مجلة الرسالة/العدد 377/الحديث ذو شجون
→ القدوة والإصلاح | مجلة الرسالة - العدد 377 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
أخلاق القرآن ← |
بتاريخ: 23 - 09 - 1940 |
للدكتور زكي مبارك
شاعر ينبغ فوق سرير المرض - الملك الشبل - وإذا حييتم
بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها - لا خوف من المستقبل
مع صحة العزائم والقلوب
شاعر ينبغ فوق سرير المرض
مضت سبعة أعوام والأستاذ صالح جودت يحقد عليّ أبشع الحقد لسكوتي عن التنويه بمواهبه الشعرية، وما هدّأ نار الحقد في صدره إلا عرفانه بأني لا أخصه بذلك السكوت وإنما هو مبدأ ارتضيته ودرجت عليه، وذلك المبدأ هو الضن المطلق بتشجيع الناشئين، لأني أعتقد أن كل شيء يجوز فيه التشجيع إلا الأدب والبيان، فالتشجيع هنا مفسدة ولا يقع إلا من (الجماعة) الذين يحتاجون إلى أسندة من الهتاف والتصفيق، والتحدث عنهم بحق وبغير حق في الأندية والقهوات والجرائد والمجلات.
وهذا المبدأ هو الذي فرض على جمهور من شباب هذا الجيل أن ينفضوا من حولي، فما يهمهم أن يذكروني بالجميل في مجلة أو جريدة، لأنهم لا يذكرون أني طوقت أعناقهم بشيء من التشجيع، وأنا غير آسف على ما فاتني من ذلك الحظ الجزيل!
ولو أني استبحت التفريط في الحرص على هذا المبدأ مرة واحدة لاستبحته في معاملة الأستاذ صالح جودت، وهو صديق لا أذكر أنه قصّر في حفظ العهد إلا باتهامي بالسكوت عن التنويه بمواهبه الشعرية، وهو اتهام مردود، لأني لا أذكر أن أشعاره نقلت قلبي من مكان إلى مكان حتى أجشّم نفسي مشقة الدرس لشعره البليغ!
كان صالح جودت يتقاضاني الكلام عن شعره في كل لقاء، وكنت أجيب بأن ذلك سيكون يوم يظفر بدرجة من درجات الجامعة المصرية، لأني أخشى إن شجعته أن ينصرف عن الدرس وينقطع لقرض الشعر ومراسلة الجرائد والمجلات. فلما سمع صالح نصيحتي وظفر بالدرجة المنشودة جاء يذكرني بما كنت وعدت، فهل وفيت بما وعدت؟
حملني الزهد في اجتلاب المودّات على وصل السكوت بالسكوت، كما كنت صنعت ف معاملة صاحب (الجندول)
ثم شاءت الأيام أن أسمع أن صالحاً وقذه المرض فلم يعد بهجة الأندية الأدبية، ولم يبق رجاء في التحدث إليه إلا بعد استئذان الطبيب
فإن كنتم سمعتم أن الشعراء وصفوا الدنيا بالخيانة والغدر والعقوق فاعرفوا أن ذلك لم يحق على الدنيا إلا لبغيها الأثيم على مثل هذا الشاعر، وله قلب أطيب وأطهر من قطرات الندى فوق أزهار الربيع
ومرّت ثوانٍ ودقائق وساعات وأيام وليالٍ وأسابيع وأشهر ولم يخرج صالح من سجن المرض، فما أطول شقائي بمحنتك القاسية، أيها الصديق العزيز!
