الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 38/النقد والطربوش وزجاج النافذة

مجلة الرسالة/العدد 38/النقد والطربوش وزجاج النافذة

مجلة الرسالة - العدد 38
النقد والطربوش وزجاج النافذة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 03 - 1934


للدكتور طه حسين

وتستطيع ان تضيف إلى هذه العنوانات عنوانات أخرى، فهناك أزقة ضيقة شديدة الضيق، ملتوية شديدة الالتواء، قد كثر على ارضها الوحل، حتى ان الذي يمشي فيها لينزلق، أو يمشي مشية مسلم بن الوليد في بيته المشهور:

إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت به مشى المقيد في الوحل

وقد أمطرت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا من المطر، منها السائل ومنها اليابس، نستغفر الله، بل قد صبت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانا من البلاء، منها مرق الفول النابت، وماء المخلل، وفيها أشياء أخرى جامدة كانت تهوى على الرؤوس، وربما مست العيون، وربما دخلت الأفواه ووصلت إلى الحلوق فانعصرت فيها انعصاراً، وأذكت فيها لهيبا ونارا، وقد كان في هذه الأزقة مارد من مردة الجن أو مردة الإنس، له صدر عريض قد انتفش فيه شعر الطويل حاد كأنه الأسنة، يصطدم به الرجل القصير فإذا هذا الشعر الطويل الحاد يداعبه ويلاعبه، فيبعث بوجهه، ويدخل في أنفه وفي فمه وفي عينيه. وقد كان في هذه الأزقة غلام شرير، لسانه عذب، ويده مرة، وقد كان في هذه الأزقة شاب ظهر الغباوة والبله، خفي المكر والغدر، شديد البأس والبطش، يخيف من ليس من شأنه أن يخاف، ويضطر اثبت الناس قلبا وأشدهم استهزاء بالحياة إلى أن يعدو عدو الشنفري وتأبط شراً وابن براق، حتى يدفع إلى دار من الدور، ثم إلى بيت من بيوت هذه الدار، فلا يدخل هذا البيت من بابه كما أمر الله أن تؤتى البيوت، وإنما يدخله من إحدى نوافذه. وفي هذه الأزقة شيخ وقور، ظاهره يخيف، وباطنه فيه الرحمة واللين، وفيه الرفق والدعة، وفيه الأدب وحسن الذوق.

كل هذه الأشياء، وكل هؤلاء الأشخاص، يمكن أن تضاف ويمكن أن يضافوا إلى هذه العنوانات التي قدمتها بين يدي هذا الكلام، ولكني لم أضفها تحرجاً من الإطالة وإشفاقا من الإطناب، وإيثارا للإيجاز البليغ.

وأنا أستطيع بعد أن وضعت هذا العنوان وأتبعته بهذا الكلام، أن أتحول بك إلى ما شئت أنت أو ما شئت أنا من الموضوعات فأتحدث إليك فيه حديثا طويلا أو قصيراً، وأعرض عليك فيه صوراً جميلة أو دميمة، وأثير في نفسك به عواطف هادئة أو جامحة، وأرسم على وجهك به ابتساما وضحكا، أو عبوساً وتقطيباً، حتى إذا بلغت من هذا كله ما تريد أنت، أو ما أريد أنا، أو ما نريد جميعاً، ذكرت النقد والطربوش وزجاج النافذة. واعتقدت أنا أو خيلت إليك إني أعتقد، واعتقدت أنت أو خليت إلى انك اعتقدت، واعتقد صديقي الأستاذ المازني، أو خيل إلى نفسه والينا أنه يعتقد، أني قد أمتعت الرسالة وقراء الرسالة بفصل قيم أو غير قيم، قوامه الحديث عن النقد والطربوش وزجاج النافذة!.

