الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 38/العُلوم

مجلة الرسالة/العدد 38/العُلوم

بتاريخ: 26 - 03 - 1934


بيت يهم بالسجود

للدكتور احمد زكي

تتداعى البيوت الكثيرة في كل زمان وفي كل مكان، فلا يسمع بها إلا الجيران، وان تضمّن سقوطها قتل الأنفس والتمثيل بالابدان، فقد يخرج خبرها عن دائرة الجيرة إلى دائرة المدينة وقلما يتعدى حدود القطر والأمة. ولكن بيتاً في مدينة (برانتفورد) بكندا همّ بالسجود أو كاد، أو خيل أنه نوى الصلاة أو أوشك أن ينويها، فاهتزت أسلاك العالم تُبرق بالنبأ إلى أدانيه وأقاصيه، وحظ البيوت كحظ الرجال، رجل يمرض فيموت فلا يجد من يلف عليه كفناً، أو يستر له في التراب شلوا، ورجل يمرض فيتأوّه خفيفاً، فتتردد آهته عاليةً في كل بوق من أبواق الإذاعة، ويتأوه معه العالمون.

على انه لا بدع أن تعطف الأسلاك البرقية على هذا البيت، وان تضطرب باضطرابه، فهو بيت أسرتها العتيق، مسقط رأسها ومهد طفولتها , وفيه وفي المدينة التي حوله كان لعبها ولهو صباها. ذلك البيت هو بيت (جراهام بل) الذي فيه وُلد أول تلفون عرفه الناس، وفيه امتد أول سلك بأول صوت لإنسان.

شكا هذا البيتُ العتيق الأرض التي حملته نصف قرن، لا عن نكران ولا جحود، ولكنه إلفُ هذا الهواء. . . فلم يكد ينطق بالشكاة حتى أشكاه أهله، فامتدت إليه أيد حريصة تنقله حجرا حجرا برسمه ووضعُه، إلى أرض أشدّ، ومنزلٍ آمن

ولد اسكندر جراهام بل عام 1847 في أدنبره عاصمة اسكتلانده، وتعلم في جامعتها، ثم انتقل إلى جامعة لندن ودرس فيها، ثم ساءت صحته فطلب العافية، فنزح مع أبيه إلى كندا عام 1870. ثم انتقل بعد ذلك إلى (بُسنن) بالولايات المتحدة ولم يكن اختراعه التلفون اتفاقه من اتفاقات الحظ المجدود ورمية من غير رام، وإنما كان نتاج دراسة طويلة منظمة وبحث دقيق وصبر شديد. كان أبوه عالماً في السمْعيَّات، فاشترك الاثنان في دراسة الطريقة التي بها ينتج الكلام من فم الإنسان، وفي النغمات الموسيقية للأحبال الصوتية التي بحلقه، وفي مخارج الحروف والأصوات في مختلف اللغات، وفتج الابن مدرسة لتخريج معلمين يعلمون الصمَّ الكلام، وكان دَرَس الكهرباء، واتصل بالفزيائي العالم (هِلْمهولتز) فكان من الطبيعي أن يربط بين الكهرباء والصوت، فكان أن طلب مع فزيائيّ عصره تسخيرّ الكهرباء في حمل الصوت فسبقهم سبقاً قريباً، وحمل اختراعه إلى دار التسجيل، وحمل الأستاذ (اليشاجراي) اختراعاً مثله إلى دار التسجيل ولكن (بل) سبق (جراي) ببضع ساعات، فكان له السبق، وكان له وحده من بعد ذلك تمجيد القرون

والآن مضت سنوات كثيرة على ذلك، وتبع المختْرعَ الأول مخترعون عديدون، قام كل بنصيبه في تنمية التلفون وتمديده، وأولدوا منه التلفون اللاسلكي، واستعان المولود والوالد على ربط الأرض الدوّارة، مشارقها بمغاربها، ويابسها بمائها وسهولها بأحزانها، فأعْدَما بذلك من قيود الإنسان قيدَ الزمان وقيد المكان. فأنت تستطيع الآن وأنت في بيتك أن تتصل في ساعة بنحو أربعين مليون مشترك مفرَّقين في نواحي الأرض المترامية. وقد يقال إن في هذا الكفاية، ولكن الإنسان أمّال لا يفتأ يطلب المزيد. مثال ذلك أنه تضجرَّ من عاملات التلفون ومن إعناتهن، فذهبن، وأصبح التلفون في كثير من البلاد يعمل من نفسه بدون عاملة، ولا تمضي سنوات حتى يعم هذا النظام الجديد العالم كله. وشكا طالب الترنكِ الزمن الذي يقضيه في الانتظار ليتصل بألمانيا أو امريكا، فأصغى العلم إليه، وعن قريب ستتمكن من مخاطبة تلك البلاد والاتصال بها بعد برهات قصيرة من اعتزامك ذلك وشكا رؤساء الأعمال العالمية الواسعة أنهم كثيراً ما يريدون استشارة مرءوسيهم أو وكلائهم أو شركائهم في البلاد المختلفة فيضطرون إلى مكالمة واحد ثم ثان ثم ثالث، وذلك في الأمر الواحد، ثم يجدون بعد ذلك أنهم محتاجون إلى مراجعتهم، وسألوا ألا من سبيل إلى اجتماعهم جميعاً في مؤتمر واحد على التلفون، فقال العلم نعم، وفعلا جُرّبت دعوة أمثال هذه المؤتمرات في إنجلترا، وتحدث المؤتمرون كما لو اجتمعوا في حجرة واحدة على مائدة واحدة. وساعد على هذا النجاح بالطبع أن هؤلاء القوم إذا تناقشوا تكلم منهم واحد فقط واستمع الباقون

وهناك مطالب أخرى، وتكهنات أخْرى، وآمال واسعة ترمي كلها إلى تمكين الإنسان وترفيه. فمن المحتمل القريب الآن ان يتخاطب اثنان فيمتعان السمع والبصر، أما السمع فسمع الكلام، وأما البصر فبصر محيّا من تستمع له تُلقي صورته على لوحة أمامك. على أن هذا إن أمتع أناساً فسيزعج لا شك أناساً آخرين. فليست كل الوجوه يُستحب مرآها. وغير هذا فأنت اليوم تخاطب من تشاء وأنت على أي حال تشاء من لباس أو هيئة، أما غدا ومحدّثك يراك فلابد من استواء الهندام والهيئة المحترمة، وغدا ستضطر إذا أردت تبليغ أسفك لشيء أو حزنك على حادثة أن تتكلف الأسف والحزن لا في صوتك فحسب، بل كذلك في وجهك، وهذا لا شك يزيد في عَنَت الحياة

على ان العلم حسب حساب كل هذا، وعرف ضعف النفوس الإنسإنية كما عرف قوتها، وعرف كذلك ان تقويم المعوج وتكسير الصحيح لا يقع في اختصاصه، لذلك ستجد في الجهاز الجديد زراً صغيراً، تديره شمالا فتحتجب، وتديره يميناً فتْسفِر، فدونك ما شئت من سفور أو حجاب.

احمد زكي