وعلى حين غفلة أسمع أن الفتى الذي لم يُرضني شعره قد نبغ فجأة فوق سرير المرض، فهو الذي يقول في تصوير ما بقي من أوطار هواه في دنياه:
فليرحم الله آمالي وأهوائي ... إني قنعت بهذا المخدَع النائي
بقية العمر أيامٌ تدبٌ على ... صدرٍ تهدَّم إلا بعض أشلاء
أعيشها ناسكاً في ركن صومعةٍ ... قامت على صخرةٍ كالموت صمّاء
يبدو خيال الأماني لي فأطرده ... حتى كأن الأماني بعض أعدائي
ثم يصف عُزلة المستشفى وأحوال ساكنيه فيقول:
أوّاه من عُزلٍة كالسجن مغلقةٍ ... على جراحٍ وآلام وأرزاء
ما هذه اُلجثث الملقاة في سُرُر ... أنصاف موتى على أنصاف أحياء
صُفر الوجوه كأن السقم عفَّرهم ... بحفنةٍ من تراب القبر صفراء
للآه فيهم تراتيلٌ منغَّمةٌ ... تنسابُ من قَصَباِت نصف خرساء
وما لهم من نهار فيه مرحمةٌ ... ولا لهم ليلةٌ ليست بليلاء
ثم يلتفت إلى الممرضة الحسناء - ومن تقاليد المستشفيات أن تكون الممرضات صِباح الوجوه إلى حدّ الفتون ليغرسن بذور الأمل والحياة في صدور المكروبين - يتلفت إلى الممرضة فيقول:
مَن يا ممرَّضتي الحسناء قدَّر لي ... أن ألتقيك بأرضٍ غير حسناء
ماذا أتى بي هنا؟ ما خَطْبُ عافيتي؟ ... وكيف غال شبابي غائل الداء قد كان لي موعدٌ في الصيف مرتقبٌ ... على الشواطئ بين (الرمل) والماء
فما لذا الصيف يمضي بي على جبل ... جَهنّميِّ اللظى في جوف صحراء
وأنتِ. . . هل عطفك المبِقي على رمقي ... عطف المحبين أم عطف الأطباء
إن كان ذاك فيا سعدي ويا فرحي ... أو كان هذا فإني في الأذلاء
الحب يشهد أني يا ممرِّضتي ... ما صدَّني عنك إلا فرط إعيائي
أما بعد فهذه الشاعرية ليست صحوة الموت، يا صالح، وإنما هي الفجر الصادق، وسترجع إلينا بعد أيام وأنت في غاية من عافية البدن والروح.
لم أسأل عنك في علتك، يا صالح، لأني شغلت بك عنك، ولو سألت قلبك لشهد بأن عطفي عليك وأنا بعيد كان أرفق من عطف طبيبك وهو قريب، وأصدق الحديث حديث القلوب.
سترجع إلينا يا صالح، بعد أيام، وسنعيد سهراتنا في أندية القاهرة، وسأسمع لجاجتك في العتاب، وسأقول إن البلبل لا يجيد السجع إلا وهو سجين، لأني عرفتُ شاعراً لم يُجد الشعر إلا وهو عليل.
الملك الشبل
لم أسمع أن جلالة الملك فيصل الثاني يوصف إلا بعبارة (الملك الطّفل) وهي عبارة جافية، فأرجو من الشعراء والكتاب أن يصفوه بعبارة (الملك الشبل) فهي بمقامه أنسب وأليق.
وأذكر بهذه المناسبة أن صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا تلطف فدعاني إلى مكتبه ليقدّم إليّ (وسام الرافدين) المهدي إلي من حكومة العراق
وقد وثب قلبي من الفرح والانشراح لقيمة الهدية ولقيمة من أتلقى من يده الهدية، فليس من الميسور في كل وقت أن تكون وزارة المعارف إلى أديب في مثل منزلة الدكتور هيكل باشا، الرجل الذي أفنى شبابه وعافيته في خدمة الدراسات الأدبية والتاريخية، والذي يُعدّ قلبه مثالاً في الطيبة والصفاء.
وقد نظرت في الوسام فرأيته متوّجاً بكلمة (فيصل الأول) فأهلاً وسهلاً ومرحباً بوسام يُحلّى باسم ملك هو الفيصل بين عهدين من عهود العراق: عهد العجمة وعهد الإفصاح، فقد كان فيصل الأول بمذاهبه ومسالكه هو التعبير الصحيح لعواطف العراق في التشوف إلى رجعة المجد العربي في أيام المنصور والرشيد.
ومع أن مكاره الأيام ومتاعب النضال لم تُبق في صدري بقية من التأهب للجذل والانشراح فقد سرني أن تشهد جريدة (الوقائع العراقية) بأني ذُكرت بالخير في (إرادة ملكية) يمضيها صاحب السمو الأمير عبد الإله ومعالي السيد صادق البصام وفخامة السيد رشيد عالي الكيلاني، جعلنا الله ممن يرعون العهد ويحفظون الجميل.
وإذا حييتم بتحية. . .
تفضل الزميل الكريم الأستاذ أبو بكر إبراهيم المفتش بوزارة المعارف فأعدّ كلمة لمجلة الرسالة في رد التحية الجميلة التي وجهتها جريدة الهدف البغدادية إلى مصر بإصدار عدد خاص عن أديب مصري كان له نصيب في خدمة الحياة الأدبية في العراق.
ولم يكن بدّ من تلطف هذا الزميل الكريم بردّ هذه التحية الكريمة، فليس في مقدوري أن أرد تحية جريدة الهدف، فذلك امتحان لا أتقدم إليه وأنا طائع، لأني أشعر بالعجز عن وفاء هذا الدين النفيس.
