مجلة الرسالة/العدد 375/أخلاق القرآن
→ الحديث ذو شجون | مجلة الرسالة - العدد 375 أخلاق القرآن [[مؤلف:|]] |
من الأدب الوجداني ← |
بتاريخ: 09 - 09 - 1940 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
أعرض في مقالات قليلة أمهات الأخلاق في القرآن، وكيف بينها الكتاب الكريم وكيف دعا إليها بعد أن أقدم مقدمة وجيزة تبين المقصد الآخر الذي قصد إليه القرآن من تربيته وتعليمه: سئلت عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلوات الله عليه، فقالت: كان خلقه القرآن. فأخلاق القرآن هي التي تجلت في محمد خاتم النبيين وأصحابه ومن تبعهم وسار على نهجهم من بعد. وإنما يظهر صلاح القانون حين إنفاذه، ويتبين سداد الرأي حين يختبره العمل، ويُعرف رشاد الطريقة حينما تهدي السائرين عليها إلى الغاية المثلى. فإذا أردنا أن نقدر أخلاق القرآن فإنما نتبينها في سيرة من عملوا بالقرآن
كل ما يزدان به تاريخ الإسلام من سير الملوك والولاة والقواد والقضاة والعلماء والصالحين وغيرهم، فهو أخلاق القرآن تتجلى في صور مختلفة. فإن رأيت ملكاً من المسلمين ملك الدنيا ولم تملكه، وسيطر على الأرض ولم تسيطر عليه، فساس عباد الله بعدل الله، وأتعب نفسه لريح رعيته، وراقب فيهم ربه ليله ونهاره، فهذا من أخلاق القرآن. وإن رأيت والياً دخلت الدنيا يده ولم تدخل قلبه وكف يده عن المحارم ولم يأل جهداً في العمل لخير الناس، فهذا من خلق القرآن كذلك. وإن رأيت قائداً يحتقر المهالك، ويقذف بنفسه في المعارك، يفتح البلاد ولا يُعنت العباد، قد ملكت القناعة قلبه ويده، وكفه العدل عن العدوان، فهذا من خلق القرآن في أحد مظاهره. وإن رأيت قاضياً كد عقله في معرفة الحق والتثبيت، وآثر العدل وجانب الجور وأخلص لله فكره وحكمه، وأقض مضجعه عظم التبعة، فذلك من قضاة القرآن. وإن رأيت عالماً توجه إلى الله بفكره، وأدام النظر في ملكوت السماوات والأرض، ودأب في البحث ابتغاء الحق لا يميل مع الهوى ولا يرجو إلا وجه الله فهو من علماء القرآن.
عدل أصحاب السلطان، وجهاد المجاهدين بالحق، وإحسان المحسنين في كل عمل، وطلب الحق والصبر عليه، ودفع الظلم والنفور منه، والاضطلاع بأعباء الحياة، والصبر على المكاره والثبات على الشدائد، كل ذلك من أخلاق القرآن. والخلاصة أن الحياة في أقوى مظاهرها، وأحسن وجوهها، وأعدل سيرها، وأرحم قوانينها، وأجل أعمالها، كل أولئك تقصد إليه أخلاق القرآن.
من يتدبر القرآن يعرف أن القصد الآخر الذي ترمي إليه تربية القرآن هو أن يحرر الإنسان من أهوائه وشهواته، وأن تقوى نفسه بالأخلاق القوية القويمة، وأن يزود عقله بالمعرفة، ثم أن يعمل بهذه النفس المحررة القوية وهذا العقل القويم في معترك الحياة مبتغياً الخير لنفسه وللناس كافة. ذلكم مقصد القرآن فيما يعلم من الأخلاق
يريد القرآن نفساً محررة من الأهواء والشهوات، وسأبين هذا من بعد، ولكني أسارع فأقول هنا: ليس معنى التحرر من الشهوات الحرمان منها؛ فإن القرآن يريد للناس أن يستمتعوا بهذه الحياة، ولا يزوروا عنها ويتجنبوها: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين)
القرآن لا يدعو إلى الرهبانية ولا يرضاها، وإنما يدعو الإنسان إلى أن يرمي بنفسه في معارك الحياة مزوداً بالأخلاق القوية الفاضلة، مريداً الخير لنفسه وللناس حتى يعيش راضياً مرضياً. فمن أعتزل معارك الحياة فقد فر من الواجب، وجنح إلى الراحة، وآثر البطالة. وليس تمسكه بالأخلاق الفاضلة بعد هذا إلا كما يتسلح الجندي ثم يترهب في دير. والعبادة الحق في شرعة الإسلام هي الجهاد في هذه الحياة. كل عمران في الأرض، وكل إحسان إلى النفس أو الأقرباء أو الأصدقاء أو عامة الناس أو إلى الحيوان الأعجم؛ كل هذه عبادة يأمر بها الإسلام بل يعدها أفضل العبادات. وقد قال أحد صوفية المسلمين: (ليست الولاية أن يمشي الإنسان على الماء أو يطير في الهواء، ولكنها أن يعمل الإنسان في الأرض فيزرع أو يتجر وينعم بالعيش وهو لا يغفل عن الله طرفة عين) ومن أجل هذا كانت المرابطة في الثغور، أي حماية حدود البلاد، من أفضل العبادات عند المسلمين. وكم يحدثنا التاريخ عن علماء أتقياء أقاموا في الثغور ورابطوا العدو، يرون أن عبادتهم وورعهم لا يغنيان عن هذه الرابطة شيئاً. ولأن المرابطة عبادة سمى الصالحون في بعض البلاد الإسلامية مرابطين وسمى رباطا المكان الذي فيه المتعبدون
إنما يريد القرآن من التحرير من الشهوات أن يسيطر الإنسان على نزعاته فيلائم بينها وبين الحق والخير ويفعل أو يكف حراً بعقله لا عبداً بهواه
مقصد الإسلام الأخير هو تحرير النفس من الأهواء والشهوات وتقويتها بالأخلاق الفاضلة وتحرير العقل من الأهواء كذلك، وتقويته بالمعرفة، ثم العمل بنفس محررة قوية، وعقل حر واسع، في أرجاء هذه الأرض لخير الناس. فأما التحرر من الهوى فقد أمر به القرآن في آيات كثيرة وافتن في الدعوة إليه بأساليب مختلفة. يقول القرآن الكريم: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.) ويقول: (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة؟) ويقول: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهوائهم.) ويقول (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.)