وتسألني ما بال الأستاذ المازني يقحم هنا إقحاما، وما خطبه مع النقد او الطربوش وزجاج النافذة ومرق الفول النابت، وماء المخلل، وما يتبع هذا كله من الأشياء والأحياء؟ فأجيبك بأن هذا السؤال لا ينبغي أن يساق إليّ، وإنما ينبغي أن يساق إلى الأستاذ المازني، فهو الذي تحدث عن هذا كله، وهو الذي أثارني إلى أن أتحدث عن هذا كله، وليس من شك في أن الأستاذ المازني سيقول في دعابته الحلوة الظريفة، وما أنت وجر الشكل، وما لك تدخل بيني وبين النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من الملحقات؟. ولكن الأستاذ يوافقني أو لا يوافقني - فهذا سواء - على أنه صاحب فن، وعلى أن أصحاب الفن إن كتبوا لأنفسهم فهم ينشرون للناس، وعلى ان صاحب الفن لا يملك أثره الفني بعد أن يلقيه إلى الناس. وعلى أن من حق الناس إذا ألقى إليهم شيء أن يتناوله كما يحبون، يعجبون به أو يسخطون عليه، يرغبون فيه أو ينصرفون عنه، يحمدونه أو يسلطون عليه اللوم.

وإذن فقد ألقى إلينا الأستاذ المازني فصله الممتع البديع الذي أثارني إلى أن أتحدث إليك عن النقد والطربوش وزجاج النافذة، أو إلى أن أتحدث إليك عن الأستاذ المازني نفسه من وراء هذه الأشياء التي لا تحصى، والتي لا أكره تكرارها، وما أظنك تكره تكرارها، وهي النقد والطربوش وزجاج النافذة والأزقة وما يتراكم على أرضها من الوحل، وما تصبه سماؤها من السائل والجامد، ومن يمشي بين ذلك من الأشرار والأخيار.

وللأستاذ المازني مع هذه الأشياء كلها، ومع هؤلاء الناس كلهم، ومعك أنت، ومعي أنا، قصة طريفة ظريفة، خليقة أن تقص، وخليقة أن تثير الإعجاب. فهل تدري ماذا دفع الأستاذ المازني إلى أن يتحدث عن هذه الأشياء، وعن هؤلاء الأشخاص، فيثيرني إلى أن أتحدث عنه، وعنها، وعنهم؟ هو شيء يسير، يسير جداً، هو أنه أديب يقرأ في الكتب، ويكتب في الصحف، وينقد الكتاب والمؤلفين. وقد تتغير الأزمنة وتتبدل ظروف الحياة وترقى الأجيال بعد انحطاط، ولكن هناك شيئاً لا يتغير ولا يتبدل في حقيقة الأمر، وهو أن الأدب محنة يمتحن بها الأدباء، ونقمة يصيب الله بها هؤلاء الذين يمنحهم شيئاً من حسن الذوق والقدرة على فهم الأدب وتقريبه إلى الناس. وقد امتحن الله صديقنا المازني ووفر له من نقمة الأدب وبلائه حظاً عظيماً، فجعله شاعراً مجيداً وكاتباً بارعاً، وناقداً مسموع الكلمة، مهيب الجانب، مقدور الرأي، لا يصدر كتاب إلا أراد الناس أن يعرفوا رأيه فيه وحكمه عليه. وكان صاحب الكتاب نفسه أحرص الناس على ذلك وأشدهم طلبا له وإلحاحاً فيه. والكتب تمطر على الأستاذ المازني، ويمطر معها طلب النقد وطلب التقريظ، والنقد والتقريظ يحتاجان إلى القراءة والدرس. وإذن فالمازني المسكين مصروف عن نفسه وعن فنه وعن كتبه، إلى هؤلاء الناس الذين يكتبون، والى هؤلاء الذين يقرأون. ومن هنا ومن جهات أخرى أيضاً كان المازني شقياً بالأدب، وأن كان الأدب سعيداً بالمازني، وأي دليل على شقاء المازني بالأدب وسعادة الأدب بالمازني، أقوى من هذه القصة التي أحدثك عنها الآن؟