في ذلك العدد الخاص تحدث الأساتذة عبد الحميد حسن الغزالي، وحميد مجيد الهلالي، وعبد المجيد لطفي، وعبد المحسن القصاب، وعبد السلام حلمي، وعبد الله محمد الطائي، وعبد الرحمن البناء، وروبين عوبديا، وصالح البدري، وعبد الرزاق الهلالي. تحدث هؤلاء الأماجد عن صديق العراق زكي مبارك حديثاً هو البرهان الساطع على أن الوداد لا يضيع عند أحرار الرجال.
وقد ذكرت كثيرا ً في الأسباب التي جعلت لي هذا الحظ المرموق في العراق؛ ثم رأيت أن الأسباب كلها تنتهي إلى سبب واحد: هو الصدق. فما تحدثت عن العراق بالجميل إلا وأنا صادق ولا ذكرته بالملام إلا وأنا صادق.
وكيف لا أصدق في حب وطن كاد ينسيني وطني؟
ولو عبّرت عن نفسي تعبيراً صحيحاً لقلت إني لم أستطع أن أتوهم أن مصر والعراق وطنان مختلفان، وما صح عندي أبداً أني كنت غريب الدار في بغداد. . . وكما كان الشريف الرضي يهدد خصومه في العراق بأن له في مصر أصدقاء يستنجد بهم حين يشاء، فأنا أشعر بأن لي في العراق أصدقاء أستنصر بهم حين أشاء، والله سبحانه هو المفزع لأبرار القلوب.
وفي اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمة يستعد فريق من الأساتذة المصريين للتوجه لخدمة العلم والأدب في العراق، فأرجو أن يذكروا جميعاً هذه الكلمة الصادقة:
(كما تكون للعراقيين يكونون لك)
فمن أراد أن يظفر بحب أهل العراق فليصدق في حب أهل العراق، وليعرف جيداً أن العلانية قليلة الأهمية، فالمعوّل عليه هو صدق القلوب، فقد كنتُ على جانب من جفاء الطبع حين كنت هناك فما ضرني ذلك بشيء لأن قلبي كان مأهول الجوانب بالصدق في حب أولئك الرجال الصادقين في الحب والبغض، وهم برغم قالة الحجاج أبعد الناس عن الرياء.
ما أذكر أني كلفت نفسي ما لا تطيق في التودد إلى العراقيين وإنما أرسلت نفسي على سجيتها، وعشت في بغداد كما كنت أعيش في القاهرة وفي باريس، وكنت أصادق وأعادي كما أصادق في بلدي وأعادي، فكانت العاقبة ما عرف إخواني في مصر من تواتر العطف عليّ من جميع أهل العراق. والصدق في النصح يستوجب النص على الحقيقة الآتية:
لم أفكر وأنا في العراق إلا في شيء واحد: هو أن أؤدي واجبي تأدية صحيحة لا يؤخذ عليها تقصير أو تفريط، وكنت أشعر في كل لحظة أني مسئول أمام حكومتين: حكومة القاهرة وحكومة بغداد، وأن التهاون في تأدية الواجب يضيّع على مصر مزية عظيمة، هي الثقة بكفاية أبنائها وقدرتهم على النهوض بما ينتدبون له من خدمة العلم والأدب في البلاد العربية.
ويجب أن أسجل أن إخواني العراقيين قد أعانوني على تحقيق هذا الغرض الشريف، فهم الذين خلطوني بأنفسهم، ودعوني إلى الاشتراك في أنديتهم الأدبية والعلمية، وحضوني على المشاركة في توجيه الرأي العام بالمقالات والمحاضرات، حتى استطعت في أشهر معدودات أن أدوّن ألوفاً من الصفحات لم يظهر منها غير ستة مجلدات.
وأعترف بأني كنت أشعر بالغيرة تحزّ في صدري من أربعة رجال سبقوني إلى كسب ثقة أهل العراق، وهم الأساتذة: محمد عبد العزيز سعيد وأحمد حسن الزيات وعبد الرزاق السنهوري وعبد الوهاب عزام، فكان من همي أن أزاحم أولئك الرجال مزاحمة جدية تجعل لي مقام صدق في بلاد الرافدين، وقد وصلت بحُسن النية وبرعاية الله إلى تحقيق ما أردت بلا مشقة ولا عناء.
وأواجه الأمر بصراحة فأقول: إننا لم نصنع شيئاً يزيد على وضع الأساس للمودة الصحيحة بين مصر والعراق، فلست أنتظر من الأستاذة الذين يخلفوننا هنالك أن يحفظوا ما صنعناه؛ فذلك مطلب سهل المنال، وإنما أرجو أن يمضوا في رفع قواعد البناء بحيث لا تمر أعوام طوال قبل أن يصبح من القضايا المقررة أن لفظة الغربة لم يبق لها مدلول في ذهن عراقي يعيش في مصر، أو في ذهن مصري يعيش في العراق.
