مجلة الرسالة/العدد 379/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 379 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 07 - 10 - 1940 |
جناية رجل
للأستاذ محمد سعيد العريان
. . . أجابني صاحبي:
نعم، لقد كان ذلك عملاً لا ينبغي، على أنه قد أَوْدَى بشرف امرأة، وهناءة رجل، وضَيْعِة طفل يَتِمَ في حياة أبويه، وصيّرني في عين نفسي وفي عيون الناس إلى ما ترى. . . وما أحاول أن أبرئ نفسي؛ بل إنني لأشعر أحياناً أن عليَّ وحدي إثم هذه الجناية التي لم أقترفها ولم يكن لي يدٌ فيها!
وصمت صاحبي برهة وهو يحدِّق في وجهي بعينين فيهما حيرة وارتياب؛ ثم استأنف الحديث:
بلى، وأقسم لك يا صاحبي، ولكنني كنتُ رجلاً كما تعرف؛ فلم يكن لي أملٌ في امرأة ولم يكن لامرأة حظٌّ مني؛ وأين تجد المرأة عندي ما يُغريها بي وأين أجد من نفسي؟. . . لقد كنت أعرف نفسي عرفاناً حقاً، ولم يكن يخفى عليّ ما يتحدَّث به الرجال والنساء عني، وما تتحدث به إليّ مِرآتي؛ لقد كنت وما يطيب لي أن أنظر إلى المرآة، كأني حين أنظر إلى صورتي بازائي أرى شخصاً غريباً عني بغيضاً إليّ لا أطيق أن أراه أو أنظر إلى صورته؛ وحين يتفق لي أن أرى شخصاً في وجهه بعضُ ما أعرف لنفسي من الدمامة، أزوي عنه وجهي، كأنما يذكّرني مرآه بشخص أكره!. . .
أراك تنكر عليّ ما أقول يا صديقي، ولكن ذلك كان هو رأيي في نفسي على حقيقته؛ وقد يكون رأياً غريباً، فما أعرف فيما قرأت أو سمعت أن أحداً كان له في نفسه مثلُ رأيي في نفسي وإن بلغت دمامته الحد الذي يوشك أن يبعده من حقيقته الآدمية!
. . . وكنت مؤمناً بأن القدر الذي تكتنفني صروفه منذ الطفولة قد هيأني لشيء غير ما يتهيأ له الرجال في عالم المرأة، من الحب والزواج والأبوّة؛ كأنما كانت تلك العلة التي شوّهتْ وجهي صغيراً، وتلك الحادثة أصابتني بالعرج صبياً - تحوُّلاً في إنسانيتي، وحجازاً بيني وبين أحلام الطبيعة التي تهمس في الدم وتوسوس في القلب. وشعرت منذ فقدتُ أمي ولم أتجاوز السابعة بعد، أن آخر سبب كان يربطني بالمرأة قد انقطع، فليستْ من دنياي ولستُ من دنياها؛ وعشت عمري في هذه الحقيقة من بعد، لا تنظر عيناي إلى امرأة ولا أحس وقع نظرة امرأة، ولو قد أحسستها مرة لخجلتُ، لعلمي أنها لا تنظر حين تنظر إليّ - رجلاً مما يقع في عالمها، ولكنها تنظر مسخاً مشوَّهاً يشير إلى آية من آيات القدرة الخالقة!
. . . كذلك كنت عند نفسي حتى لقيتها، فأرتني من نفسي صورة غير ما كنت أعرف لنفسي؛ وكشفت لي عن صورتي في مرآتها!. . .
. . . كنت يوم ذاك جالساً إلى مكتبي أعالج عملاً دقيقاً لا يصلح أن يتولاه غيري، حين دخل عليّ حاجبي يؤذنني أن سيدة تريد لقائي؛ ونهرت حاجبي إذ قطعني عن عملي من أجل امرأة؛ وما لي وللنساء؟ ما شأنهن وشأني؟
ودعوت شاباً من مساعديّ ليلقاها ويتقّصى أمرها فيخبرني؛ وكثيراً ما كنتُ أندبه لمثل ذلك فيكفيني ويجزئ عني؛ ولكنه في هذه المرة لم يُغْنِ عني شيئاً، وعاد إليّ ينبئني أن السيدة لا تريد لقاء أحد غير؛ وابتسمتُ على غيظ حين أنبأني ذلك؛ فقد كنت أعلم من طول خبرتي في هذا العمل الذي أتولاه، ما تدعوني له مثل هذه الزائرة؛ فما هو إلا لاعتقادها أنني - وأنا رئيس المكتب - أقدَرُ على قضاء حاجتها من غيري، وإن كانت حاجتها من التفاهة بحيث يستطيع ساعي المكتب أن يقطع فيها برأي!. . . ذلك رأي النساء جميعاً؛ وإن إحداهن ليبلغ منها الإلحاح في طلب لقائي أن تضجرني وتحرج صدري، فلا أجد عقاباً لها على ذلك إلا أن أخرج إليها فتراني. . .
. . . ولم أكن في ذلك اليوم متهيئاً لاستقبال أحد، ولم تكن بي رغبة إلى عقاب امرأة؛ فطلبت إلى حاجبي أن يعتذر إليها، وخرجت السيدة ولكنها لم تلبث أن عادت، وعاد حاجبي يؤذنني برغبتها في لقائي؛ وتكرر بيننا الرجاء والاعتذار، ثم لم أجد بدَّاً في النهاية من الخروج إليها. . .
ورأيتها ورأتني، ولكني لم أر في وجهها ذلك المعنى الذي طالما رأيته في وجوه النساء حين أجلس إلى امرأةٍ منهم. ولأول مرة منذ ماتت أمي، جلست إلى امرأة أتحدث إليها وأستمع لما تقول، وإني لأحس في نفسي برد الراحة وروح الاطمئنان. لا أعني أنها ذكرتني أمي، فقد كانت أصغر كثيراً مما ظننت وأشبّ شباباً؛ ولكني شعرت إذ جلست إليها شعوراً لم أحسّ مثله منذ بضع عشرة سنة، منذ ماتت المرأة الوحيدة التي منحتني حبها واستحقت حبي!
كان في وجهها سماحةٌ وطهر، وفي عينيها نظرة طفل يرى كل شيء جديداً على عينيه، وقد افترَّت شفتاها عن ابتسامةٍ حزينة تكتم معنى وتفصح عن معنى.
لم أشك حين رأيتها أنها عذراء، فتاة على طبيعتها الطاهرة لم تطبعها الحياة بعدُ بذلك الطابع المصنوع الذي يجعل لكل شيء لونين في ظاهره وباطنه. وأقبلت عليّ تحدثني حديثها. لم يكن في صوتها ولا في نظراتها شيء يدل على أنها تراني رأي الناس وتنظر إليّ.
. . . أخشى أن أقول لك يا صديقي إنها كانت تحدثني كأنما تناجي حبيباً عزيزاً لقاؤه! ولكني كذلك شعرت وقتئذ!
ومضت في حديثها، ولم أسمع حرفاً واحداً مما قالت؛ إذ كنت وقتئذ في حديث مع نفسي؛ فلما أوشكت أن تنتهي من عرض أمرها وراحت تسألني رأيي، بدأت أصغي إليها. . . وكان لها مشكلة معقدة تقتضي تدبيراً وأناة وحسن احتيال؛ وعنيت بأمرها.
أتراني يا صديقي في حاجة إلى التأكيد بأن عنايتي بأمرها لم تكن شيئاً على خلاف عادتي في مثل مشكلتها؛ ولكنك مصدقي ولا شك، فقد كنت إلى تلك اللحظة من كنت؛ ليس لي همٌّ إلا عملي وواجبي!
وزارتني بعدها في مكتبي مرة ومرة ومرات؛ وتوثقت بيننا أواصر المودة، وألفت أن تراني وأن تتحدث إلي، وألفت أن أستمع إليها، وكأنما كنت في نومة ثقيلة ثم استيقظت، وإنجاب عني غشاء صفيق كان يلقي علي كل شيء من أشياء الحياة ظلاً يبغضِّه إلي، وتزّينت لي الحياة؛ وكأنما كانت مرآتي صدئة فجلتها بأنفاسها فعادت مصقولة لامعة!
ليس يعنيك كثيراً يا صديقي أن تعرف كل شيء؛ ولكن الذي يعنيني أن تعرفه عرفان اليقين، أنني لم أتودد إليها ولم أحاول اجتذابها؛ فقد كانت أسرع إلي من خطرة الأمل؛ فما هي إلا مرات التقيناها حتى كان كل شيء منها يتحدث إليّ حديثاً أجد صداه في نفسي؛ ومن غير مؤامرة ولا تدبير، رأيتني امشي معها ذراعاً إلى ذراع في الطريق!. . .
