الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 38/بديع الزمان الهمذاني

مجلة الرسالة/العدد 38/بديع الزمان الهمذاني

مجلة الرسالة - العدد 38
بديع الزمان الهمذاني
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 03 - 1934


للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

القرن الرابع الهجري

سيطر على النصف الشرقي من العالم الإسلامي في القرن الرابع ثلاث دول كبيرة ودول أخرى صغيرة:

سيطر بنو بويه على غربي إيران وجنوبها وعلى العراق العربي فسيطروا على الخلفاء العباسيين في بغداد.

وكان ما وراء النهر وخراسان وسجستان في سلطان السامانيين ثم قامت الدولة الغزنوية في أواخر هذا القرن فورثت ملك السامانيين كله. وانتقصت ملك بني بويه وزحزحتهم تلقاء المغرب ثم أوغلت في المشرق ففتحت الهند.

وكان في طبرستان وجرجان الدولة الزيارية التي أقامها في أوائل هذا القرن مرداويج بن زيار. وكان بنو باوند في طبرستان ايضاً.

وفي سجستان امراء من نسل يعقوب بن الليث الصفار ومنهم الأمير خلف بن أحمد (344 - 399).

عاش أحمد بن الحسين بديع الزمان الهمذاني في عهد أربعة الملوك الأخيرين من بني سامان إحدى وثلاثين سنة. وفي عهد جماعة من ملوك بني بويه أعظمهم عضد الدولة (367 - 372) ومؤيد الدولة وفخر الدولة (366 - 387) ومجد الدولة أبو طالب رستم (387 - 420) وشمس الدولة أبو طاهر (387 - 412).

والذين كان لهم سلطان على همذان والبلاد التي أقام بها الهمذاني هم مؤيد الدولة وفخر الدولة وابناه مجد الدولة وشمس الدولة. ولمؤيد الدولة وأخيه فخر الدولة وزر أبو الفضل بن العميد والصاحب ابن عباد.

وعاش البديع في عهد شمس المعالي قابوس بن وشمكير من الزياريين وفي عهد سبكتكين وابنه محمود من الغزنوية، وخلف ابن أحمد من الصفارية وثارت حروب كثيرة بين هؤلاء الملوك اضطربت لها البلاد وشقى بها الناس.

وكانت هذه الدول تتنازع مجد العلم والأدب كما تتنازع السلطان وكانت للأدب في النصف الثاني من القرن الرابع محافل: حول ملوك السامانية في بخارى وحول وزراء البويهيين في الري واصفهان وجرجان، وحول شمس المعالي قابوس بن وشمكير في جرجان وطبرستان وحول السلطان محمود الغزنوي في غزنة وأخيه نصر في نيسابور، والمأمونية في خوارزم.

ومما يؤثر من تنافس هذه الدول في العلماء والأدباء أن نوح ابن منصور الساماني كتب إلى الصاحب بن عباد سرا يستدعيه ليستوزره فاعتذر. وأن السلطان محمودا كتب إلى المأمون أمير خوارزم ليرسل إليه ابن سينا والبيروني وأبا سهل المسيحي الفيلسوف وأبا الحسن الخمار الطبيب، وأبا نصر العراق الرياضي، فمنهم من رضى بالمسير إلى محمود ومنهم من فر. وكان إلى جانب الملوك والوزراء رؤساء وبيوت يؤمهم الأدباء ابتغاء الحظوة عندهم

وإذا اتخذ الثعالبي والبيروني مثلاً لأدباء هذا العصر وعلمائه عرفنا توليه الأدباء وجوههم شطر هذه الدول:

الثعالبي أهدى كتابه لطائف المعارف إلى الصاحب بن عباد والمبهج والتمثيل والمحاضرة إلى شمس المعالي قابوس وسحر البلاغة وفقة اللغة إلى الأمير أبي الفضل الميكالي والنهاية في الكتابة ونثر النظم واللطائف، والظرائف إلى مأمون بن مأمون أمير خوارزم: وغرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم إلى نصر أخي السلطان محمود، والبيروني أقام في خوارزم عند المأمونية ثم سار إلى شمس المعالي وقدم إليه كتاب الآثار الباقية ثم قصد السلطان محمودا فلزمه وقدم إليه كتابه عن الهند. وقدم كتاب التفهيم في علم النجوم الذي ألفه بالعربية والفارسية إلى سيدة من خوارزم اسمها ريحانة ثم قدم القانون المسعودي في النجوم لمسعود بن محمود وكتابه في المعادن إلى السلطان مودود بن مسعود.