فقد اخرج كاتب من الكتاب كتاباً من الكتب، وأهداه إلى الأستاذ بالطبع. وعرف الناس أن هذا الكتاب قد أهدى إليه فأخذ الناس ينتظرون، وأخذ صاحب الكتاب بنوع خاص ينتظر، فلما طال الانتظار كان الطلب، ولما كان الطلب ولم يجد شيئاً كان الإلحاح. واضطر المازني إلى أن يذعن، وأكره المازني على أن يكتب، ولكنه كان قد أرسل الكتاب إلى من يجلده. فلما اشتد عليه الإلحاح ذهب في طلب الكتاب من المجلد. فدفع إلى رحلة غريبة، والى استكشاف أغرب. دفع من هذه الأحياء المتحضرة التي تتسع فيها الشوارع، وتجري فيها السيارات، وتنتشر فيها الشرطة، والتي لا تتغطى أرضها بالوحل، ولا تمطر سماؤها مرقا ولا مخللا، إلى أزقة ضيقة ملتوية فاسدة الهواء، تعيش فيها أجيال من المردة والشياطين، وفي هذه الأزقة عرف المازني الخوف والفرق، وعرف الهرب والغلو فيه، وعرف كيف يكون وقع الأحجار على الأجسام، وكيف يكون وقع الشتائم في النفوس. ثم عرف كيف يفقد الناس طرابيشهم، وكيف ينظرون إليها وهي تهان وتمرغ في الوحل تمريغاً، ثم عرف كيف يدفع الهاربون إلى اقتحام الدور والاستخفاء في البيوت وقد غاب عنها أهلها. ثم عرف قصة الرجل الذي ذهب يطلب كتاباً ففقد طربوشه وعاد صفر اليدين.

والغريب أن هذه الرحلة الهائلة وما امتلأت به من الأخطار كانت كلها في القاهرة، وفي ساعات قصيرة، ولست أدري فيم يحتاج الذين يحبون الأخطار إلى التماسها في الصحراء أو في الجبال أو على الذين يحبون الأخطار إلى التماسها في الصحراء أو في الجبال أو على البحر المحيط، مادام الانتقال من حي من أحياء القاهرة إلى حي آخر، خليقا أن يرينا من الهول والخطر مثل ما رأى صديقنا الكاتب الأديب ومن هنا نستطيع أن نفهم ضيق المازني بالأدب والأدباء، وبالكتب والمؤلفين وتضرعهم المتصل إلى الله أن يعفيه من هذه الصناعة التي يشقى بها، ولكنها تسعد به وتسعد الناس أيضا. ولكن الأستاذ المازني يتساءل في شيء من الحيرة أيجب أن يقرأ ما يريد هو أم يجب أن يقرأ ما يريد الناس؟ وإذا سمح لي بأن أجيبه فإني أرى أنه ملزم بان يقرأ ما يريد، وبأن يقرأ ما يريد الناس، مادام قد أقبل على صناعته هذه راضيا بها أو مكرها عليها، ولكن السؤال الذي أحب أنا أن أسأله هو. هل يظن الأستاذ المازني أنه أبرأ ذمته أمام القراء وأمام المؤلف بهذا الفصل البديع الذي كتبه منذ أيام، فحدثنا فيه عن النقد والطربوش وزجاج النافذة، وعما تحمل الأرض من وحل، وما تمطر السماء من مرق؟ فان كان يظن أنه قد أرضى قراءه وصاحبه بهذا الفصل فقد أصاب وأخطأ في وقت واحد: أصاب لأن الفصل بديع، وأخطأ لأنه لا يغني من النقد شيئاً، فلن يعفيه صاحب الكتاب من الإلحاح عليه، ولن يدعه حتى يقول إنه قد قرأ هذا الكتاب فرضى عنه أو سخط عليه.