أرأيت كيف ينهى القرآن عن الهوى ويعده معطلاً لمعارف الإنسان وعقله وسمعه وبصره ويراه رأس كل ضلالة؟
اشتد القرآن في النهي عن إتباع الأهواء، حتى نهى عن الأخذ بالظن، لأن الإنسان إذا لم يسر على بينة مال به الهوى الخفي وأوحى إليه الظنون المختلفة: فيظن الحق باطلاً، والباطل حقاً، والخير شراً، والشر خيراً، كما ينزع هواه وتميل نفسه. وما أكثر ما نهى القرآن عن الظن، قال: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعد الظن إثم)، وقال: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس)، وقال: (ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً). بل بين القرآن أن ضلال الناس ناشئ عن إتباع الظن فقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن)
هكذا يشتد القرآن الكريم في الدعوة إلى تحرير النفس والعقل من الأهواء وتبرئتها من الظنون، ليقارب الإنسان الصواب جهده، وتستقيم له طريقة الفكر فطريقة العمل
وأما تقوية النفس وتهذيبها بالأخلاق الفاضلة، فسيأتي بيانه حين نفصل الكلام في الأخلاق التي دعا إليها القرآن. وأما تقوية العقل وتقويمه وتزويده بالمعرفة، فقد دعا القرآن إلى الانتفاع بالعقل والنظر في ملكوت السموات والأرض وجعل الذين لا ينتفعون بعقولهم كالأنعام أو أضل، وقال: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض - أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء - قل سيروا في الأرض فانظروا) ولفت القرآن للناس إلى مظاهر الكون ودعاهم إلى التفكير فيها ليعرفوا أسرارها (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) وكثير في القرآن مثل هذا، وما هذا النظر إلا وسيلة المعرفة، وهل أنتج معارف البشر إلا النظر في ملكوت السموات والأرض؟ ولقد أمر القرآن بالاستزادة من العلم فقال: (وقل ربي زدني علماً)
وأما العمل فهو المقصد الذي يقصد إليه القرآن من تعليم الأخلاق الفاضلة، فالقرآن كما تقدمنا لا يريد رهبانية ولا فراراً من الجهاد ولا خوراً ولا إشفاقاً من الاضطلاع بأعباء الحياة، وإنما يريد العمل والدأب والجهاد. أمر القرآن بالعمل وأشاد بذكر العاملين في آيات كثيرة، وبين أن تدافع الناس سبب لعمران الأرض، (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وبين أن الخير لا يدوم إلا بالدفاع عنه والاجتهاد في حمايته (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره)
ولم يقبل القرآن عذر الأذلاء الذين يعتذرون بالعجز عن العمل أو بتغلب الأقوياء عليهم، وصدهم إياهم عن الخير فقال: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا إليها؟). فهو يدعو إلى الهجرة حيث يستطيع الإنسان العمل (ومن هاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة)
ذلكم أجمال الكلام فيما يقصد إليه القرآن من تهذيب النفس وإصلاح الخلق والجهاد في الأرض. وهو الذي بينته أفعال الرسول وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، فقد خلق القرآن الجماعة الفاضلة، وخلقت الجماعة الدولة، وأيدت الدولة الحق والعدل، وسيطرت على الأمم تسموها بعدل الله طوعاً أو كرهاً. ولا تزال دعوة القرآن مسموعة، ولا يزال مثل الناس مضروباً، ولا يزال الأمل معقوداً بأن تحيي هذه الدعوة الأخلاقية الأمم مرة أخرى.
لا يزال في هذه الأرض خصب وبركة، ولا يزال في هذا السحاب برق ورعد ومطر، لا تزال في هذه النفوس حياة وفي القلوب خير. وإن مع اليوم غداً وسأبين في المقالات الآتية أمهات الأخلاق في القرآن إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام