الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 373/السيد محمد رشيد رضا

مجلة الرسالة/العدد 373/السيد محمد رشيد رضا

بتاريخ: 26 - 08 - 1940


بمناسبة مرور خمسة أعوام على وفاته

للأستاذ محمود أبو رية

من حق شيخنا الإمام السيد محمد رشيد رضا علينا أن نؤدي بعض ما يجب له من التنويه بفضله، والإشادة بذكره ما أتيحت لنا الفرص وما واتتنا المناسبات. وكذلك من الحق على الرسالة الغراء وقد حملت علم العربية في لغتها ودينها أن تتحفى بهذا الإمام الجليل فتخصه بجانب من عنايتها، وتجعل لآرائه نصيباً من صفحاتها، ومن أولى بهذه الحفاوة منها وهي أحق بها وأهلها؟

هذا ما يجب علينا وعلى الرسالة، لأن هذا الحجة الثبت ليس من كبار علماء عصره فحسب، وإنما هو ولا ريب من كبار أئمة الإسلام على مد عصره، خدم دينه وأمته بما لم يخدمها أحد قبله منذ قرون طويلة، وخلف آثاراً خالدة في دراسة الدين الإسلامي لم يكتب قلم عالم من قبل مثلها - ونحن نعرف ما نقول - وفسر كتاب الله تفسيراً هو معجزته في هذا العصر. إذ لكل عصر تفسير يكشف لأهله عما فيه من أسرار رائعة وآيات بينة حتى تظل حجة الله قائمة ومعجزة رسوله دائمة؛ ونحن فيما نكتب عنه اليوم لا نحاول أن تترجم له ترجمة تحليلية مفصلة تحيط بنواحي عبقريته وتنفذ إلى أقطار إمامته؛ فإن ذلك يحتاج إلى مؤلف كبير برأسه نرجو أن نوفق فيه ويعيننا الله عليه؛ وإنما ننشر بمناسبة مرور خمسة أعوام على وفاته صفحة من تاريخه تصور ناحية من فضله وتظهر قبساً من أعماله يضيء جانباً من عمله

نبت شيخنا الجليل ونشأ في قرية (القلمون) من قرى الشام؛ ولما قرأ القرآن والخط وقواعد الحساب أُدخل معاهد العلم بمدينة (طرابلس)، وبعد أن أتم الدراسة فيها على ما يجري عليه نظام التدريب في هذه المعاهد واستوفى كل العلوم الدينية والأدبية على أكابر شيوخ الدين والأدب فيها هاجر إلى مصر فجاءها في رجب سنة 1315عالماً دارساً. وكان الذي ساقه إلى الهجرة إلى مصر أن آنس في نفسه أنه يستطيع خدمة دينه وأمته بما أوتي من حدة الفؤاد واستقامة الفكر وما وهب من قوة الإرادة وكمال الاستعداد، وأن ذلك غير مستطاع في بلاده إذ كانت يومئذ بين ماضغي الظلم التركي، وقال رحمه الله في ذلك: (فعزمت على الاتصال بالسيد جمال الدين لتكميل نفسي بالحكمة والجهاد في خدمة الملة، فلما توفاه الله تعالى إليه وأشتهر أن السياسة الحميدية هي التي قضت عليه ضاقت عليّ المملكة العثمانية بما رحبت وعزمت على الهجرة إلى مصر لما فيها من حرية العمل واللسان والقلم، وكان أعظم ما أرجوه من الاستفادة في مصر الوقوف على ما استفاده الشيخ محمد عبده من الحكمة والخبرة وخطة الإصلاح التي استفادها من صحبة السيد جمال الدين، وأن أعمل معه وبإرشاده في هذا الجو الحر)

وقد أتصل بالأستاذ الإمام محمد عبده من أول يوم هبط فيه مصر وكان معه كما قال رحمه الله: (كاللازم والملزوم اللذين لا ينفك أحدهما عن الآخر) يستزيد من علمه، ويستضيء بحكمته إلى أن صار ترجمان أفكاره والمعبر عن آرائه، ولم يلبث قليلاً في حياته الجديدة حتى أخذ نفسه بما جاء من أجله، فأنشأ مجلة (المنار) وصدر أول عدد منها في اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال سنة 1315 وقد جعل غرضها الأول:

(الحث على تربية البنات والبنين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة، وطرق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبست الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شهدت الحق بالباطل، حتى صار الجبر توحيداً، وإنكار الأسباب إيماناً، وترك الأعمال المفيدة توكلا، ومعرفة الحقائق كفراً وإلحاداً، وإيذاء المخالف في المذهب ديناً، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات صلاحاً، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفاناً، والذل والمهانة تواضعاً، والخشوع للظلم والاستسلام للضم رضى وتسليماً، والتقليد الأعمى لكل متقدم علماً وإيقاناً الخ)

كان الذي يرمي إليه شيخنا المحدث الفقيه ويدأب عليه في عمله هو (الإصلاح الديني والاجتماعي وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل وموافقته لمصالح البشر في كل قطر وفي كل عصر)

وكان رأيه الذي لا ينفك يجاهر به من يوم أن أنشأ فيه مجلته أن الدعوة إلى هذا الإصلاح لا تكون إلا (بهداية الكتاب والسنة، لأنهما مشتملان على كل ما نحتاج إليه لأجل الهداية والنهضة الاجتماعية)

وهذه الطريقة في الإصلاح هي التي وضع أساسها موقظ الشرق السيد جمال الدين، وعممها تلميذه الأكبر الأستاذ الإمام محمد عبده رحمهما الله؛ ثم جاء شيخ الإسلام السيد رشيد فرفع قوائمها وأتم بنائها، ولولاه لأندك هذا الأساس وغطاه تراب النسيان. . .

ولم يكن ما دعا إليه شيخنا رحمه الله سهلاً ولا طريقة ميسرة، وبخاصة في مثل الزمن الذي ظهرت فيه دعوته، فقد وجد في سبيله ما يجده المصلحون في أممهم من العنت والأذى، فحورب من نواح متعددة لا يصمد لمثلها إلا كل مصلح قوي، وشجاع كمي. وقد بيّن رحمه الله تلك النواحي التي عادت المنار فقال:

(عاداه المرتزقون بالخرافات والبدع من أهل الطريق وغيرهم، وعاداه علماء الجمود، وعاداه النفوذ الاستعماري الدولي، وعاداه دعاة التغير والتفريج الإلحادي) وقبل ذلك عادته الدولة العثمانية من أول ظهوره وآذته في أهله ببلاده

وكان الذي أثار عليه أعاصير هذه العداوات لتزعزع من أركانه، وتهدم من بنيانه، أن كان لا يألو جهداً في الدعوة إلى حرية الفكر، والاستقلال في فهم العلم الذي لا ينال العلم الصحيح بدونه، وترك التقليد وعدم التقيد بمذهب من المذاهب لأن التقيد بالمذاهب يدعو إلى التعصب لها؛ والتعصب، هو مفض إلى التباغض، ينافي الوحدة الإسلامية، ويخالف نصوص القرآن. وكان هو العالم الوحيد بعد عصر الأئمة المجتهدين الذي يجاهر بأنه لا يقلد في عقائده ولا في عبادته أحداً من الأئمة، فكان لا يعبد إلا الله ولا يعبده إلا بما أمر، وإذا تنازع مع أحد في شيء لا يرد التنازع إلى أحد من الأئمة والمشايخ وإنما كان يرده إلى الله والرسول أي إلى الكتاب والسنة. ولقد كان أشد الناس عداوة له دجاجلة القبوريين من الشيوخ الرسميين الجامدين ومن يتبع نعيقهم من الإمعات الجاهلين الذين هم بلاء الأمم وأرزاء الشعوب