وسؤال آخر، أحب ألا يغضب صديقي المازني حين أسوقه إليه. ما باله يطغى على نفسه ويسرف عليها في الطغيان، ويصورها هذا التصوير الذي لا يلائمها بحال من الأحوال، والذي لا نحبه لها؟ فهل من الحق أنه هياب إلى هذا الحد؟ كلا، ولكنه يحب أن يعبث بنفسه فيسرف في العبث، وأكبر الظن أننا ان حدثناه في ذلك ضاق بنا وضجر، وشكا من هؤلاء الطفيليين الذين يدخلون بين الناس وبين أنفسهم، وقال إذا لم يكن لي الحق في أن اعبث بنفسي فلمن يكون الحق في أن يعبث بها إذن؟ أما أنا فأجيب الأستاذ بأن هذا الحق ليس مباحاً لاحد، ولكن الناس يستبيحونه لأنفسهم، سواء أرضى الأستاذ أم لم يرض، وأنا أتحداه، وأطلب إليه، أن يريني كيف يستطيع أن يمنع الناس من أن يتناوله بما يحبون من ألوان النقد والعبث لا بما يحب هو، كيف يستطيع أن يمنع الناس من ذلك دون أن يخرج عن طور الكاتب الأديب؟ وإذن فما له يظلم نفسه هذا الظلم، ويلح عليها بهذا العبث الذي لا قصد فيه، أم هل ضاقت الدنيا بالأستاذ كما ضاقت بالحطيئة ذات يوم فيما يقال فهجا نفسه، لأنه لم يجد من يهجوه، أم هل كره الأستاذ الأخذ والرد، وضاق بالحوار والجدال، وكره أن يذكر الناس فيغريهم بذكره، فآثر أن يذكر نفسه هذه المسكينة التي لا تجد من يدافع عنها ويحميها من صاحبها الطاغية. فان تكن هذه فقد أخطأ المازني، فهأنذا أدافع عن المازني برغم المازني. أخشى ألا يكون لشيء من هذا كله أصل ولا فرع كما يقولون، وان يكون المازني قد أراد نفقد الكتاب الذي طلب إليه نقده، فمضى به الخيال ومضت به الدعابة إلى هذه الأزقة الضيقة الملتوية، يبحث فيها عن الكتاب وصاحب الكتاب، فلم يفد إلا أن فقد طربوشه وأضاع على صاحبه الشيخ زجاج نافذته، ولم يجن لنفسه ولا لصديقه المؤلف شيئاً. وويل للكتاب وللمؤلفين من دعابة المازني ومجونه، وويل للكتاب والمؤلفين من الغاز المازني ورموزه، بل ويل للمازني نفسه من طغيان خياله وجموحه، فان في هذا الجسم النحيل الضئيل جسم هذا الرجل الهادئ الوديع ماردا كالمردة وشيطاناً لا كالشياطين.

أما بعد، فلنذكر النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من الأشياء والأشخاص، لنختم المقال كما بدأناه، وليعلم المازني أنا لم نتحدث عنه، ولم نشر إليه، ولم نفكر فيه، وإنما تحدثنا عن كتاب نقد، وطربوش فقد، وزجاج حطمه فتى من الفتيان تحطيماً.

طه حسين

(والراديو أخيراً!

للأستاذ احمد أمين

نشأت في حي وطني، لم يأخذ من المدنية الحديثة بحظ قليل ولا كثير، يعيش أهله عيشة وادعة هادئة بطيئة، لم تتغير عن معيشة القرون الوسطى إلا قليلاً، ولم تنقطع الصلة بينهم وبين آبائهم وأجدادهم، إذا عرضت عليهم صفحة من حياة مصر قبل بضع مئات من السنين فهموها حق الفهم، وقرأوها في أنفسهم وفي معيشتهم، فكانت الصلة بيني وبين سكان القاهرة في عهد الفاطميين أو الأيوبيين أو المماليك أقرب من الصلة بين ابني وعهد إسماعيل. فالحياة في السنين الأخيرة غيرت سكان المدن تغييراً كبيراً، ونقلتهم نقلة مفاجئة سريعة، حتى ليحملق الطفل في عينك استغراباً إذا حدثته بحديث يتصل بالحياة الاجتماعية في عهد جده أو جدته، ويرى كأن الدنيا خلقت خلقاً جديداً.

