربه على سبيل العرض للطريقة: وهانذا مختار قطعة من مواقف خسرو وشيرين، وارجو أن تكتبها الرسالة الغراء كما أردتها أن تظهر - أي أن تكون وحدتها الشطر الواحد.
وقف بعض قواد الملك كسرى في أيام مجده وجبروته يتحدثون ويتذمرون، فأقبل عليهم شاعر البلاط (مهمند) فقطع عليهم حديثهم فدخلوا في حديث دعابة مع الشاعر، والقواد هم (أسفاذ) و (تخوار) و (حراز).
حراز (ضاحكا) أوه. مهمند؟ كيف حال الزمان؟
(يعودون إلى الهدوء)
مهمند مثلما كنت دائماً. أتغدى
ثم أغفو، وبعد ذلك أصححو
ثم أغفو، وبعد ذلك أصحو.
(يضحكون)
حراز سرك الله، نعم تلك حياة.
(لتخوار) يا صديقي تخوار. نعم الحياة.
(لاخوانه) هل سمعتم مقال مهمند يوما؟
تخوار: أنا بالحرب عالم، غير إني
لست بالشعر عالما يا صديقي.
حراز: (لمهمند) قل لنا من بديع شعرك شيئا
مهمند: لست يا سيدي أحب كلامي
(يشير حراز إشارة عدم التصديق)
لا تكذب فإنما هو رزقي
وسبيل الأرزاق غير حبيب
بائع الزهر ذاهل عن شذاه
لا يرى في الزهور إلا بضاعة.
حراز غير أن الزهور لم تك يوما
غير محبوبة الشميم. أعدلى
ذلك الشعر اذ خرجنا لنلهو
يوم عيد النيزوز
مهمند كان جميلا
ذلك اليوم كم ضحكنا. ولكن. . .
(يهز رأسه كمن يتذكر شيئا يأسف على فواته) حراز كم ضحكنا. أعده يا مهمند
مهمند (ينشد) من أراد الصدق فليسمع ومن شاء السرور
ذقت ما في الدهر من حلو ومن مر مرير
وعرفت الناس عند اليسر والأمر العسير
كنت أبكي إن بكى لهفان ذو قلب كسير
ولكن ضل فؤادي في فنون وغرور
فإذا بي بعد ان شيبنيي مر الدهور
لا أرى في الناس ذا حظ سوى الفدم الغرير
كن إذا شئت حمارا مرحا بين الحمير
وإذا شئت فأسرج راكبا فوق الظهور
ساخرا منها إذا أعجبها السرج الحرير
فأضل الخلق عقل فوق رجلين يسير
حراز (يضحك بصوت عال)
كن إذا شئت حمارا مرحاً بين الحمير
(يضحك مهمند والحضور)
(لتخوار) أترى أن يكون هذا صديقي؟
تخوار (ضاحكا) لا أرى أن أكون هذا.
حراز (فأسرج)
راكبا فوق ظهرها يا صديقي
تخوار (ضاحكا) لا أرى في الركوب بأساً إذا ما
كان لابد من ركوب الحمير.
حراز (لاسفاذ) ليت شعري مإذا تحب؟
اسفاذ (متكلفا الضحك) (أراني)
لا احب الحمير -
مهمندلم أر يوما سيدا طيبا تواضع حتى
رضيت نفسه بهذا. ولكن
كلنا يرتضى الركوب. وعندي
أن أحلى الحياة عيش الحمير
(يضحكون)
حراز كيف هذا مهمند؟
مهمند نعم الحياة!
كل ارض خضراء مرعى مباح
لم يعكرهم الحياة صفاها.
حيث سارت رأيت محلا ومأوى
وإذا شاءت النهيق وصاحت
لم توار النهيق خشية بطش
حراز أنت مهمند احكم الشعراء.
كم من الناس من يود نهيقا
ثم يخشى فيكتم الأنفاسا.
ولعل أعرض على قراء الرسالة في مرة أخرى قطعة ثانية تصف موقفاً آخر ليروا في ذلك القول رأيا
وإني أرجو أن تتكرم المجلة الأدبية الغراء بنشر مقالي هذا خلوا من الامضاء، إذ إني أرجو أن يبقى كاتب (خسرو وشيرين) في تحجبه، فإنما المقصود أن يرى الأدباء رأياً في القصة وشعرها المرسل فحسب.