مجلة الرسالة/العدد 376/على هامش الحرب
→ على هامش النقد: | مجلة الرسالة - العدد 376 على هامش الحرب [[مؤلف:|]] |
خواطر في الحرب ← |
بتاريخ: 16 - 09 - 1940 |
الطابور الخامس في القرآن
المنافقون
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
- 5 -
مواقفهم من حروب الرسول: في أحد. في الأحزاب. في
تبوك. إشاعاتهم السيئة عن جيوش المؤمنين. إمهال النبي لهم
عسى الله أن يتوب عليهم. عاقبة المصرين.
وقف المنافقون من حروب النبي موقف المُخذِّل المثبِّط، الجبان الرعديد، الناقض لما عاهد الله عليه، الطامع في المغنم، المقصر عن نصرة الدين. ولقد كان شرهم مستطيراً حقاً. لأن المؤمنين كانوا يركنون إليهم، ويعدونهم من أنصارهم، فإذا الشر أبدى ناجذيه للمؤمنين قعد هؤلاء عن نصرتهم، وشمتوا عند هزيمتهم، وقبضوا أيديهم عن إعانتهم، واعتلوا لذلك بعلل سخيفة مزيفة فَنَصَّ الله على أنها كاذبة، وبين أنهم دعاة الهزيمة، وأنصار العدو، بل زاد على ذلك فاعتبرهم عدواً وقال للرسول فيهم وفي جبنهم (يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو فاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون.)
وأي طابور خامس أشد خطراً من المنافقين الذين أحسن المسلمون عشرتهم، وأتمنوهم على أسرارهم وأخلصوهم الود، واتخذوهم بطانة، وأمنوا جانبهم، ولم يحسبوا حساباً لخيانتهم وغدرهم، ولم يضعوا خطة لتوقي شرورهم، فاستعانوا بذلك على إيذائهم، وإنزال الضر بهم، وطعنهم وقت الحرج والانتقاض عليهم عند المحن والشدائد؟
وفي قصصهم يوم أحد، وفي وقعة الأحزاب وتبوك ما يبرهن على أنهم كانوا أَضرَّ على المؤمنين من العدو الخارجي، وأنهم خانوا الله والرسول، ونقضوا الأيمان، رغبة في إبادة المؤمنين، وطمعاً في إزاحة الدين الجديد من بلادهم.
لما انهزم المشركون ببدر فكروا في الثأر من المسلمين، وفي السنة الثالثة للهجرة خرج أبو سفيان في ثلاثة آلاف مقاتل يريد غزو المدينة، فسمع النبي بقدومه، فاستشار أصحابه، فأشار عليه عبد الله بن أبي - وكان رأساً في الأنصار إلا أنه كان يضمر نفاقاً - أن يبقى بالمدينة، وقال له: ما خرجنا على عدو قط إلا أصاب منا وما دخلوا علينا إلا أصبنا منهم. وكان رأي النبي البقاء، لكن قوماً ممن لم يشهدوا بدراً ودُّوا الخروج لينالوا شرفاً مثل شرف الذين شهدوا بدراً. فنزل النبي عند رأيهم ودخل بيته ولبس لامته. فندم هؤلاء على إلحاحهم، وقالوا النبي: إن شئت خرجنا وإن شئت بقينا. فقال: ما كان لنبي لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه. وخرج جيش المسلمين، وعلى مقربة من أحد أنخذل ابن أبي بثلث الناس ورجع إلى المدينة، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ وهمَّ بنو سلمة من الخروج وبنو حارثة من الأوس أن يفشلوا كذلك تقليداً للعمل السيئ الذين قام به ابن أبي، ولكن الله عصمهم وقال فيهم: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون. والتقى الجمعان بأحد، ودارت الدائرة على قريش أولاً. فلما شغل المؤمنون بجمع الغنائم، وخالف بعض الرماة أمر النبي، وتركوا مكانهم الذي وقفهم فيه، انكشف ظهر المسلمين للعدوّ، وكان على فرسان المشركين خالد بن الوليد، فأتى بفرسانه، وأعمل السيف في رقاب المؤمنين، فاختلط أمرهم، وفر كثير منهم، وثبت النبي وصفوة أصحابه، ونادى في المنهزمين: إلى عباد الله! فعادوا وكشفوا عنه جيش المشركين، ثم تحاجز الفريقان، بعد أن قتل من المسلمين سبعون، منهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب.