كانت حارتنا تمثل طبقات الشعب المختلفة، يسكنها البائع المتجول، يظل نهاره وشطراً من ليله متنقلا من الحارات والشوارع، ينادي على البلح في موسم البلح، والخيار في موسم الخيار. وأسرته وأقاربه يعيشون جماعات في بيت كبير عيشة بائسة تعسة، كل جماعة في حجرة.

وطائفة من الموظفين من رئيس قلم في وزارة الأوقاف، وكاتب في وزارة الأشغال يمثلون، الطبقة الوسطى في حياتهم الاجتماعية والمدنية.

وبيت أرستقراطي واحد كان ربه نائب المحكمة الشرعية العليا، وكان متقدماً في السن، عظيم الجاه، وافر المال، له الخدم والحشم، ويرهبه الكبير والصغير، وله عربة فخمة، تضرب خيولها الأرض بأرجائها فتملأ القلوب هيبة، وكان كل سكان الحارة يسمونه (الشيخ) من غير حاجة إلى ذكر اسم، فالشيخ ركب، والشيخ جاء، وعند بيت الشيخ - وكان الشيخ نعمة على الحارة، فلا تستطيع امرأة أن ترمي ماء قذراً أمام بيتها خوفاً من الشيخ، ولا يستطيع قوم أن يرفعوا أصواتهم في السباب والنزاع خوفاً من الشيخ. ولذلك امتازت حاراتنا من مثيلاتها ومما يجاورها بالنظافة والهدوء.

كان بين سكان الحارة رابطة تشبه الرابطة بين أفراد القبيلة، يعتز الأولاد بحارتهم ويهتفون بها في النداء، ويكون بينهم وبين أولاد الحارة الأخرى منافرة فيحتكمون إلى القوة، ويعتزون بالناشئ الشجاع يظهر بينهم يذود عنهم، ويجلب الفخر لحارتهم - ويرعى سكان الحارة حق الجوار بأدق معانيه، يعودون أحدهم إذا مرض، ويهنئونه إذا عوفي، ويواسونه في مأتمه، ويشاركونه في أفراحه، وهم في ذلك سواسية، لا يتعاظم غني لغناه، ولا يتضاءل فقير لفقره.

وكان لكل بيت من بيوت الطبقة الوسطى منظرة (مندرة) يتبادلون الاجتماع في أحدها. فيسمرون فيها السمر الحلو اللطيف، وأحياناً يحيون الليلة في سماع قرآن أو حفلة طرب، ولحسن حظي كان بجوار بيتنا موظف في الأوقاف يهوى الناي ويتقنه، فكان كثيراً ما يحيي أصدقاؤه في منظرته حفلات شقية بديعة، إليها يعود الفضل فيما لي من إذن موسيقية وميل لسماع الغناء والافتنان به.

كان من المناظر التي لا أنساها طائفة من الرجال، قد لبس كل منهم على جلبابه الأزرق ميدعة من الجلد، يحمل القربة على ظهره ويمشي بها في ركوع، وهم يغدون في الحارة ويروحون، ينادي أحدهم بعد أن يفرغ قربته في الزير (سقّا عَوّض) وهي كلمة كنت أفهم منها المناداة على الماء ولكن ما كنت أفهم معناها تفصيلا. بل ربما لم أفهمه إلى الآن. فإذا سمعته سيدة أطلت من الشباك وأمرته أن يأتي لها بقربة حلوة أحياناً، ومالحة أحياناً، وربما تصنعت في مناداتها فرققت من صوتها، وتدللت في نغمتها، فكانت فتنة للسامعين.