ولكن ما جزاء من ينتفع بهذا النصح؟ جزاؤه هو الشعور بأنه رجل نافع، والاطمئنان إلى أنه على جانب من قوة الأخلاق، فليس من القليل أن يستطيع الرجل كسب الثقة بوطنه في بلد مثل الحجاز أو فلسطين أو سورية أو لبنان، والثقة لا تنال في أمثال هذه البلاد إلا بالصدق في الوطنية والصدق في الجهاد.
وقد اتفق لي في بعض الأحايين أن أناوش فريقاً من السوريين واللبنانيين فما ضرني ذلك بشيء، لأن من ناوشتهم يعرفون في ضمائر قلوبهم أني سليم القلب، وأني لا أريد إلا جذبهم إلى الانضمام إلى القافلة العربية بلا تلفت إلى دسائس من يهمهم تقسيم الأقطار العربية إلى دويلات يذوق بعضها بأس بعض بلا موجب معقول.
ومن حسن الحظ أن تكون البلاد الشامية في طريق من يسافر من العراق إلى مصر، أو من مصر إلى العراق، فتلك فرصة ذهبية لتوكيد المودة بين الأقطار العربية، وبها نستطيع وأد الدسائس التي تحاك في أحلاك الليالي لتمزيق شمل العرب والمسلمين.
وقد شاءت الظروف أن ترى اليمن والمغرب من البلاد البعيدة لقلة رغبتنا في الهجرة والارتحال، فمتى يجيء اليوم الذي تقهرنا فيه المبادئ على التضحية بالأنفس والأموال في سبيل التعرف إلى الأقطار العربية؟
المصري لا ينتقل من وطنه إلا وهو موظف مطمئن إلى أنه سيجد وظيفته حين يرجع، فمتى يُخلق المصري المجاهد الذي يستهين بجميع المنافع في سبيل المبدأ والعقيدة والرأي؟
كنت أتمنى أن أكون ذلك المصري المنشود، ولكن ماذا أصنع وحولي (أكباد تمشي على الأرض) وليس في شريعة الوطنية أو الدين ما يسمح بهجر تلك الأكباد؟
أنا مقيد بقيود من حرير هي أقسى وأعنف من قيود الحديد، فإن تلطّف الله وقبل أن يكون الجهاد بالقلم مما تنصب له الموازين فلن يكون ذلك أول نعمة يسديها رجل لم يُشرّق أو يغرّب إلا وهو متوكل عليه توكل الواثق بأن الأمر كله إليه وأن له حكمة عالية تجعل الشر على بشاعته لوناً من الخير المستطاب.
لا خوف من المستقبل مع صحة العزائم والقلوب
لم يبق ريب في أن الشرق مقبل على قلقلة تاريخية بسبب عدوان أهل الغرب بعضهم على بعض. وقد شاءت المقادير أن يتأثر الشرق بمصير الغرب لأسباب لا تخفى على اللبيب، وربما جاز القول بأن العالم كله قد ربط برباط وثيق يفرض على من في أقاصي بحر الهند أن يتأثر بما يقع لمن في أقاصي بحر الشمال، فليس من المستغرب أن يرتج الشرق للمجازر التي تقع بين الإنجليز والألمان.
فما واجبنا نحن إزاء هذه الظروف؟ واجبنا أن نذكر أن مبادئنا في تحرير الشرق لن ينالها تعديل ولا تبديل. واجبنا أن نذكر أن جهادنا في سبيل الحرية جهاد قديم، وأننا تسلمنا راية الكفاح من الآباء والأجداد. واجبنا أن نذكر أن الغرب الذي صنع ما صنع لم يفلح فيما تطاول إليه من وأد اللغة العربية والعقيدة الإسلامية.
واجبنا، واجبنا، واجبنا.
ذلك الواجب لا يحتاج إلى تعريف جديد، فهو مسطور الملامح في كل قلب، وله جذور في كل نفس، وله سلطان على كل ضمير، ولا خوف من غياهب المستقبل إذا صحت العزائم والقلوب.
فليقلقل التاريخ كيف شاءت الظروف، وليكن ما يكون بين الإنجليز والألمان، فنحن نحن، والعاقبة للصابرين في ميدان الجهاد. وسيعلم المعتدون على الشرق كيف تنهزم قوتهم المادية أمام قوته الروحية في أمد أقرب مما يظنون.
زكي مبارك