الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 373/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 373/رسالة العلم

بتاريخ: 26 - 08 - 1940


الحياة على الكواكب

للدكتور محمد محمود غالي

من طرق التفكير الحديث - أهل المريخ وهندسة إقليدس - حساب الاحتمال والحياة على غير الأرض - سكان الأرض وجرام الراديوم - العثور على شيء يشمل العثور على غيره - من الفيزيقا إلى النجموفيزيقا - ومن الاحتمال إلى التحتيم

لا يعتقدن القارئ وهو يطالع عنوان هذا المقال أننا نخرج بكتاباتنا من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا فليس هذا الذي قد يتبادر إلى ذهنه بصحيح، فإن ما نكتب لا يمكن أن يخرج عما تعلمناه أو تأثرنا به، وعلاجنا لما يَعِنُّ لنا من مسائل يستند إلى العلم التجريبي الذي لا يعتمد إلا على التجارب العلمية التي يستطيع أن يقوم بها الإنسان، أو العلم النظري الصحيح الذي يقبله المنطق السليم، والذي يتفق والعلم التجريبي أو يقترب منه. فإذا أراد أن يُقنعنا باحث بوجود إنسان مماثل لنا في القمر، فإننا نميل إلى مطالبته بأن يرينا في المنظار الفلكي أثراً من عمل هذا المخلوق القمري ما دام قد فرض أنه مماثل لنا، كمنشأة له مثلاً، وإننا نميل إلى ذلك ما دمنا نعرف أن منظارنا الفلكي بلغ حداً من الإتقان يمكن معه أن نرى المنشآت التي من حجم الجامع الأقصى في القدس أو الرفاعي في القاهرة. وإذا أراد باحث آخر أن يقنعنا أن هذه المنشأة التي تصادف أن رأيناها هي صدفة من عمل الطبيعة، وأن القمر، وهو يتقلص تحت عامل البرودة خلال الملايين من السنين التي يبرد فيها، تكيف على سطحه ذلك الشكل الذي يختلط في المنظار بإحدى منشآتنا، وأضاف هذا الباحث أمراً جديداً يدل عليه التحليل الطيفي الذي يثبت خلو أجواء القمر من الهواء ومن الأوكسجين مثلاً، هذا الخلو الذي يقوم دليلاً على عدم إمكان وجود مخلوق شبيه بنا على سطحه، فإن هذا دليل عندنا يرجح الرأي الثاني.

بهذا الروح نتعرض لمثل هذا الموضوع الخاص بمناقشة الحياة على الكواكب، فليس من عملنا أن نشغل صحيفة العلم بغير العلم؛ والعلم عندنا هو البحث عن الحقائق بالطرق العلمية. ومع ذلك فإننا نسخر من هؤلاء الذين فكروا في التعرف على أهل المريخ بأن يرسموا في إحدى صحراواتنا باللهب وبالحجم الكبير البرهان على نظرية فيثاغو المعروفة التي يبرهنون فيها على أن مساحة المربع المقام على وتر المثلث القائم الزاوية تساوي مجموع مساحتي المربعين المقامين على ضلعيه، بحيث إذا أبصروا بالمنظار الفلكي وبعد فترة كافية، على سطح المريخ الرسم ذاته، كان ذلك برهاناً على أن المريخ مسكون بمخلوقات شبيهة بنا على الأقل في صفة الذكاء، مخلوقات تدرجت بدورها في العلم فعرفت هي أيضاً هندسة إقليدس

إنما نسخر من مثل هذه الوسيلة القاسية، فقد يكون هناك مريخيون، ولكنهم لم يتجهوا في فهم الكون اتجاهنا، ولم يفكروا فيه على طريقتنا، مما قد يجعل فلسفتهم في الحياة لا تتسق مع فلسفتنا، وأغراضهم لا تمت بأية صلة إلى أغراضنا