وكثيراً ما طال النزاع بين السقا وربة البيت: فهو يقول ان القرب صارت سبعاً وهي تأبى إلا ستاً، ويطول الحوار والجدل والقسم بالإيمان، وأحياناً يتفادى السقا هذا الجدل بطريقة من طريقتين. إحداهما أن يوزع خرزاً من نوع خاص على صاحبة البيت عشراً عشراً، أو عشرين عشرين وكلما أتى بقربة أخذ خرزة، فإذا فرغ الخرز علم أنه تم العدد فأخذ حسابه. وثانيتهما انه كلما أتى بقربة خط على الباب بحجر أبيض خطاً - ولم يكن يعرف الطباشير ولا كتابة الأرقام - وأحياناً يتهم السقا ربة البيت بأنها مسحت خطاً، وأحياناً تتهمه هي أنه خط خطين لقربة واحدة، فإذا تكرر مثل ذلك ابى السقا في معاملة هذا البيت إلا أن يأخذ نصف القرش ثمن القربة الحلوة قبل أن يتحرك من مركزه أمام باب الحارة

وفي يوم من الأيام حول سنة 1900 رأيت الحارة قد مزقت وحفرت فيها الحفر طولاً وعرضاً، ومُدّت المواسير وأدخلت في بيتنا الحنفية واستغنينا عن السقا، وأراحنا الله من سماع النزاع حولنا، وأصبح الماء في كل طبقة من بيتنا، في أسفله وأوسطه وأعلاه، وشعرت أن البيت قد دبت فيه الحياة. فالله يقول (وجعلنا من الماء كل شيء حي) وما أنس لا أنس خادماً أتت منزلنا إذ ذاك من قرية من قرى الفلاحين فعَجبَتْ أشد العجب من الماء يخرج من الحائط ثم لا ينقطع إلا إذا شئنا، وحارت في تعليل ذلك، وأظنها حائرة إلى اليوم إن كانت على قيد الحياة.

وألفنا الماء يخرج من الحائط، وذهب الألف بالعجب، ولكن ظللنا نستضئ بالجاز، وهو ما يسميه سادتنا العلماء زيت البترول، وكان لمضايقاته أشكال من العذاب وألوان، فيوماً ضُرِبْتُ لأني أرسلت لأشتري زجاجة لمبة فكسرت مني في الطريق، وكثيراً ما فسد مفتاحها فإذا أدرناه يميناً أخذ يرتفع اللهب ثم يرمينا بالهباب، وإذا أردناه شمالاً أخذ يهبط حتى لا نرى. وهكذا دواليك، حتى يضيق الصدر ونذهب إلى النوم قبل الموعد - وكثيراً ما نكون في سمر لذيذاً وحديث ظريف أو قراءة مُلِحةّ، ثم نسمع الزجاجة كسرت فينكسر قلبنا لأن الوقت ليس وقت بيع وشراء، أو ننظر فإذا الجاز قد فرغ ولا جاز لنا!

ثم رأينا الأسلاك تحزم البيت، وتحزم كل حجرة فيه وتدخل بيتنا الكهرباء فندير المفتاح يميناً فتضيء الحجرة ونديره شمالاً فتظلم - وأبى الله إلا أن يرزقنا هذه المرة أيضاً بخادم خطبت في قريتها وأرادت السفر لتتزوج، فطلبت منا أن نعطيها لمبة من اللمبات الكهربائية أو لمبتين لتنيرها في حجرتها ليلة زفافها - وكان لهذه الخادم فصل اظرف من هذا وألطف، فقد نظرت أول ما أتت من قريتها إلى السقف فلم تر فيه عروقاً تحمل ألواح الخشب (لانه كان من الأسمنت المسلح) فصعدت إلى السطح لتحقق الأمر لعل السقف مقلوب، وان العروق من فوق والأخشاب من تحت، فلما لم تر عروقاً فوق ولا تحت، أحست بالخيبة في تعليلها، وفوضت إلى الله أمرها!. .

