الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 374/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 374/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 02 - 09 - 1940


للدكتور زكي مبارك

(عبد الوهاب عزام - ذكرى سعد - بين الدين والوطنية -

سلامة موسى رجل غير موفق - نكتة أدبية - على هامش

التاريخ المصري القديم، لسعادة الأستاذ عبد القادر حمزة باشا)

عبد الوهاب عزام

قلت مرات كثيرة: إن الشجاعة الأدبية لا تقف عند القدرة على أن تقول للمسيء أسأت، وإنما تسمو الشجاعة الأدبية فتصل إلى القدرة على أن تقول للمحسن أحسنت، لأن ذلك يشهد بأن الناقد يملك السيطرة على هوى النفس

وأنا أحب أن أقول كلمة في الدكتور (عبد الوهاب عزام) بعد أن سمعت المحاضرة التي ألقاها في المذياع عن (أخلاق القرآن) فقد بهرتْ بقلبي وعقلي، وأشعرتني بأن من العقوق أن أسكت عن توجيه القراء إلى متابعة هذا الباحث المفضال

وإنما وجب ذلك التوجيه لأن مباحث الدكتور عزام تتسم بالدقة وتخلو من البريق، فهو لا يجذب إليه من القارئين والسامعين غير طلاب المعاني، من الذين يعرفون من قبل أنه باحث على جانب عظيم من الدقة والعمق

فإذا استطعت بهذه الإشارة أن أدل قرائي على فضل هذا الباحث وأن أجذبهم إليه فسيذكرونني بالخير حين ينتفعون بما ينشر من مقالات أو يذيع من محاضرات

شعرت وأنا أسمع محاضرته عن أخلاق القرآن أن القرآن نزل أمس فهو يحدثنا بما نرى وما نسمع من معضلات الوجود، ومع أن الدكتور عزام أضاء روحي بهذا المعنى فما أحسست أنه تكلف أو تعسف أو حاول الظهور بمظهر الغيرة على الشريعة الإسلامية، فهو يُلقي كلاما فطرياً سمحاً لا زخرف فيه ولا تنميق، وهو ينقل إلى سامعيه آيات القرآن في لطف ورفق حتى لتكاد تحسب أنه وجدها مسطورة في صفحة واحدة من صفحات المصحف الشريف.

فإذا أضفنا إلى هذا أن الدكتور عزام رجل أريحي النفس، عذب الفكاهة، مصقول الحديث، حضري الشمائل، أدركنا أنه من أعيان أهل الفضل في هذا الجيل.

ولو شئت لمضيت إلى آخر الشوط فقلت: إن صحبتي لهذا الصديق قد اتصلت بالفكر والروح أكثر من عشرين سنة، وما اذكر أبداً أني أحصيت عليه هفوة واحدة من هفوات الفكر والروح. في الدكتور عبد الوهاب عزام عيب واحد هو الهدوء، ولكنه هدوء الطمأنينة لا هدوء الخمود، فأرجو من القراء ومن المستمعين أن يذكروا أن هذا الرجل لا يكتب أو يتحدث إلا ليواجههم بأشياء من المعاني الصحاح في الأدب والخلق والدين والتاريخ.

ذكرى سعد

من تحصيل الحاصل أن أقول إني لم أكن وفدياً في يوم من الأيام، والوفد يعرف ذلك، ومن أجل هذا كان يتغاضى عما أبثه في مقالاتي من الدعوة إلى مبادئ الحزب الوطني حين كنت أشتغل بالتحرير في الجرائد الوفدية

وكنت أحضر الحفلات التي يقيمها الوفد لذكرى سعد تأييداً للمعنى الجميل الذي تنطوي عليه، ثم هجرت تلك الحفلات بعد أن صارت تقام في مكانين: أحدهما للهيئة الوفدية، وثانيها للهيئة السعدية، تجنباً للظهور بمظهر التحزب لأحد الفريقين، ولي فيهم أصدقاء أعزاء. وفي اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال تقام حفلتان لذكرى سعد، وكان في نيتي أن أحضر هاتين الحفلتين بلا تفريق لأواسي أصدقائي هنا وأصدقائي هناك

فما الذي صدني عن حضور هاتين الحفلتين؟

أذكر السبب فأقول:

لما مرض رفعة النحاس باشا ترفق سعادة الدكتور ماهر باشا ومضى لعيادته، على ما كان بينهما من ضغائن سود ووقفتهما حاقدين أمام محكمة الجنايات.