وإذا كان الكلام عن نواحي الإصلاح التي ضرب فيها شيخنا السيد رشيد متعددة والحديث عنها يحتاج إلى مقالات طويلة ودراسة مستفيضة كما أبنَّا من قبل، فإنا نقصر كلامنا اليوم من ترجمته على ما سعى في سبيل إصلاح الأزهر وتجديد الدين الإسلامي. وما انتحينا هذا النحو إلا لمناسبة حركة الإصلاح القائمة بهذا المعهد اليوم، ولأن مجلة الرسالة الغراء قد جعلت تجديد الدين من أهم أغراضها، وجرت الأقلام بهذا الأمر على صفحاتها لعل فيما نذكره تبصرة للمصلحين ومعيناً للمجددين

ولا يفوتنا أن نذكر أن الذي دعا شيخنا رحمه الله إلى ذلك أن وجد هذا المعهد الكبير لا يدرس فيه الدين وعلومه كما يجب أن تكون الدراسة الحق بل كان (التقصير في دراسة الإسلام فيه أمر ظاهر) كما بين ذلك أبلغ بيان أديب العربية الكبير (محمد إسعاف النشاشيبي) في كتابه النفيس الممتع (الإسلام الصحيح)

ولقد كان أول نقد صريح وجهه (المنار) إلى علماء الأزهر الذي صدر في شهر شعبان سنة 1316 عن بدعة احتفالهم بمولد الإمام الشافعي الذي يسمونه (الكنسة) إذ كانوا يكنسون قبة الضريح ويقسمون كناستها بينهم للتبرك بها ويكون نصيب كل واحد منهم في هذه الكناسة بمقدار درجته العلمية، وكذلك كانوا ينقلون العمامة التي على المقام من رأس عالم إلى رأس آخر ليستزيدوا من البركات ويستكثروا من النفحات. ورحم الله شيخنا المحدث اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي فقد سحت قريحته بقصيدة رائعة في هاتين العبادتين الوثنيتين اللتين يقترفهما علماؤنا مصابيح الظلام، وأئمة الهدى الأعلام؛ ولو كان المجال ذا سعة لأوردنا هنا هذه القصيدة العصماء، ليعجب القراء بها، ويتندروا بما جاء فيها وكان أول انتقاد على علماء الأزهر أن أحد أعضاء مجلس إدارة الأزهر وهو الشيخ أحمد الرفاعي كان يجادل يوماً الأستاذ الإمام محمد عبده في أمر علم السنة وتعليمها، فكان مما قال هذا الشيخ: (إن علم السنة لا حاجة إليه، ولا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث، بل (الواجب) الأخذ بكلام الفقهاء، ومن يترك فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف فهو زنديق)!

ثم اخذ المنار يبين لشيوخ الدين أنهم أبعد الناس عن معرفة فن التعليم، وأنهم لا يقرنون العلم بالعمل، وكان يحثهم دائماً على العناية بعلم الأخلاق. ولما وجدهم يصدون عن تعليم العلوم الرياضية والطبيعية، وأن كبارهم يفتون بأن هذه العلوم لا لزوم لها، صاح فيهم: (إن الإصلاح الإسلامي يتوقف قبل كل شيء على إقناع العلماء ورجال الدين بأن العلوم الرياضية والطبيعية التي محور الثروة والقوة لازمة لا مندوحة عنها، ويجب أن تعلم مع الدين) ومما عابه عليهم وآخذهم به أنهم يشاركون العامة في الخرافات والبدع ولا يكتفون بذلك بل يدعون الناس إليها ويحضونهم عليها بما جعلنا ضحكة بين الأمم وسخرية بين الشعوب، ولأن هذه الكلمة لا تحتمل تفصيل القول في جهوده لهذا الإصلاح فإنا نأتي بها مجملة وهي:

1 - استقلال الفكر وحرية العقل في العلم واجتناب تقليد العلماء والكتب فيه

2 - إبطال البدع والخرافات، والتقاليد والعادات التي أفسدت العقائد والأخلاق والأعمال وروَّجت في المسلمين أسواق الدجل والخرافات. . . ولا سيما بدع الموالد وعبادة القبور والمشاهد وأكبر مفاسدها اشتراك علماء الأزهر فيها وسكوت غير المشتركين فيها عن إنكارها فكانوا بذلك قدوة سيئة للعوام، وفتنة منفرة للمتعلمين عن الإسلام، وحجة للكافرين على المسلمين