كان في الجيش قوم من المنافقين لم ينخذلوا مع ابن أبي، فلما رأوا ما حل بالمسلمين ظنوا بالله الظنون، وقالوا: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. أما الذين لم يشهدوا الحرب، فقد شمتوا بالمؤمنين، وظنوا أن الهزيمة كانت بسبب مخالفة المؤمنين لرأي ابن أبي، وهم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا، لو أطاعونا ما قتلوا، قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. ثم بيّن الله أن سبب الهزيمة هو إرادته أن يميز الخبيث من الطيب، وليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا. ونهى الله المؤمنين عن اتخاذهم بطانة، وحذرهم أمرهم فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتُّم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون.
ولما أخرج الرسول يهود بني النضير من المدينة لم تهدأ لهؤلاء ثائرة حتى جمعوا الأحزاب من قريش ومن أطاعها من الأحابيش، ومعهم أسد وغطفان، وساروا إلى المدينة في عشرة آلاف مقاتل يريدون استئصال المؤمنين ودينهم. واستطاع اليهود أن يضموا إلى جانب الأحزاب بني قريظة ويجعلوهم ينقضون عهدهم للنبي، واتقى النبي الأحزاب بالخندق الذي حفره ليحجز الغزاة الفاتحين. أما بنو قريظة فقد حفظ الله المؤمنين من شرهم على الرغم من شدة خطرهم في ذلك الوقت، وأما المنافقون الذين ظنوا أن هزيمة يوم أحد كانت لخروجهم من المدينة إلى عدوهم، فقد قالوا هم والذين في قلوبهم مرض يوم الأحزاب: (ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) وحاولوا أن يصدوا المدافعين ويضعفوا إيمانهم بالنصر لأن العدو كثير العدد، واعتذروا عن الدفاع، وأستأذن بعضهم النبي في الانسحاب إلى بيوتهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً، ولو دخلت عليهم من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيراً. ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار، وكان عهد الله مسئولاً. قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمنعون إلا قليلاً. قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً. قد يعلم الله المعوَّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا). أولئك هم المنافقون الجبناء الذين كانوا يحاولون إضعاف جيش المؤمنين، وتثبيط الجند عن الدفاع والاعتذار بأعذار واهية كاذبة. وهم الذين يقول الله فيهم بعد: (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنةٍ حداد) من أجل طمعهم في الغنائم بما لا يتفق مع جبنهم وقعودهم وتثبيطهم غيرهم (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً).
وكان هناك المرجفون في المدينة يؤلفون أخبار السوء عن سرايا رسول الله، فيقولون هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت، فأي خطر أشد من هذا؟ أليس ذلك قتلاً للروح المعنوية وتنفيراً للناس من الجهاد، وقضَّاً للمستضعفين من حول النبي؟ من أجل هذا هددهم الله وخوفهم، وقال لرسوله الكريم: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً).
فهل انتهى المنافقون بعد هذا التخويف؟ وهل انتهى الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة؟ سنرى من موقفهم في تبوك أنهم لم ينتهوا. وإن كثيراً منهم أخلفوا الله ما وعدوه. وزادهم حلم النبي الكريم ومعاملته لهم على حسب ظاهرهم، وإمهال الله لهم، إمعاناً في النفاق، وكيداً لنبيهم ودينه وأصحابه، واستمر ذلك حتى فتحت مكة، ودانت ثقيف وخضعت الجزيرة العربية، ووجه الرسول جهاده إلى خارجها.
ففي السنة الثامنة وجه جيشه إلى الروم في الشمال، وأمر على الجيش ثلاثة من كبار الصحابة، وأحس النبي الكريم بأنهم قد يقتلون جميعاً، فلما التقت جيوش الروم بالمسلمين عند (مؤتة) قتل قواده الثلاثة كما عينهم، واختار المسلمون بعدهم خالد بن الوليد فأفلح في الانسحاب، ولم يتبعه الروم داخل الجزيرة خشية أن يكون انسحابه مكيدة حربية يجر بها الروم إلى داخل الصحراء ثم يضربهم.
وفي السنة التاسعة للهجرة أراد النبي أن يجهز جيشاً للثأر من الروم، وإتمام ما بدأه في مؤتة. وكان الوقت الذي اختاره للخروج وقتاً شديد الحر، والمسلمون في عسرة من الظهر، وقد طابت الثمار، والناس يحبون البقاء في ثمارهم وظلالهم، وتجهز الجيش، وساهم الصحابة بما يستطيعون لتجهيزه وخرج النبي بجيشهم وركائبهم قليلة حتى كان يعتقب العشرة منهم على بعير، وزادهم قليل حتى اقتسم الثمرة منهم اثنان. وماؤهم أقل حتى نحروا الإبل وشربوا ما في كرشها. وكان العدو كثير العدد، والشُّقة بينهم وبينه بعيدة، والحاجة شديدة إلى كل مساعدة مهما قلَّت. فماذا فعل المنافقون لنجاحها؟
الله يشهد أنهم عملوا جهدهم لإحباطها سواء منهم من خرج في جيش المؤمنين، ومن رضي بالقعود والتخلف عن رسول الله؛ أما الذين رضوا بالقعود فقد رغبوا بأنفسهم عن نفس رسول الله واستبعدوا أن يفلح محمد في هذه المغامرة، وتحدثوا بذلك، وأغروا غيرهم بالقعود، وقالوا لا تنفروا في الحر، وأستاذنوه ﷺ في التخلف معتذرين بأعذار كاذبة، والحق أنهم جبنوا وبخلوا وكان أملهم ضعيفاً في انتصار المسلمين والفوز بالغنائم، وقد بين الله ذلك في قوله: (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصِداً لاتبعوك ولكن بَعُدت عليهم الشقَّة، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم. يُهلكون أنفسهم، والله يشهد إنهم لكاذبون) وكان استئذانهم في القعود لارتيابهم وحرصهم على حياتهم وعد اهتمامهم بنصرة دين الله: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم) لعلمه بما في نفوسهم من غلّ وما يدبرون من فتن، وما يحدثون من اضطراب وتفريق في جيش المؤمنين) فثبطهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين)، ثم بين الله نوع الضرر الذي يصيب المسلمين من خروجهم معهم فقال: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأّوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ولأسرعوا بالوشاية والإفساد بينكم، ومع ذلك فقد خرج قوم منهم يتجسسون لمن قعد وهم الذين عناهم الله بقوله: (وفيكم سمَّاعون لهم).
سار الركب في طريقه إلى تبوك (في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق) وفيه بعض المنافقين وصار هؤلاء يسخرون في الطريق من الفكرة التي خرج النبي من أجل تحقيقها، وقال بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا الرجل! يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها. هيهات هيهات! أليس في هذا القول ما يزلزل قلوب المستضعفين من الجند، ويذهب حرارة الإيمان والثقة بالنصر من قلوب المؤمنين؟ ومتى شاع مثل هذا الضعف، وعدم الثقة في جيش فعليه العفاء. ثم أليس ذلك مصداق قوله تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة)؟
أطلع الله النبي على ما تهامس به أولئك المنافقون الذين خرجوا معه، فقال: احبسوا علي الركب. وأخبرهم بما قالوا، فحلفوا إنهم ما كانوا في شيء من أمره ولا من أمر أصحابه، وأنهم كانوا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصروا على أنفسهم الطريق، وذلك قول الله تعالى: (لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا، قد كفرتم بعد إيمانكم، إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين).
وقد فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، ولمزوا الذين تطوعوا من فقراء المؤمنين بما يملكون لقلة ما قدَّموا، فتكفل القرآن بالاستهزاء منهم وألحقهم بالنساء، لأنهم هم الذين وضعوا أنفسهم هذا الوضع، و (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون).
وكان لابد بعد هذا الإمهال وفتح باب التوبة زمناً طويلاً من أن يكشف الله أمرهم ويهتك سترهم، وأن يعاملهم المؤمنون بما يستحقون؛ فنهى الله النبي عن قبولهم في جيشه مرة ثانية. ونهاه عن الصلاة على من يموت منهم والدعاء له فقال: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فأستاذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً، ولن تقاتلوا معي عدوَّاً؛ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة، فاقعدوا مع الخالفين. ولا تُصل على أحدٍ مات منهم أبداً ولا تُقم على قبره؛ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون).
ولم يكن النفاق مقصوراً على المدينة وحدها، بل كان من الأعراب منافقون هم أشجع وأسلم وجهينة وغفار، وهم بحكم بيئتهم وغلظة قلوبهم وبعدهم عن متنزل الوحي (أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله). وكان منهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الله مغرما، ويتربص بالمؤمنين الدوائر، عليهم دائرة السوء. لم يخرجوا إلى تبوك وجاءوا إلى المدينة ليؤذن لهم، وقعد الذين كذبوا على الله ورسوله، ولكن منهم من اتخذ (ما يُنفق قربات عند الله وصلوات الرسول، ألا إنها قربةٌ لهم سيدخلهم الله في رحمته)
وما ظن القارئ الكريم بالنادي السياسي الذي بناه بنو غنم ابن عوف لخدمة الدين ظاهراً، ومأوى الخارجين على الرسول، والمدبرين للفتن، والمعادين للمسلمين باطناً، ليضروهم ويفرقوا بينهم، وليأوي إليه من حارب الله ورسوله؟ بئس هذا البناء وبئس بانوه، إنهم ساء ما كانوا يعملون.
أما هذا البناء فهو مسجد الضرار، والذين بنوه هم بنو غنم ابن عوف. يروى أن بني عامر بن عوف لما بنوا مسجد قباء، وهو مسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم - بعثوا إلى رسول الله أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم ابن عوف وقالوا نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام - وهو الذي قال لرسول الله عليه السلام يوم أحد: (لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلت معهم) فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين - فبنوا مسجداً إلى جانب مسجد قباء. وقالوا للنبي: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه. فقال: (إني على جناح سفر، وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلينا فيه). فلما قدم من غزوة تبوك سألوه الصلاة في المسجد، أو بعبارة حديثة، سألوه أن يفتتح هذا النادي السياسي المستور الغرض ليكون ذلك أستر لغرضهم وأدهى إلى تقوية مركزهم، وأكثر جاذبية للمسلمين، فنزل قوله تعالى فضيحةً لهم، وبياناً لغايتهم الخفية، إنهم اتخذوا هذا المسجد (ضِراراً وكفرا وتفريقاً بين المؤمنين، وأرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبداً. لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه). وهذا هو مسجد قباء؛ فأمر النبي أن يهدم المسجد الجديد وأن يتخذ مكانه كُناسة تلقى فيها القمامة. ومات أبو عامر الراهب بالشام، وفسدت الخطة التي دبرها بنو غنم بن عوف (إن الله لا يصلح عمل المفسدين).
وكانت غزوة تبوك حداً فاصلاً بين سياسة المسالمة وسياسة العداوة الصريحة من المسلمين للمنافقين بعد أن هيأ الله لهم الفرصة زمناً طويلاً ليتوبوا، فمنهم من تاب فعفا الله عنه، ومنهم من أصر على كفره، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له جهنم وساءت مصيرا وانتهى عملهم بعد ذلك، واستراح النبي من شرهم وضرهم.
ومن كل ما كتبناه في الموضوع يتبين أن الطابور الخامس في القرآن هم اليهود والمنافقون، وكانت سياستهم ترمي إلى التشكيك في الدين، والطعن في النبي وآله ومحاولة صرف الناس عنه بتجريحه، والأمل في القضاء على دعوته سراً وجهراً بمعاهدته حتى يأمن لهم، ثم نقض هذه العهود وقت الشدة، فكان جزاؤهم ما حل بهم من قتل وتشريد، وما أنزل الله فيهم من طعن وإهانة، وما أعده لهم من عذاب أليم، ثم نصر الله رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وكان حقاً عليه نصر المؤمنين.
عبد الرزاق إبراهيم حميدة