ولما عوفي النحاس باشا مضى لزيارة من عادوه من الكبراء، واتفق أن لم يجد الدكتور ماهر باشا في داره فترك له بطاقة وانصرف، وإلى هنا أدى النحاس باشا واجبه تأدية صحيحة، ولكنه رأى أنه كان يجب أن يشعر الدكتور ماهر بزيارته لينتظره، فترفق وأخبره بأنه سيزوره مرة ثانية، ثم كان تلاقٍ كريم بين صديقين قديمين فرقت بينهما اللجاجة الحزبية، وهي خلافة المآثم والعيوب.

هذا التصرف نبيل من هذين الرجلين، فهل تعرفون كيف كان تأثير هذا التصرف النبيل في الجرائد الوفدية والسعدية؟ ظل التلاحي على ضرامه بين جريدة المصري وجريدة الدستور، ولسان حالهما يقول:

إذا ما الجُرح رم على فسادٍ ... تبيَّن فيه تقصير الطبيب

فهل يُلام مثلي إذا أضجرته هذه الحال فلم يشترك في الاحتفال بذكرى سعد؟

للسياسة فنون، ومن فنون السياسة أن يكون الرجل أخاً صادقاً لجميع المواطنين، وكذلك تتحول السياسة إلى وطنية صحيحة تكره الهدم والتجريح.

اختلفوا ما طاب لكن الخلاف، يا بني وطني، فالخلاف دليل الحيوية، ثم احذروا العداوة والبغضاء، لأنهما لا يصدران عن أرباب القلوب.

بين الدين والوطنية

يظهر أن مقالي في نقد الأستاذ سلامة موسى لم يُرض جميع القراء، فقد تلقيت خطاباً صدر عن مدينة فارسكور، وهو خطاب لم يخل من تحامل، وإن كانت عبارات كاتبه تشهد بأنه من المطلعين، وكيف لا يكون كذلك وهو (ضبع)؟!

وأنا احرص أشد الحرص على إزالة ما قد يقع بيني وبين قرائي من أسباب الشقاق، لأني طيب القلب إلى أبعد الحدود، وإن قال قوم بأني سأكون من حطب جهنم، لطف الله بهم وهداني! فما الذي كنت قلت في ذلك المقال؟

أذكر أني قلت إن من واجب كل مصري أن يعطف على العروبة والإسلام، لأنهما سناد مصر في الشرق، وأذكر أني قلت إن اهتمام الأستاذ مكرم باشا عبيد بحفظ القرآن هو مظهر من مظاهر الوطنية؛ فجاء كاتب الخطاب من فارسكور يقول:

(أهذه هي مقاييس الوطنية؟) وأقول: نعم، هذه مقاييس الوطنية، بشهادة الأستاذ مكرم باشا عبيد

ولكن كيف؟

ظهر الأستاذ مكرم عبيد على مسرح السياسة سنة 1919 قبل أن يولد كاتب الخطاب من فارسكور، وكنت أنا يومئذ من المكتوين بنار الثورة المصرية؟ فهل يعرف الناس كيف التفتنا إلى مكرم عبيد في ذلك العهد؟

كان مكرم سكرتيراً لأحد المستشارين الإنجليز، ثم اندهش رئيسه من أن يشترك مع الموظفين المضربين، وكان اندهاشه لأنه يعرف أن مكرم عبيد قبطي، ولأنه يتوهم أن الأقباط لا يشاركون المسلمين في الثورة على الاحتلال

ورأى مكرم أن يصحح موقفه أمام رئيسه فكتب إليه خطاباً يشرح فيه كيف استجاز لنفسه أن يضرب مع المضربين، وساق في ذلك خطاباً لأحد القسيسين الأقباط قال فيه: (إذا صح أن الأقلية القبطية ستكون عقبة في طريق الاستقلال فسندعو الأقباط جميعاً إلى الإسلام لتسقط حجة المحتلين)

وقد طبعنا خطاب مكرم عبيد إلى رئيسه الإنجليزي ومضينا فوزعناه على الجماهير لنذكي به روح الوحدة القومية

ثم ماذا؟

ثم نظر مكرم فرأى أن أبويه كانا سمياه (وليم) فاستغنى عن اسمه الأجنبي واكتفى باسمه الوطني، وهو اسم عبي صريح كان علماً لأحد الأقباط الأشراف بهذه البلاد.

ثم ماذا؟ ثم ماذا؟

ثم صرح مكرم باشا في خطبة شهيرة بأنه مسلمُ وطناً، وأزهري ثقافةً

فما معنى ذلك يا كاتب الخطاب من فارسكور، عليها أطيب التحيات؟

معناه أن مكرم باشا يرى الإسلام من أكبر عناصر الوطنية المصرية، وأن الثقافة الأزهرية من مظاهر تلك الوطنية

وإنما استحبت لنفسي أن أخوض في هذه الأحاديث الشوائك لأني واثق بأني لن أجد من يتهمني بالتعصب الديني، فأصدقائي الحقيقيون في مصر أكثرهم من الأقباط، ولي بين نصارى الشام والعراق إخوان أوفياء يروني أكرم صاحب وأوفى صديق، وأزاهم من أطيب الذخائر في حياتي، ومن مسالكهم النبيلة أستمد التأييد لهذا الرأي الصريح.

سلامة موسى رجل غير موفق

الأستاذ سلامة موسى صديق عزيز، وقد تحدثت عنه في مقالاتي ومؤلفاتي بما هو له أهل، وقد دفعت عنه قالة السوء حين كنت في العراق، فقد كتب الأديب مشكور الأسدي خطاباً وجهه إليّ في جريدة (الكلام) عن حقيقة سلامة موسى

ثم شاءت المقادير أن تعطل الجريدة قبل أن تنشر جوابي وهو ثناء مستطاب على الصديق الذي كنت أحاربه بقلمي وأصافحه بقلبي

والحق أن الأستاذ سلامة موسى رجل غير موفق، فهو يغمز العروبة والإسلام من وقت إلى وقت بلا موجب معقول، وما ذكرناه بمسلك الأستاذ مكرم عبيد إلا لندله على أن عقلاء الرجال لهم مسالك غير التي يسلك، وهل كان مكرم باشا أول قبطي هدته الفطرة السليمة إلى أن القومية المصرية قومية إسلامية؟

أذكر في هذا المجال الأستاذ وهبي بك مدير المدارس القبطية في الجيل الماضي القريب، فهو الذي عرب أسماء تلاميذ من الأقباط ليرج بهم في غمار المجتمع الإسلامي

وأذكر الأستاذ وهيب بك دوس أحد خطبائنا الكبار، وأحد المتفوقين في الأدب العربي، وأحد العارفين بأسرار الشريعة الإسلامية. أنا المسئول عن حقيقة هذا الثناء، فما رأت عيني أديباً في مثل براعة وهيب دوس، مع استثناء أفراد قلائل يسيطرون على الحياة الأدبية، ويذيعون الثقافة المصرية في الشرق

وأذكر القس إبراهيم لوقا راعي الكنيسة القبطية بمصر الجديدة، وهو الذي اتهمته جريدة المكشوف بأنه ينقل عن بعض قساوسة لبنان، ولو رآه حاسدوه وهو يهدر باللغة الفصيحة لأيقنوا أنه في غنى عن انتهاب الأفكار والآراء.