إنما نذهب في افتراض وجود هؤلاء أو غيرهم مذاهب أخرى متأثرين في ذلك بما يفرضه (حساب الاحتمال) من إمكان وجود مخلوقات غيرنا، وليس عدم وجود أهل للمريخ، إذا قام يوماً برهان على ذلك، بدليل عندنا على عدم وجود أجناس حية أخرى في مجموع الكون، وما المريخ فيه إلا حبة رمل من رمال الصحراوات العديدة؛ إنما تستمد عقيدتنا في وجود الحياة على غير الأرض قوتها من وجودنا وغرابة أمرنا ثم من حساب الاحتمال السالف الذكر، وهو رياضة لا يدل اسمها على ما تعنيه اليوم ولا على ما تقوم به للعلم من خدمات، رياضة يتحتم بواسطتها وقوع مسائل معينة إذا توافرت اشتراطات معينة، ومع ذلك فلسنا في حاجة هنا إلى استعراض علم من أهم العلوم الحديثة، وكل ما نرغب فيه أن يدرك القارئ أننا نقصد من احتمال التعيين؛ وإننا لنستعين في ذلك بمثال سبق أن تقدمنا به في مناسبة أخرى، عندما ذكرنا للقارئ أنه يتحتم أن يموت من أهل القاهرة في كل أسبوع عدد يتراوح بين الخمسمائة والألف مثلاً. هذا حساب محتمل من أرصاد ماضية وطويلة يصبح حساباً حتمياً للشهر الذي نعيش فيه. إن حياتنا وما يكتنفها من غموض، وعظمة الكون واتساعه وعدم استقرار، ووجود الكواكب العديدة، لا حول شمسنا فحسب بل حول ملايين غيرها من الشموس، ووجود جميع الأقدار في المسافات، ثم أتساع نطاق العلم في معرفة خواص الكون ودرجة انتشاره وعظم مسافاته وطول زمنه وعرفة قوة شموسه وكثرتها، والوقوف على حقارة أرضنا التي نلعب فيها دوراً غير ملحوظ، دوراً لا يُؤثر في هذه المجموعة الكبيرة التي تحيط بنا، كل هذا يجعل وجود الحياة على النحو الذي ألفناه أو على نحو آخر في أماكن أخرى في غياب الكون المنتشر - من الأمور الحتمية لا من المسائل الاحتمالية

وأود لو أطمئن إلى أن القارئ قد أدرك غايتنا على النحو الذي قصدناه، ففهم كيف يصبح الاحتمال أمراً حتمياً إذا لم نتعمد الوصول به إلى تعيين دقيق في الموضوع الذي يتناوله الاحتمال؛ ونعيد القول بأننا نستطيع أن نعرف العدد التقريبي لمن سيقضون نحبهم من سكان القاهرة في شهر سبتمبر القادم بمقارنته بشهور سبتمبر من السنين الماضية، وذلك بعمل امتداد رياضي لهذه المسألة البسيطة ولكننا لا نستطيع أن نكتب لوحة عليها أسماء الذين سيموتون. ومهما يكن من الأسباب فإنه من المحال أن يمر شهر سبتمبر القادم ولا يحدث في القاهرة هذا العدد المحتمل من الوفيات

كذلك لو وضعنا جراماً من الراديوم في صندوق متروك في المعمل، فإننا على ثقة بأنه ستخرج منه، بالتفتت الذري والإشعاع الذاتي، آلاف معينة من ملايين الحُبَيبات الراديومية في كل ثانية تمر من الزمن، وإننا على ثقة بتناقص هذا الجرام إلى نصف وزنه بعد مرور ألف وخمسمائة سنة، كما أننا نستطيع أن نعين مقدار ما يخرج يومياً من هذه الوحدات التي لا تعود بحال إلى جسمها الأصلي، ونعرف كيف يتغير هذا المقدار بعد ذلك العهد الطويل وبعد أن يكون قد فقد نصف وزنه أي نصف سكانه، ولكننا لا نستطيع أن نُعيِّن بالذات الوحدات التي شاء لها القدر أن تخرج اليوم من بين بلايين الوحدات التي يحتويها هذا الجرام

هذا الجرام من المادة المشعة يشبه في الواقع الألفي المليون نسمة الذين يسكنون الأرض. إننا واثقون بأن نصفهم سينقرض بعد نصف قرن مثلاً، ولكننا لا نستطيع أن نعين أسماء هؤلاء الذين يشاء لهم القدر أن ينقرضوا في النصف الأول من هذه الحقبة. كذلك الكون، كل شيء يدل على ضرورة وجود الحياة في بعض أنحائه المترامية، ولكننا لا نستطيع أن نعين الأمكنة أو الكواكب بالذات التي عليها الحياة، وعندي أن الذين يريدون أن ينكروا وجود الحياة بأية صورة في الكون المنتشر، الكون الذي عرَّفناه للقارئ وفق (إينشتاين) ووفق (دي ستير) الكون الذي له شكل كرة زائدة ذات حدود مختلفة في المكان والزمان، الكون الذي يكبر وينتفخ يوماً بعد يوم - لا يختلفون عن هؤلاء الذين يحاولون إقناعنا بمرور شهر سبتمبر القادم دون حدوث وفاة شخص واحد في القاهرة. إننا نرد على هؤلاء بقولنا أننا واثقون بوفاة عدد كبير في الشهر القادم لا يمكن أن ينقص عن حد معين، وأننا في هذا ننتقل من مسألة احتماليه إلى مسألة حتمية. إننا واثقون من العدد التقريبي للذين سيفارقوننا، ولكننا عاجزون عن إدراك أسمائهم، ونحن في ذلك نتبع الطريقة ذاتها التي نثق فيها بوجود الحياة على كثير من الكواكب دون أن نعين هذه الكواكب بالذات بين حدوده الفسيحة

ولا تحسَبَّن إذن أنك قد تميزت بحياة تعتقد أنها الوحيدة في الوجود، وأن كل ماعداها موت في موت وجمود في جمود، ولا تعتقدن فيما تعتقد أنك الوحيد في الكون العظيم، تمرح على هذه الأرض بين أشجارها الفيحاء وورودها الجميلة، تتغذى من مملكة نباتية بديعة، وتستمتع بأخرى حيوانية رائعة. إن هذه الحياة لا يمكن أن تختص بها حبة الرمل الحقيرة التي نعيش عليها، وليس ما يمنع أن تتكرر عملية الحياة في غيرها من الحبات العديدة المتناثرة في الكون على هذه الصورة أو على غيرها

ولو خلت الأرض من الإنسان الفخور بذاته المعجب بذكائه لظلت الأشجار والورود والحيوان باقية ما بقيت الشمس؛ فهي تعيش عليها بقدر ما نعيش نحن، وتنعم بفعلها بقدر ما ننعم، وليس ما يمنع أن يكون حول الشموس الأخرى حياة كحياتنا أو تختلف عنها، بل إن كثرة هذه الشموس في الكون المغلق على نفسه تحتم وجود هذه الحياة

ولو أنك دخلت حديقة متسعة بدأ نضوج نوع من الفاكهة فيها، وليكن البرقوق مثلاً، فإنه من غير الممكن أن يكون قد نضج في اللحظة التي تتجول فيها برقوقة واحدة بين ملايين البرقوق الموجود على الشجر، بحيث لو عثرتَ على برقوقة ناضجة فإننا واثقون أنك إذا تجولت كثيراً وجدت غيرها من البرقوق الناضج، ولو أنك بادرتني بقولك إنك وجدت برقوقة واحدة ناضجة لم تجد غيرها فإنني لا أميل إلى تصديقك، أو أعتقد أن حديقتك صغيرة، وأنها لا تحوي سوى بضع شجرات من البرقوق، ولو أنك بادرتني أنك على العكس تمتلك حديقة فسيحة الأرجاء متسعة بحيث لا تكفي أيام عديدة للتجول في أنحائها المختلفة، فإنني واثق إذن أن هذا النضوج قد حدث في أماكن عديدة، وأنك حتما ستعثر على كثير من البرقوق الناضج كلما تجولت في الحديقة كذلك الكون ننظر إلى الحياة فيه لا كعملية محتملة، بل كواقع موجود

وهانحن أولاء ننتقل بالقارئ قليلاً قليلاً، لا من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا، وإنما من الفيزيقا إلى النجموفيزيقا، وهي من الموضوعات العلمية الصحيحة التي تتصل بحقائق الكون

وفي هذا نقترب من المخلوق العجيب الذي لا يرى من الترام إلا مستطيلا ومن (الكمساري) إلا دائرة تنتقل على حافة المستطيل، ونقترب من بعض الفروض التي نريد بها أن نضع أنفسنا وجنسنا البشري في جدول المخلوقات في الكون العجيب، وبهذا نقترب من مسائل بدأت في ذهننا كمسائل احتمالية وانتهينا فيها بعد طول التأمل إلى أنها حوادث حتمية. وفي مقالنا القادم نصف كوناً حياً مقفلاً على نفسه، وما نحن في ذلك إلا محاولون.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة