مجلة الرسالة/العدد 378/في النقد الأدبي
→ أوليفر جوزيف لودج | مجلة الرسالة - العدد 378 في النقد الأدبي [[مؤلف:|]] |
عراك في معترك. . . ← |
بتاريخ: 30 - 09 - 1940 |
أسلوب أدهم
في كتبه ومباحثه
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كان المرحوم إسماعيل أدهم شخصية في الأدب النقدي الحديث، تستحق الدراسة من نواح متعددة. وإذا كان عرف عنه دائماً زيغ في العقيدة، أو تعصب للترك على العرب والإسلام فقد عرف عنه بجانب ذلك كثير من دقة البحث واستقصاء الدرس واستكمال عدة النقد اللازمة للناقد الحديث. وامتازت كتاباته ومباحثه الواسعة المنتشرة هنا وهناك بطريقة جرى عليها علماء المشرقيات في مباحثهم. وهي طريقة غير هينة ولا معبدة لأنها تستلزم صبراً كثيراً وقراءة كثيرة وربطاً محكماً لكل ما يقرأ وإدراكاً واسعاً يستطيع به صاحبه الحكم في صحة، غير جانح إلى خطأ، أو مائل إلى انحراف عن الجادة.
ولقد أثار موت أدهم - بالطريقة التي اختارها - أموراً كثيرة، تعرض فيها كثير من الناس لأمور ما كان يليق التعرض لها، لأنها تمس شخصه هو، وتلمس جزءاً خصوصياً من حياته. وكان الأولى بهم لو وقفوا أمام أدبه وتراثه الفكري فاستعرضوه وبحثوه وأشبعوه درساً وتناولوه تناول الناقد - في رفق أو في غير رفق - لأنه تراث لم يعد من ملك إسماعيل أدهم، بل عاد من ملك الزمن ومن حق التاريخ.
ولا نعرض هنا لما قيل في أدهم وما قيل عنه، فليس ذلك وارداً على بحثنا اليوم ولا داخلاً فيه. ولا شك أن المغامز التي أثيرت حوله ستمضي، وسيبقى الكلام في عقيدته مسألة حسابها بينه وبين ربه.
والكلام عن أدهم في أي ناحية من نواحيه قد يكون شائكاً، وقد يكون دقيقاً، وقد يكون فيه غير قليل من الحرج، فليس من أسهل المواقف - في بيئة شرقية محافظة - أن يطيب الكلام عن أدهم المعروف بنزعاته الحرة غير المبالية بتقليد أو سنة.
وليس من أهون المواقف أن يكتب عربي عن شاب تركي الأب ألماني الأم أو صقلبيها كان يرى ويؤمن باحتقار للترك للعرب.
وليس من أحب المواقف إلى النفس أن يكتب كاتب يريد الإنصاف عن أديب تعددت فيه مذاهب الرأي، وأحيط علمه وعرفانه الألمانية والروسية وقيم شهاداته العلمية بكثير من الشك.
نعم، ليس الكلام عن أدهم سهلاً ولا ليناً، ولا مما يرتاح إليه بعض الناس ممن يرون فيه رأياً خاصاً، ويذهبون في الحكم عليه مذهباً معيناً.
على أن الناقد لا يتقيد بما يتقيد به سائر الناس، ولا يخضع نفسه لعاطفة ثائرة قد يكون لها أثر سيئ في الحكم على المنقود. فلقد كان في أبي العلاء المعري شك وسخرية وجرأة على الأديان، إلا أن ذلك لا يمنع من وضعه في المنزل الخليق به في أدب العرب. أما المتزمتون الذين يتحرجون حتى من حفظ شعر لأبي العلاء لرميه بالزندقة، فأولئك قوم لا نكتب لهم، ولا نود أن يقع حديثنا في أيديهم. . . . . .
على أن أدهم - كما قلنا - قد مات وراح في الطريق الذي نروح ونغدو له في الحياة. . . وراح معه شكه وإلحاده ليلقى بهما وجه الله الذي سيرى عنده اليقين. فمن السخف أن نغضب ونسخط على أدهم، لأن الله لم يهده كما هدى غيره. ومن الرحمة أن نرثي لأدهم بسبب هذه الحيرة السوداء التي سودت عليه آفاق الطريق. وقد يكون من المفيد أن يتفضل أحد الباحثين بمعالجة هذا الموضوع - موضوع إلحاد أدهم - والكشف عن بواعثه والظروف التي هيأت له، مستعيناً في ذلك بما كتبه هو عن نفسه في كتابه (لماذا أنا ملحد؟)
يجد المتتبع لأسلوب أدهم أنه لم يسلم من وقوع الأخطاء النحوية فيه. وكان أصحاب الصحف والمجلات التي ينشر فيها يعانون كثيراً في سبيل إصلاح هذه الأخطاء وردها إلى وجه الصحة. على أن أدهم في مباحثه الأخيرة قلت عنده هذه الأخطاء ولكنها لم تنعدم انعداماً تاماً.