- 2 -

وقد نفقت سوق الآداب في القرن الرابع ونبغ كثيرون من أعلامه ولا سيما كتاب الرسائل

وحسبنا أن نذكر من الكتاب ابن العميد وابن عباد وأبا إسحاق الصابي، وأبا الخوارزمي والعتبى وعبد العزيز الجرجإني وبنى ميكال، وشمس المعالي قابوس وأبا هلال العسكري، وابن نباتة الخطيب، والحسن بن علي التنوخي ومن الشعراء: المتنبي والمعري والحمداني والرضي ومهيار، وابن نباته السعدي، وأبو الفتح البستي، والببغا، والنامي، والناشي، والزاهي، وغير هؤلاء من شعراء اليتيمه وكتابها.

همذان

مدينة في ناصية الجبال يشرف عليها جبل أروند في سهل خصب، ويؤخذ من أخبار الكتب الفارسية والعربية أنه كان لها شأن عظيم في حقب مختلفة قبل الإسلام وفي العصر الإسلامي. .

وهي هكمتانة في الآثار الفارسية القديمة، وأهيمتا في التوراة، واكبتانا عند كتاب اليونان والرومان.

واجمع الكتاب على وصفها بشدة البرد، وأكثر الشعراء في هذا قال ياقوت: (لما قدم عبد الله بن المبارك همذان أوقدت بين يديه نار فكان إذا سخن باطن كفه أصاب ظاهرها البرد وإذا سخن ظاهرها أصاب باطنها البرد فقال:

أقول لها ونحن على صلاء ... أما للنار عندك حر نار؟

لئن خيرت في البلدان يوما ... فما همذان عندي بالخيار

ثم التفت إلى ابن أبي سرح وقال يا أبا عبد الله وهذا والدك يقول

النار في همذان يبرد حرها ... والبرد في همذان داء مسقم

والفقر يكتم في بلاد غيرها ... والفقر في همذان مالا يكتم

وقال ياقوت: (ولا شك عند كل من شاهد همذان بأنها من أحسن البلاد، وأنزهها وأطيبها وأرفهها، وما زالت محلا للملوك ومعدنا لأهل الدين والفضل، إلا أن شتاءها مفرط البرد بحيث قد أفردت فيه كتب، وذكر أمره بالشعر والخطب.)

وأما أهلها فكأنهم عرفوا بالغلظة، وبديع الزمان يعتذر في بعض رسائله عن سوء فعله بأنه همذاني المولد. وينسب إليه في ياقوت:

همذان لي بلد أقول بفضله ... لكنه من أقبح البلدان

صبيانه في القبح مثل شيوخه ... وشيوخه في العقل كالصبيان وفي مناظرة رواها ياقوت بين همذاني وعراقي يقول العراقي للهمذاني: (ثم فيكم أخلاق الفرس، وجفاء العلوج، وبخل أهل أصبهان، ووقاحة أهل الري، وقذارة أهل نهاوند، وغلظ طبع أهل همذان).

ويقول ابن فارس كما في ابن خلكان:

سقى همذان الغيث لست بقائل ... سوى ذا وفي الأحشاء نار تضرم

وما لي لا أصفي الدعاء لبلدة ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلم

نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدين وما في جوف بيتي درهم

ومما يستأنس به هنا قوله في مدح خلف بن أحمد:

أبادية الأعراب أهلك إنني ... ببادية الأتراك نيطت علائقي

وقوله في القصيدة نفسها:

إذا اقتضت منى خراسان لفظه ... أماطت العرب در المخانق

وكذلك رسالته إلى أبي عامر الضبي رئيس هراة في عيد السدق وهو ليلة الوقود عند المجوس، وفيها يبين فضل العرب على العجم في أسلوب تتجلى فيه العصبية

ويظهر أن أسرته كانت ذات مكانة في همذان، فهو يقول في رسالة إلى أبي بكر الخوارزمي حين لم يحسن لقاءه بنيسابور:

(فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت إن بوادينا ناغية صباح، وراغية رواح، وناسا يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف.

وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل

ولو طوحت بأبي بكر أيده الله طوائح الغربة، لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيبا (وأجابه الخوارزمي بقوله:) فاما القوم الذين صدر سيدي عنهم فكما وصف، حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد،

فان كنت قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم

وفي رسالة إلى وزير الري يقول (وورائي من أخوالي وأعمامي من مواقف خدمة مشهورة، ومقامتهم مشكورة، وبهم حاجة إلى فضل عونه)

- 3 - في النصف الثاني من هذا القرن عاش الهمذاني، فنبين سيرته وأخلاقه ثم ننظر مكانته من أدب هذا العصر

أ - أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن بشر الصفار المعروف ببديع الزمان الهمذاني، ولد في همذان 13 جمادي الثانية سنة 358 من أسرة عربية:

ذلكم بأنه يقول في رسالة إلى الفضل بن أحمد وزير السلطان محمود، (إني عبد الشيخ واسمي أحمد، وهمذان المولد، وتغلب المورد، ومضر المحتد،) وكأنه يريد أن يقول إنه مضري الأصل، ولكن أسرته عاشت في تغلب. وفي رسالة إلى الشيخ أبي القاسم يعتذر عن التخلف عن الحضور بالزكام، ويقول عن رجل أسمه أبو الحسن يظهر أن اسمه سقط من الرسالة: (وما أشد استظهاري بخلافته وإن لم يكن من ولد العباس والله يبقيه علما للفضل) فيقول أبو القاسم في الجواب. (والشيخ أبو الحسن فوق شروط الخلافة، فان كان المستخلف تغلبيا، جاز أن يكون الخالف كسرويا)

فالتغلبي هو الهمذاني نفسه. ودليل آخر أنه كتب إلى القاضي أبا الحسين علي بن علي: (أنا أمت إلى القاضي أطال الله بقاءه بقرابة، إن لم يكن عربياً فأبي وأبوه إسماعيل، وعمي وعمه إسرائيل، الخ)

ب - ويؤخذ من رسائله بعض أخبار أسرته: يؤخذ منها أن أبويه عاشا إلى أن كبر وترك همذان، وأن أخاه أبا سعيد كان صغيراَ حين بداء هو أسفاره. ويؤخذ من معجم الأدباء أن أخاه أبا سعيد كان مفتي همذان، ويؤخذ من رسائل أيضا أنه كان له ابن صغير أسمه أبو طالب، وأن أحد أعمامه لحق به في أسفاره، وعاش معه عشر سنين.

ويفهم من رسائل كثيرة أن أباه أرسل إليه أول الأمر مالا وأمره أن يرجع إلى همذان، ولامه على طول غيبته، وأنه هو أرسل إلى أبيه مالا من بعد وسأله أن يلحق به، وأن أباه وعده ذلك ثم لم يفعل حتى غضب البديع، وكتب إلى أخيه أبي سعيد دون أبيه. ومن رسائله إلى أبيه: (كتابي أطال الله بقاء سيدنا من بوشنج، لك أسوة بيعقوب في ولده، إذ ظعن إليه من بلده. وليس العائق سور الاعراف، ولاجبل قاف، فلم لا ينشط؟ والله لا يضيع بذلك المكان درهماً إلا عوضه دينارا، ولا يعدم هناك دارا إلا أفدته ديارا. . .

وقد رسمت لموصل كتابي هذا أن ينقده مائة دينار بشرط أن يخرج وأن يرتب له عمارة شتويه تسعه. فالشيخ الفاضل العم فليتفضلا، وليقوما ويرحلا، ويستصحب الأخ أبا سعيد، وليأتني بأهله أجمعين، الخ. . .)

وفي رسالة أخرى يذكر أنه غاب عن أبيه احدى عشرة سنه ص (160)

وأما أمه فلا أجد ذكرها في الرسائل، وفي الديوان له: (وله يجيب والدته:

وعجوز كأنها قوس لام ... خلقوها من نبعة شر خلق

كاتبتني شوقا إلى وقالت ... أخذ الله يا بني بحقي

قلت لا أستطيع ترك بلاد ... قد وفى الله في ثراها برزقي

وهي أبيات إن صحت فلا تشهد لبديع الزمان بالبر.

ويظهر من بعض رسائله أيضاً أنه طلب إلى صهره أن يرسل امرأته وابنه أبا طالب. على أن في الكلام غموضاً. (وقد طالت مراجعات الشيخ في حديث أبي طالب الخ ص199 إلى آخر الرسالة).

ج - نشأ أحمد بن الحسين في هذه الأسرة. وكان كما يقول الثعالبي مقبول الصورة، خفيف الروح، وكان أعجوبة في الحفظ والبديهة والارتجال، له أخبار في هذا لا تكاد تصدق، وسنعود إليها عند الكلام على أدبه، ويخبرنا الثعالبي أنه أخذ اللغة عن أحمد بن فارس، ونحن نجد في الرسائل رسالة إلى أستاذه هذا جواباً عن رسالة ذم فيها الزمان، وقد مدحه ببعض شعره. ويقول الهمذاني في رسالة إلى أبيه عن أخيه أبي سعيد:

(وبلغني انه ابتدأ بمجمل اللغة، فأين بلغ منه، والشيخ لا يحمل عليه بعويص اللغة حتى يعلم سهلها، ولا يأخذه بما أخذني به، فالعمر لا يتسع للعلوم أجمع.)

وقد درس الحديث، ويقول ياقوت في معجم الأدباء نقلا عن شيرويه بن شهردار مؤرخ همذان: (وكان أحد الفضلاء والفصحاء متعصباً لأهل الحديث والسنة، ما أخرجت همذان بعده مثله، وكان من مفاخر بلدنا، روى عنه أخوه أبو سعيد، والقاضي أبو محمد عبد الله ابن الحسين النيسابوري.) ونجد عصبيته لأصحاب الحديث في رسالة كتبها إلى أحد القضاة يقول فيها: (ماله ولأصحاب الحديث الخ الرسالة) ص105

سفره من همذان

فارق همذان سنة 380 وهو ابن اثنتين وعشرين سنة: وورد حضرة الصاحب فتزود من ثمارها وحسن آثارها، كما يقول الثعالبي.

وفي الديوان أنه قدم إلى الصاحب وله 12 سنة، فهذا كان قبل رحيله عن همذان، ويؤيده ما رواه الثعالبي عن الهمذاني قال: (لما أدخلني والدي إلى الصاحب ووصلت مجلسه، واصلت الخدمة بتقبيل الأرض، فقال لي: يا بني اقعد، إلى كم تسجد، كأنك هدهد) وفي إحدى قصائده ما يدل على أنه ذهب إلى الصاحب أكثر من مرة.

وتعجب لاختياري ان رأتني ... أرى بحراً وأمتاح الركايا

سأنتاب الوزير فان أتيحت ... زيارته وساعدت القضايا

أعاود ورده والعود خير ... وارجع أن للرجعى مزايا

ولا ندري ما كان بينه وبين الصاحب، ولكنا نراه يذكر في قصيدة ان الصاحب أوعده وهدده:

أكافي الكفاءة استبق مني ومن دمي ... حشاشة مجد في البلاد مشرد

أفي موجب الفضل الذي أنت أهله ... توعد مثلي أم قضية سؤدد

أبعد مقاماتي لديك وهجرتي ... إليك وإنفاقي طريفي ومتلدي

وجوابة للافق فيك طردتها ... غدت بين منثور وبين مُقَصَّدِ الخ

وأظنه أراد هجاء الصاحب في قوله من قصيدة يمدح بها خلف ابن أحمد:

وليل كذكراه معناه كاسمه ... كدين ابن عباد كادبار فائق

جرجان

يقول الثعالبي: (ثم قدم جرجان وأقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية والتعيش في أكنافهم، والاقتباس من أنوارهم، واختص بأبي سعيد محمد بن منصور أيده الله تعالى، ونفقت بضائعه لديه، وتوفر حظه من مادته المعروفة في إسداء المعروف والافضال على الأفاضل. .

فلما استقرت عزيمته على قصد نيسابور أعانه على حركته، وأزال علله في سفرته، فوافاها سنة 382، ونحن نجد في رسائله رسالة إلى أبي سعيد الإسماعيلي يذكر أن الأعراب قطعوا عليه الطريق إلى نيسابور وسلبوه كل ما معه.

(يتبع) عبد الوهاب عزام