الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 376/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 376/الكتب

بتاريخ: 16 - 09 - 1940


على هامش التاريخ المصري

لمؤلفه الأستاذ عبد القادر حمزة باشا

للأستاذ عباس محمود العقاد

إذا حكم القارئ على هذا الكتاب من عنوانه ظلمه كما ظلمه مؤلفه الكبير بهذه التسمية.

لأنه يتوهمه شذرات عرضية تعوم حول حواشي التاريخ المصري القديم، ولا تنفذ إلى صميمه أو تخلص إلى متنه، وهو على نقيض ذلك أحرى أن يسمى (من عناصر التاريخ) أو من أسسه، لأنه يلخص الأغراض التي من أجلها يدرس تاريخنا في أدواره المختلفة، ولا يمنع ذلك أن الكتاب لم يسلسل الأدوار من بدايتها المجهولة إلى نهايتها المعروفة، ولم يفصل تراجم الملوك والأسر ملكاً بعد ملك وأسرة بعد أسرة. فهذه كلها أرقام وأقسام، والعبرة بما وراء تلك الأرقام والأقسام

وفي الكتاب فصول عن نشأة الحضارة المصرية وعلاقة الكلدان واليونان بها، وعقائد المصريين في الآلهة والحساب بعد الموت، وما نسميه اليوم البروتوكول أو الآداب السلطانية عند الملوك الأقدمين، ومقتبسات هومير والأدباء الإغريق من الأساطير الفرعونية، وبحث عن التقويم المصري وعن المعارك الحامية التي نشبت بين رجال العلم ورجال الكنيسة في القرن الثامن عشر من جراء الكشوف والآثار التي دلت على قدم وجود الإنسان في وادي النيل وسبقه للأزمان المقررة في عرف رجال الكنيسة ومفسري التوراة بما سنح لهم من وجوه التفسير؛ وكل بحث من هذه البحوث شاف في موضوعه مغن عن مراجعة الأسفار الكثيرة نافذة إلى اللباب المختار.

وللكتاب مزيتان قيمتان بين كتب التاريخ: إحداهما أسلوب رائق بلغ من صفائه وإحكامه وسلاسته أنه يمتع القارئ بالأدب إلى جانب المعرفة التاريخية، وأنه يرسل النضرة في أوراق البردي اليابسة فإذا هو مخضوضر رفاف

والمزية الثانية أن الطريقة التي تناول بها الكاتب القدير موضوعاته طريقة موحية تفتح أمام الفكر أبواب التأمل والنظر ولا تقصره على ما يراه أمامه ماثلاً في الكلمات والسطور.

كنت أقرأ فصله عن الخلاف بين رجال العلم ورجال الكنيسة على تاريخ نشأة الإنسان فتحضرني أمثال هذه الخلافات وأسأل هل يعادي هؤلاء الناس العلم أو يعادون الدين وهم يزعمون أنهم نصراؤه والغيورون عليه؟ ففي الحقيقة هم يضيرون الأديان عامة ولا يضيرون العلوم أقل ضير، فلو صدق الناس ما كان رجال الدين يفرضون عليهم تصديقه لشك الناس فيما يفرض عليهم ولم يشكوا في الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل ولا تصبر عليه إلا إلى حين.

وكنت أقرأ تارةً في هذا الفصل وتارةً في ذاك شيئاً عن عادات المصريين في تسجيل المحفوظات أو في التحنيط أو في تدوين المعارف والملاحظات أو في إحصاء السنين والأزمان، فيوحي إليّ ذلك كله معنى جديداً من معاني الفوارق العجيبة بين ثقافة المصريين وثقافة الإغريق

فهاهنا حاسة تاريخية تثبت في النقوش مظاهر الحياة لأنها تثبت كل شيء للحفظ والتذكار والبقاء

وهاهنا حاسة علمية تثبت المظاهر لتنظمها في سلسلة المعارف والمشاهدات الملحوظة

وما سر هذا الفارق بين الثقافتين؟ هل سره امتياز في عقول اليونان أو عجز في عقول المصريين كما يحب الأوربيون أن يقولوا أو كما قالوا في دراسة الحضارات والأجناس؟

كلا. . . بل سره أن المصريين أصحاب تاريخ وولع بالتخليد راجع إلى قدم الكهانة وسيطرتها على المعارف والأفكار، وأن الإغريق لم يشعروا بضرورة التخليد ولا بأعباء الكهانة الموروثة فالتفتوا إلى مظاهر الحياة للعلم، ولم يذهبوا بها مذهب الحفظ والتقديس. ويؤيد هذا أن الأوربيين غلبت فيهم صبغة الكهانة على صبغة المعرفة حين استقر للكهانة بينهم تاريخ طويل.

وتقرأ الكلام عن معاملة الأسرى أو عن عروس النيل أو عن دساتير الحكم فإذا أنت مسترسل مع إيحاء الخواطر إلى حوادث هذه الأيام، وإذا بالزمن الدابر قد دبت في عيدانه اليابسة نضرة الحياة.

مجلدان آخران من قبيل هذا المجلد الأول كفيلان بنقل الزمن القديم في مصر إلى عالم الحياة الحاضرة، فقد كفانا من التاريخ ما يخرجنا من الحياة الحاضرة إلى الزمن القديم.

عباس محمود العقاد