وكان خصوم أدهم يجدون في هذه المآخذ وفي غيرها فرصة للتعريض بقيمة ما يكتبه. على أن ذلك عند المنصف لا يحط من القيمة العلمية لمباحثه.
وضعف إسماعيل أدهم في قواعد العربية من السهل رده إلى نشأته في بيت غريب عن العربية. وكان للسنوات التي قضاها في تركيا كما نعرف - وفي روسيا كما يقال - أثر في زيادة هذا الضعف. إلا أنه بدأ منذ النصف الأول من عام سنة 1940 يفطن إلى أخطائه.
ولعله اكتسب ذلك من نشر مقالاته مصححة من قلم التحرير فلا يقع خطأ في مقالاته المقبلة.
وكان بجانب ذلك لا يحرص على استعمال الألفاظ العربية العريقة، بل كان يعدل عنها إلى الألفاظ الدخيلة أو غير الصحيحة أو الألفاظ الإفرنجية نفسها مكتوبة بحروف عربية.
وقد لاحظت عليه كثرة استعماله للفظة (رومانتيكية) بدلاً من (ابتداعية) ويقول عن ترجمة البستاني للإلياذة إنها (ملحمة شعرية زحمة بمثولوجيتها) بدلاً من أساطيرها، وأكثر ما تلاحظ عليه هذه الطريقة في الكتابات الأولى التي كتبها بين سنتي 1935، 1938. وكتابه الموسوم (الزهاوي الشاعر) مشحون بأمثال هذه الألفاظ الإفرنجية المنبثة في خلال كتاباته العربية.
إلا إنه في السنتين الأخيرتين قبل وفاته عدل عن هذه الطريقة إلى الطريقة الأخرى المعقولة، وهي ذكر الكلمة العربية الأصيلة مع ذكر ما يقابلها في الإنجليزية والفرنسية بين قوسين بحروف لاتينية. وهذه الطريقة تظهر بشكل واضح في أبحاثه العميقة عن شاعر الأقطار العربية خليل مطران التي نشرت تباعاً في مجلة (المقتطف) في عام 1939 وبعض شهور من عام 1940. وعلى سبيل التمثيل نذكر ما يأتي: يقول في أحد هذه المباحث: (إن الخيال الشعري عند مطران إضافي ويقول أيضاً في الصفحة نفسها: (وهذه أشياء يمكنك أن تخلص بها كقاعدة إمعانك في مطالعة شعر ديوان الخليل). ويقول في موضع آخر: (وهي عناصر العاطفة والخيال والفكرة). ويقول في موضع آخر عن صناعة مطران الفنية: (فإن الكمال في الشعر يقوم على أساس الاتزان بين الروح الشعرية والتعبير الشعري من جهة من جهاته).
وهكذا تجد الأمثلة كثيرة على ميله أخيراً إلى استعمال اللفظ العربي والعدول به عن اللفظ الإفرنجي الذي كان يشيع في أوليات مقالاته. . .
وقد لا أكون مخطئاً في الظن أن السر في هذا العدول هو كثرة ما تعرض له من النقد من ناحية - فقد كانت طريقة حشد الألفاظ الإفرنجية على اللغة العربية لا ترضى كثيراً من القراء - ومن ناحية أخرى أراد أن يظهر لبعض الغامزين عليه تمكنه من اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
وبالرغم من ذلك كله فإن أسلوب إسماعيل أدهم يتميز من غيره من الباحثين المعاصرين بطابع خاص انفرد به وحده، وهذا الطابع تظهر فيه شخصية أدهم ظهوراً مستقلاً.
وقد بلغ من استقلال هذه الشخصية الأسلوبية وتفردها أنها كانت تنم عن صاحبها حتى ولو لم يعرف القارئ اسم كاتب المقال. وهو في ذلك يمتاز من كثير من الباحثين أو الكاتبين المعاصرين الذين يكادون يذوبون في غيرهم كما يذوب الثلج في الوهج. . . وهذه الميزة الفريدة لأدهم هي التي أعطته مكاناً طيباً في عالم النقد، فقد كان يُنظر إليه نظرة اعتبار من صاحب (الحديث) في حلب، وأصحاب (المقتطف) في مصر، وصاحب (الرسالة) الذي أفسح له صدرها غير عابئ بما كان ينسج حول أدهم وما يحاك له. . .