وأذكر جريدة الإنذار بالمنيا وكنت أحسبها جريدة إسلامية لحرص صاحبها على نشر محاضرات الوعاظ من المسلمين

وخلاصة القول أن جمهور الأقباط في مصر لهم نزعة إسلامية عميقة ترجع إلى صدقهم في الوطنية. وقد كان الأقباط أصهار الرسول، وهي وشيجة يحفظها الكرام من جيل إلى جيل، وكذلك يصنع جميع الأفاضل من الأقباط، إلا رجلاً واحداً يتجنى على الإسلام من حين إلى حين، وهو الأستاذ سلامة موسى على أرجح الأقوال!

نكتة أدبية

قيل إن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كان يلام على اصطفائه للشاعر حافظ إبراهيم، وكان شاعرنا حافظ فيما يذيع المرجفون رقيق الخلق والدين، فقال الشيخ محمد عبده: لقد صحبني حافظ إبراهيم عشرة أعوام فما استطعت أن أهديه ولا استطاع أن يضلني!

وأقول إني صحبت الأستاذ سلامة موسى عشرة أعوام فاستطعت أن أهديه قليلاً، وما استطاع أن يضلني؟

وهل ترجع أيامنا بجريدة البلاغ وكنا شبابنا نضطرم بجذوة الحرية العقلية؟

كنا نجلس في مكتب واحد وجهاً إلى وجه نتساقى حلو الأحاديث ومر المقالات

وهل فر الأستاذ سلامة موسى من وجه ناقد كما فر من وجهي؟

ومع ذلك كان هذا الرجل أول من يتقدم لنصرتي في أيام الشدائد، لأن سلامة رجل والرجال قليل

إليَّ يا صديقي، فما يستطيع الخلاف في الرأي أن يفسد ما بيني وبينك، لأن الصداقة رأي يفوق جميع الآراء، ونحن أولياء الصداقة في هذا الجيل المرتاب.

التاريخ المصري القديم

كنت قلت في العدد الصريح الذي أخرجته مجلة (الاثنين): إن الأستاذ عبد القادر حمزة باشا إمام من أئمة العقل، ولكنه لا يجيد إلا حين يغضب، وقد قلت غضباته منذ عامين

كذلك قلت، ولم أكن أعرف أن عبد القادر باشا سكت عامين ليستعد لإخراج كتابه النفيس (على هامش التاريخ المصري القديم)

فما هذا الكتاب؟

هو تحفة من تحف المنطق والعقل والذوق

هو سلسلة ذهبية تربط حاضر مصر بماضيها في ترافق وتلطف، وتروض المصري على الاقتناع بأنه نشأ في بلد كان المصدر الأصيل لجميع المدنيات

كان ابن العميد يقول: كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً

وكذلك أقول في كتاب عبد القادر حمزة أو كتب عبد القادر حمزة، لأنه له أبحاثاً تاريخية سبقت كتابه الجديد، وهي نماذج حية لقوة الأدب وسيطرة العقل

لا تجد في هذا الكتاب عبارة تشعرك بأن المؤلف يعتسف في تفسير النصوص، أو يحاول إعطاء مصر ما ليست له بأهل، وإنما تشعر بأنه باحث صادق يحاول تبيين ما لمصر من مزايا ذاتية بلا تزبد ولا إسراف

ويظهر من كتاب عبد القادر باشا أن المؤرخين متفقون على أن مصر هي مهد المدنية في التاريخ، وأن هناك آراء في المفاضلة بينها وبين وطن الكلدان الذين كانوا يسكنون أحواض الفرات

معنى ذلك أن الحضارة القديمة مدينة لبلدين اثنين هما مصر والعراق

ومعنى ذلك أيضاً أن المنافسة بين دجلة والفرات والنيل منافسة أزلية، وأن التشابه بين المصريين والعراقيين في الألوان والوجوه ومخارج الحروف له أصول ترجع إلى مئات الأجيال. كنا وكان العراقيون في التاريخ القديم

فمتى نرجع إلى السيطرة على العالم في التاريخ الحديث؟

(لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة)

ولا بد يوماً أن ترد الودائع، ولو طال مطال الزمان.

زكي مبارك