لم أنم تلك الليلة ولم أذق طعم الغمض، لعلك تحسب ذلك يا صديقي فرحاً بتلك النعمة التي سيقت إليّ من حيث لا أدري! كلا، ولا بعض هذا، لقد سهرت تلك الليلة إلى الصباح في قلق وهم؛ وفي حديث بيني وبين نفسي كله تأنيب وملامة؛ لقد كنت موقناً أنني لست الرجل الذي تؤهله صفاته ليكون حبيباً يلم طيفه بخيال امرأة؛ ولم أكن من الغفلة بحيث أنسى بسهولة حقيقتي التي عشت بها ما فات من أيامي؛ وكنت خائفاً أن يكون قد بدر مني شيء على هوى أشعرها أملاً واخفي عنها حقيقة، فانقادت إليّ مخدوعة وعلى عينيها غشاوة.
بلى، لقد كنت سعيداً بحبها، ولكنني لم أحاول قط أن أشعرها معنى يدنيها إلي ويزيدني حباً إليها؛ وكان ضميري يخادعني حين كنت استمع إلى نجواه في نفسي قائلاً: (لا عليك ملامة إذ كانت تحبك دون أن تطلب إليها!) ويا لها خدعة! وهل زادها حباً لي إلا شعورها بأنها تجد لعواطفها في نفسي استجابة؟. . . وفي مرات كثيرة، كان يثوب إليّ رشادي ويغيب عني هواي، فأهم أن أقول لها وإنها لجالسةٌ بإزائي: (أنظري إليّ! هل ترينني أصلح للحب؟)، ولكني لم أجرؤ في مرة واحدة من هذه المرات أن أقولها؛ لأن هواي كان يغلبني على رأيي؛ فتقول لي نفسي: (أو ليست تراك دون أن تطلب إليها أن تنظر؟).
وحتى يوم أسلمت لي شفتيها وأغمضت عينيها في مثل غشيه الوحي، لم يقع في نفسي إلا أنه عمل منها لا مني، والقبلة المعسولة ما زال يرن صداها في قلبي!
ولكنني مع كل ذلك يا صديقي لم يغب عني قط، أن ذلك عمل لا ينبغي؛ كانت هذه الحقيقة قارة في أعماقي، على الرغم من هوى النفس وخداع الضمير؛ ولم أكن يومئذ أعرف، فكيف لو عرفت؟
. . . ومضت بنا الأيام على ما قدّر لي ولها، لم أحاول أن أسألها شيئاً ولم تحاول أن تخفي عليّ؛ ومع ذلك فقد ظللت دهراً لا أعرف، على غير إرادةٍ مني ولا إرادة منها، ولم تكن في يقيني إلا فتاةً على طبيعتها الطاهرة، لم يزل بينها وبين الحياة باب مغلق. . . وأغناني يقيني عن سؤالها، وحال بيني وبين التماس أسباب المعرفة أنني لم أكن أريد أن يكون مني عملٌ إيجابي يشعرها أن لي بأمرها عناية فأمد لها أسباب المنى!
ثم كان يوم وكانت الصلة بيننا قد توثقت حتى لا سرّ بيني وبينها، وجلست تتحدث إليّ، وعرفت. . .
يا لله!. . . ليتني كنت ادري! وهل كان يدور بخاطري يوماً أن هذه الفتاة التي بعيني هي امرأة، وهي زوجٌ قد انفتح الباب المغلق بينها وبين الحياة. . .!
لم تكن خادعةً فيما أعلم حين كتمت عني حديثها طوال هذه الأشهر، ولكنها لم تجد سبيلاً إلى أن تقول، فصمتت، فلما أمكنتها الفرصة جاء الحديث لوقته فراحت تقص عليّ. . .
وشعرت بالغيرة تلذغ قلبي لأول مرة، غير رجلٍ يحاول أن يستأثر بما لا يملك دون الذي يملك؛ ولكني لم ألبث أن فئت إلى رشادي واستيقظ ضميري، فرحت أوبخ نفسي على ما كان وأشبعها تعنيفاً وملامة، ولكني لم أجرؤ أن أقول.
لم يكن لها خيارٌ فيما فعلت. هكذا حكمتُ حين قصت عليّ خبرها؛ فقد ماتت أختها عن بنين وبنات وزوجٍ في سن أبيها له مالٌ وجاهٌ وشفاعةٌ ويد مبسوطة؛ وكانت هي يومئذ تلميذة في السادسة عشرة، دنياها معلم وكتاب ومسطرة. . . وعادت يوماً من مدرستها فإذا في غرفة الاستقبال كاتب وشهود، وباتت مُسمّاة على زوج أختها، ثم أصبحت زوجاً وأماً لبنين وبنات وما حملت ولا ولدت!