على أن هذه الشخصية الأسلوبية لأدهم لا تعني أنها استقلت بمقوّمات أو حسنات فقط، فقد كان فيها بعض العيب - وسبحان الكامل - فقد كان فيها شيء من لكنة الأعاجم. إلا أنه لحسن الحظ أن هذه اللكنة الموروثة فيه لم تفسد معاني كتابته، وإن كانت تضيع من عربيتها.
ويظهر أنه كان فقير المادة اللغوية العربية. وهو معذور في ذلك كل العذر لعجمته أولاً ولصغر سنه ثانياً. فلم يتح له عمره القصير أن يحيط بثروة لغوية واسعة، وإن كنا نلاحظ عليه ازدياد محصوله اللغوي من عام إلى عام.
ويؤيد ما نقول أنه كان له كثير من الألفاظ والتعبيرات والتراكيب الخاصة به يديرها في كل مبحث من مباحثه، ويكررها في كل كتاب من كتبه، وقد ينسى فيكررها في الصفحة أو الصفحتين المتقاربتين ثلاث مرات أو أكثر، ولسنا نلقي الكلام هنا من غير دليل، فهو يقول في أحد كتبه (تقطعت نتيجة له أوصال عقليته التقليدية) ويقول في الصفحة المقابلة من الكتاب نفسه (تقطعت أوصال عقليته التقليدية تحت محراث العلم والثقافة الغربية)، ويقول في صفحة 18 من الكتاب نفسه (فتقطعت عند الكثيرين من أبناء الشرق العربي أوصال العقلية القديمة).
وقد يكون العلة في هذا التكرير الواضح في كتابته ضعفُ محصول اللغة عنده كما أسلفت، وقد يكون له سبب آخر غير ذلك ولكن الذي لا شك فيه أن هذه الظاهرة في أسلوبه تدل دلالة قاطعة على عدم مواتاة الفيض التعبيري عند الكاتب.
ومن أساليبه الخاصة المتكررة عنده والغالبة فيما يكتب ما يأتي (تموج الإحساس. طفت موجة وسط هذه الموجات. استقوت على عجلة الزمن).
وفي كتابته فيض غزير من الألفاظ العلمية الخاصة التي تستعمل في العلوم الطبيعية أو الرياضية، ولا شأن لها مطلقاً بمباحث الأدب والنقد، وعلة ذلك أنه كان علمي العقل، علمي الدراسة، ثم اتخذ الاشتغال بالمباحث الأدبية غاية له بعد ذلك، فانساب إلى كتابته الأدبية سيل عريض من ألفاظ كانت تشغل ذهنه في علم الرياضة والطبيعة وغيرهما.
ومقالاته وكتبه مملوءة بهذه الألفاظ، ونذكر هنا على سبيل المثال بعضاً منها. فهو يقول في كتابه عن مطران (ص108) (لأن الأصل في التعصب انطلاق الشحنات المفرغة من الأعصاب).
ويقول في الكتاب نفسه ص112 (وهذا الجو يفعل فعله في النفوس فعل مجال مغناطيسي في برادة الحديد). ويذكر كثيراً (التعادل) (والتقيض) (والتمدد) (والطيوف) (وعالم الجزئيات) (والدقائق) (والذرات) ويسمى قوى الحب (جاذبية).
أما التحقيق العلمي في مباحثه واتباعه وسائل علماء المشرقيات في بحوثهم، واهتمامه بالمصادر وذكرها، والتمويل عليها دائماً للاستشهاد، فذلك كله معروف عن كتابته. وهي وسائل تحتاج بغير شك إلى كثير من المعاناة والصبر والزمن.
وقد انتفع رحمه الله بكثير من الأبحاث التي كانت دائرة في السنوات العشر الأخيرة في الصحف العربية: (كالمقتطف)، و (أبولو)، و (الهلال)، و (السياسة الأسبوعية)، و (الرسالة). وكان يرجع إلى هذه الأبحاث مستشهداً على ما يعالجه هو نفسه من المباحث. ونظرة واحدة إلى هوامش مقالاته وكتبه تؤيد هذا الكلام.
لقد أصبح أدب أدهم الآن في ذمة التاريخ، فليكتب عنه المنصفون ليكشفوا النواحي الغامضة من أديب عاش عيشة الغموض ومات ميتة الغموض، بعد أن ترك خلفه آثاراً جليلة جريئة في عالم النقد الحديث.
(القاهرة)
محمد عبد الغني حسن