الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 372/القصص

مجلة الرسالة/العدد 372/القصص

بتاريخ: 19 - 08 - 1940


قصة واقعية

آخر الطريق

للأستاذ محمد سعيد العريان

على الضفة اليمنى من (بحر شبين) كان يقوم القصر الأبيض، كما يسميه أهل القرية والقرى المجاورة؛ وهو بيت مبني على طراز بيوت المدن، تفصل بينه وبين الطريق العام حديقة كبيرة تحنو على حوافيها أشجار ذات ظلال وأريج.

في هذا القصر كان يقيم (عبد الرحمن بك) وهو ضابط من ضباط الجيش القدماء، له ماض مجيد ووقائع مشهورة؛ فلما أسَنَّ وقعَد، هجر المدينة إلى الريف الهادئ، فاتخذ له بيتاً ومزرعة، وأقام حيث بنى القصر البيض في عز وجاه ومتعة.

وكان له ولد واحد أتاه على حين كبرة وهرم، فنشأ في الريف نشأة أهله، وتشرَّب من طباعهم وعاداتهم المأثورة؛ فلما بلغ السابعة بعث به أبوه إلى المدينة؛ فشدا من العلم ما شدا، ثم عاد ليقيم بجانب أبيه ويقوم على شئون مزرعته.

. . . لم يكن في القرية كلها، وفي القرى المجاورة، فتّى أعزُّ على أهله وعلى جيرانه من (عايد) بن عبد الرحمن بك؛ فإنه لفتى ريّان العود، ناضر الشباب، فيه دمائه الحَضَريَّ المتبَدِّي وشهامة القروي المتحِّضر، وإنه لوحيد أبيه وصاحب أمرِه، وأبوة سيِّد القرية العزيز الممتَّع.

وكان (عابد) في السابعة عشرة من عمره حين التقى بأمينة عيناً لعين، فوقع من نفسها ووقعتْ من نفسه؛ وكان جالساً في خُصٍّ إلى جانب من مزرعة أبيه حين مرَّت بن لأول مرة فأتبعها عينيه مأخوذاً، ومضت على وجهها مغضية من حياء، وهي تتمتم بالتحية. وابتدأ للحب تاريخ. . .

لم يكن أبو (أمينة) من ضباط الجيش القدماء؛ نعم، ولا كان له تاريخ ووقائع يباهي بها ويفتخر؛ ولا كان يملك قصراً ومزرعة؛ ولكن أمينة على ذلك قد استطاعت أن تغلب الفتى على نفسه وتملك قِيادَه. . .

ولما التقيا بعدُ على غفلة من العيون في ظل شجرة الصفصاف، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، نظر إليها ونظرتْ إليه، وكانت شفتها تختلج وفي عينيها عبرة؛ ودنا منها ومد إليها يداً وامتدَّت يداها إليه ترُدُّه، وهمستْ: (عابد!) وبرقت قطراتُ الدمع بين أهدابها؛ وتحدثتْ عينان إلى عينين؟ وأرخى الليل سدوله وما تزال أمينة في مجلسها وما يزال عابد؛ ثم نهضا فاتخذا طريقهما إلى القرية صامتين يتبادلان لمسة باليد كلما همَّتْ أن تجتاز قناة في طريقهما بين الحقول، يهم أن يعنها وتهم أن تستعينه؛ ثم افترقا قبل أن يبلغا أول أبيات القرية وما سألها ولا أجابت! وأوت أمينة إلى منامتها بجانب أخيها الصغير في دار أبيها يراوح القلق بين جنبيها، واتخذ عابد مقعده إلى جانب النافذة في غرفته من القصر الأبيض، يسرِّح عينيه في الفضاء المظلم الذي يغلّف دور القرويين ويلفُّها في صمت موحش؛ وأشرق الصبح وما تزال وما يزال!

كان عابد يعلم من نفسه ما يعلم الناس، أنه سيِّد نفسه، وأنه من المنزلة عند أبيه بحيث يحق له أن يتمنى وأن ينال؛ ولكنه إلى ذلك كان يشعر في أعماقه أن القدر يتربص به ليحول بينه وبين أعز أمانيه؛ أتراه يستطيع أن يقول ويكشف عن ذات نفسه؟ وماذا يقول أبوه ويقول الناس حين يصارحهم أنه يريد أن يتزوج أمينة؟

أمينة. . .؟ من تكون ومن يكون؟ هل هي إلا فتاة من فتيات يتمنين لو كن من خدم القصر الأبيض؟ نعم وإن أباها لواحد من عشرات يعيشون في ظل القصر الأبيض خَوَلاً وبطانة، إنه لسيد من يليه من الفلاحين ولكنه عبد وسيده، وإنه ليملك داراً وأفدنة كاسبة ولكنه مملوك؛ لأن القرية كلها ليس فيها إلا سيد واحد ومالك واحد. . .