3 - الرجوع إلى هداية القرآن العليا وهدى السنة النبوية المثلى في تصحيح العقائد وتزكية الأنفس وتهذيب الأخلاق، والاتباع المحض في العبادات على منهاج السلف الصالح وهو يتوقف على إحياء علوم التفسير والسنة وآثار السلف

4 - إصلاح نظام التربية والتعليم والتصنيف بالأساليب العصرية

5 - إدخال علوم البشر في الجامع الأزهر ومعاهد التعليم التابعة له

6 - إتباع سنة التخصص (أو الاخصاء) في العلوم والفنون

7 - إعادة ثقة الأمة بالعلماء إلى ما كانت عليه في عصور الإسلام الحية

8 - الدفاع عن الإسلام بالرد على الملاحدة ودعاة النصرانية ودحض شبهاتهم

9 - الوعظ والإرشاد العام للمسلمين

10 - الدعوة إلى الإسلام في الشرق والغرب بعد الاستعداد لها

هذه هي خلاصة جهاده رحمه الله في سبيل إصلاح الأزهر وإذا كان رحمه الله قد ذكر في آخر حياته أن كليات الأزهر قد اقتنعت بأكثر ما دعا إليه وأنها ستأخذ به كله واطمأن بذلك فإنا إن شاء الله لمطمئنون كذلك بأن الأزهر سيبلغ المنزلة التي يستأهلها في العالم كله على مد أقطاره ما دام الذي يقبض على زمامه اليوم هو الإمام المراغي وما دام شبابه من حوله يؤيدونه ويتبعون سبيله

وإلى هنا نقف في القول في ترجمة شيخنا المحدث الفقيه السيد محمد رشيد رضا، ولكيلا يرمينا أحد بالغلو فيما تحدثنا به عنه نطرز ما قلنا بعبارة رائعة في وصفه للأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، ذلك الإمام الجليل الموصوف بسعة العلم وبعد النظر ودقة التعبير، نجعلها مسك الختام

قال حفظه الله في خطاب بليغ ألقاه في حفلة تأبينه:

(كان فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا محيطاً بعلوم القرآن، وقد رزقه الله عقلا راجحاً في فهمه، ومعرفة أسراره وحكمه، واسع الاطلاع على السنة وأقضية الصحابة وآراء العلماء عارفاً بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية، ملماً بما في العالم من بحوث جديدة، وبما يحدث من المعارك بين العلماء وأهل الأديان؛ فهو ممن أوتي الحكمة ورزق الخير الكثير

وقد كان - بلا شبهة - أكبر المدافعين عن قواعد الإسلام وأشدهم غيرة عليها، فني في خدمة دينه وجاهد في الله حق جهاده وأوذي في سبيل مبادئه وصبر وصابر إلى أن توفي رحمة الله عليه

كان مبدؤه مبدأ جمع علماء السلف: التحاكم إلى الله ورسوله عملاً بقوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)

وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف أيضاً: تخيَّر الأحكام المناسبة للزمن والنافعة للأمم في مواضع الاجتهاد

وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف في كل ما يتعلق بذات الإله سبحانه وصفاته، وكل ما يتعلق باليوم الآخر؛ فهو رجل سني سلفي يكره التقليد وينادي بالاجتهاد ويراه فرضاً على نفسه وعلى كل من قدر عليه

من الحق أن نعد السيد رشيد من المجددين، وأن نعده من المجاهدين في إحياء السنة، ومن الحق أن نعتبر بما كان للسيد رشيد من أناة وصبر في البحث والقراءة، والتأليف والفتوى والمناظرة؛ ومن الحق أن نذكر أن هذه الأعمال الصالحة قام بها احتساباً وأدّاها في سبيل الله

فرحمة الله على السيد رشيد وجزاه الله في الإسلام أحسن ما يجازى به رجل وهب حياته للعلم والدين). ونحن نكرر طلب الرحمة والرضوان من الله تعالى عليه، إنه سميع الدعاء.

(المنصورة) محمود أبو رية