ثم دار الزمن دورته وإذا بعامل يأتي ليحزم البيت من جديد، وإذا بالأسلاك تمد وعدة صغير تركب وجرس يدق وإذا بالتليفون، وإذا بنا نتصل بمن في القاهرة وضواحيها بل بمن في أنحاء القطر ويتصل بنا من أحب، وأحسست إذ ذاك أن البيت قد استوفى حظه من الحياة كما يستوفيها الجسم الحي الراقي من شرايين وأوردة على أدق ما تكون من نظام - وكان لي مع التليفون متاعب أود أحياناً أن لو كان لم يكن، وأحياناً محامد احمد الله ان كان - فقد كنت قاضياً، وبيتي وحده من بيت القضاة فيه تليفون يصلني برئيس المحكمة، فقد يتغيب قاض فجأة عن الجلسة فيدق التليفون - آلو - انتدبناكم اليوم لمحكمة العياط، ومرة أخرى لمحكمة الصف، وقد يكون اليوم ثقيلاً، حر يذيب رأس الضب، وأو برد يقفّ منه الجلد - على كل حال - فكثيراً ما كان نذيراً بشر، وكثيراً ما كان بشيراً بخير.

وأخيراً أتى العامل أول أمس يزيد الأحزمة حزاماً ولكنه في هذه المرة حزام ناقص - خط رأسي وخط أفقي، وآلة لا يأبه لها النظر، وفي ذلك سر عجب، هذا هو الراديو - فيه علم إن شئت، وفن إن أردت، وناطق إن أصغيت، وساكت إن أعرضت، ومتحدث بكل لسان، وواصلك بكل مكان - إن شئت معلماً فمعلم، أو غناء فمغن، أو فناً ففنان - يهزل حيث تحب الهزل، ويجد حيث تهوى الجد. يمتاز عن التليفون بأن التليفون طالب ومطلوب، فإذا كان طالباً فقد يفجعك بخبر، أو يوقظك من نوم، أو يحملك مطلبا يشق عليك، أو يصلك بمحدث يثقل على نفسك، ثم تريد أن تتخلص منه فلا تستطيع، فقد لزم الأمر، وحم القضاء. أما الراديو فليس إلا مطلوبا، هو عبد مطيع، وخادم أمين، إما ساكت أو متكلم بما أحببت، نديم ظريف، جهينة أخبار، وحقيبة أسرار، ترياق الهم، ورقية الأحزان، قد تكون له مساوئ لم أتعرفها فان جربتها فسأحدثك عنها بعد.

أين أنت أيتها الخادم التي عجبت من حنفية الماء، وأين أنت أيتها الأخرى التي عجبت من مصباح الكهرباء، لو كنتما اليوم في بيتنا لشاركتكما العجب، ولوقفت معكما حائراً من العلم الحديث، والفن الحديث، ولانفردت عنكما بالحزن العميق على أن ليس لنا من هذه المخترعات إلا المشاركة في الاستهلاك لا في الإنتاج، وإننا، في مواسير - الماء ومصابيح الكهرباء وآلات الراديو والتليفون - وما إلى ذلك من شؤون المدنية، لنا أن نشتري وليس لنا أن نبيع، ولنا أن نكون من النظارة ولكن ليس لنا أن نكون من الممثلين، ولنا أن نستورد ولكن ليس لنا أن نصدر.

إن كنت أيها الراديو قد دخلت البيت أخيراً فلست آخر ما يدخل، فهم يحدثوننا عن سلك آخر سيدخل قريباً يحمل الصور كما تحمل أنت الصوت، فان كنا الآن نسمع لك فسنسمع بعد ونرى - ومن يدري! لعل أسلاكاً أخرى تدخل توزع الحرارة والبرودة بقدر، وأسلاكاً وأسلاكاً - بل لعل هذه الأسلاك لا تعجب الجيل القادم فيراها بعد ان يتحرر رمزاً لعصر بغيض أولع الناس فيه بالقيود حتى سلسلوا بيوتهم بهذه السلاسل، وسيهزأون بهذا النوع من الحياة الساذجة التي تستعين على الرغبات بالمواسير والأسلاك - وسينظرون إلينا كما ننظر نحن إلى سكان ما قبل التاريخ، وسيعجبون إذا فرحنا باتصالنا بأهل الأرض مع انهم اتصلوا بأهل السماء ,. وستعود البيوت من غير أسلاك، ولكنها وافيه بالمطالب التي نستمتع بها، والتي نحلم بها، والتي لا يقدر خيالنا الآن حتى على الحلم بها، ويخلق ما لا تعلمون.

أحمد أمين