لم تفهم شيئاً مما مرّ بها إلا كما تفهم كل فتاة في بيت أبيها أن يقال لها قومي فتقوم، واجلسي فتجلس!
وانتقلت من دار إلى دار ولكن قلبها لم يزل على نقاوته وطهره، في عينيها نظرة الطفل، يرى كل شيء جديداً على عينيه، وعلى شفتيها ابتسامتها الصامتة المبينة، وفي رأسها أحلامها، ثم التقينا.
. . . هذا ما قالت لي؛ وقال لي ضميري: ويحك يا شقي! إنك تحاول إفساد امرأة على رَجلها!
وقال لي هواي: وماذا فعلت؟ أيكون الاستماع إلى شقية بائسة تشكو بثها محاولة لإفساد امرأة؟ وزدت من يومئذ آلاماً إلى آلامي، وزدت إلى ذلك إيماناً بنفسي وأيقنت من يومئذ أنني شيء، وأيقنت إلى ذلك أنني في عمل لا ينبغي!
وحاولت منذ عرفت أن أبتعد عنها وإن قلبي لينازعني إليها، فلا أنا صممت فيما حاولت ولا هدأ قلبي؛ وعدت بين نزاع القلب وتأنيب الضمير في شقاوة وألم؛ ولكنني كنت بشقاوتي سعيداً!
ويلي! ليتني عرفت يومئذ كل شيء! أم ليتني مضيت فيما صممت ولو كان فيه تدميري وهلاكي؛ إذن لاحتفظت لنفسي براحة الضمير إذ فقدت راحة القلب! ولكنني لم أكن اعرف؛ وكان الدهر يدخر لي البقية. . .
. . . ولقيت صديقي (فلاناً) على غير ميعاد؛ وجلس يتحدث إلي. . . وأرهفت أذني للسمع، وخيل إليّ وهو على مقربة مني وأنا أستمع إليه أن بيني وبينه من البعد مسافة تسافر فيها الأحلام وتثوب؛ وجثم على صدري كابوس مفزع لا يخف ولا يتحلحل؛ وهممت أن أتكلم فما أطقت الكلام؛ ودار رأسي مثل خذروف الوليد بين قوتين تتجاذبانه، وتناثرت أشلاءً على مكاني. . .
ولما أفقت بعد برهة لم يكن بجانبي أحد غيره، ورن صوته في مسمعي: (رفقاً بنفسك يا صديقي! إنك تتعب نفسك أكثر مما تطيق!).
ثم خلفني وآلامي، ومضى! إذن فهو ذاك؟ إنها زوجته! وهجرت المدينة يا صديقي إلى حيث أحاول التكفير عن خطيئتي والفرار بنفسي؛ وهجرتها بلا وداع، ولكنها لم تتركني وشأني؛ لقد أصابها من ذلك مثل سعار الجوع في الكلب الضالّ
وكان زوجها يتحدث إليها حديثاً من حديثه، فحسبته يعرّض بها، فثارت به، ثم اندفعت في ثورتها؛ وابتسم الرجل وتمتم بكلمات، وألقى الشيطان في أذنها كلمات غير ما قال؛ فزادت ثورةً وهياجاً، وقالت: (بلى، إنني أحبه، وسأتبعه إلى آخر الدنيا!).
وعلا بكاء طفل، طفلٌ رضيع لم يفتح عينيه على الحياة إلا منذ أيام معدودات؛ وقلب الرجل عينيه بين الطفل وأمه، وقال في همس: (إذن فهو ولده؟. . .)، وفتحت الأم فمها مدهوشة وبرّقت، وسألت: (أتراه يظن. . .! ويلي!).
ونالني رشاشها على مبعدة يا صديقي وما جنيت جناية. . .
. . . ذلك كل ما كان من أمري وأمرها؛ أم تراني جنيت إذ أحببت امرأةً أحبَّتني، أنا الذي عاش ما عاش من عمره لم يؤمل أن تعطف عليه امرأة؟. . . نعم، لقد كان ذلك عملاً لا ينبغي، ولكن. . .
قلت: (ولكنه أودى بشرف امرأة، وهناءة رجل، وضَيْعةِ طفل يَتِمَ في حياة أبويه، وصيّرك في أعين الناس إلى ما ترى. . . أنتَ ما جنيت يا صديقي، ولكن ثم جنايةَ رجل؛ فمن جناها؟).
محمد سعيد العريان