كذلك كان عابد يفكر حين كانت أمينة راقدة في فراشها تفكر؛ وبكى الفتى حين تبين موقفه، وتمنى لو كان واحداً من سواد أهل القرية وله رأيه وإرادته، ولم يكن السيد العاجز. وبكت الفتاة حين تبينت موقفها وأعجزها أن تتمنى!

وقالت له: (سيدي. . .!)

وشد على يديها فلم يدعها تتمم، وقال: (أمينة. . .! ناديني باسمي يا حبيبتي! لست. . .)

ومال رأس على كتف، وامتزح الدمع بالدمع، وَتَرَوَّتْ الشفاهُ الظمأى، وتلاحقت أنفاس مبهورة؛ وهمت أن تقول، وهمّ أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف، وتساءل قلب وأجاب قلب، وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام، وهبَّتْ نسمة ندية فالتقى غصنان ثم افترقا، وتهامست زهرتان ثم أمسكتا، وأطلّت عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، وازدحمت العيون على فروج الخباء تنظر؛ ثم انقشع السحاب وبرز القمر؛ وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل، ثم عاد فاستتر؛ وكان على الغصن قمْريةٌ تغني، وكان غناؤها خفقات قلبين يتهامسان.

. . . وقام يودِّعها وقامتْ، وأبتعها عينيه حتى واراها الظلام ثم قَفل وفي قلبه نجوى وفي عينيه بريق، وعلى شفتيه مَذَاق، وفي أذنيه رنين!

وتتابعت لياليهما حافلة بأسباب الهناء والمسرة في غفلة من العيون، لم يطلع على سرهما أحد إلا النجم والزهر وغِرِّيدة الشجر وطابت له الحياة وطابت لها، لولا حديث بينه وبين نفسه يؤرقه كلما جن الليل، ولولا وساوسها!

وأجمع رأيه على أمر؛ وكأنما كان المسكين يتعجَّل آخرةَ هنائه حين بدا له أن يكشف صدره لأمه ويستعينها. . .

وقالت أمه وفي عينيها دهشة وفي وجهها غضب: (أمينة! وأنت لها يا عابد!)

وهتف الفتى في يأس: (أمِّي!)

ولكن أمه لم تجب، وأجابه أبوه؛ هل رأيت قطُّ قائداً في هيئته العسكرية قافلاً من معركة بنصف جنوده!

كذلك كان موقف عبد الرحمن بك من ولده في ذلك اليوم؛ وطأطأ الفتى رأسه يستمع إلى أبيه يحكم عليه باليأس والحرمان! ثم سقط على كرسيه باكياً ومضى أبوه إلى غرفته.

ولم يلتق عابد وأمينة منذ اليوم، وافترقا بلا وداع وما افترقا قطُّ إلا على ميعاد! ولزم الفتى غرفتَه مطويّاً على آلامه، لا يرى أحداً ولا يراه أحد؛ على حين كان ثلاثة نفر يعنيهم من أمره ما يشغلهم ليلَ نهار. . .

أما واحدةٌ فكان لها كل يوم مَغْدىً ومراح في مواعيدَ رتيبةٍ إلى شجرة الصفصاف القائمة على حافة الغدير، تتروّح عندها رَوْحَ الماضي في خفقة الغصن ورفة الزهر وأرج النسيم، ثم تروح وحيدةً دامعة العين!

وأما اثنان فرجلٌ وامرأة في خريف الحياة يتشاوران في أمر وحيدهما الذي يوشك أن يُضّله الحب عن رشاده فيهوي إلى عار الأبدّ!

أربعة أشقياء لو شاءوا لاستقامت لهم الحياة واستقاموا لها فسَعِدوا، وضعتْهم التقاليدُ بين شِقَّي رحىً طحون تشوك أن تحطمهم حطمة الموت فلا نجاة!

وضاق الفتى لنفسه وضاقت به، ولم يطق الصبر بعد، فأجمع أن يكون سيد نفسه فلا يسمع لقول أحد، وأعلن العصيان!

وتهالك أبوه في مقعده وطأطأ رأسه وجاشت نفسه بآلامه، وتحيرت دمعتان في عيني الرجل الذي لم يبك قط، ووقف الفتى رافع الرأس وفي عينيه بريق الإرادة الصارمة، ونظرت أمه إليه فأطالت النظر، ثم هتفت بضراعة: (عابد!)

وظل الفتى صامتاً لا تطرف عيناه، فلو أن القدر يتحدث بلسان أمه ما ثناه عما اعتزم!

وبلعت أمه ريقها وابتسمت، وأشرقت في وجهها مسحة هدوء ظاهر؛ ثم أردفت: (أجاد أنت يا عابد؟)

وضحك الفتى ساخراً، وأجاب: (نعم، ولا بد. . .!)

ووقفت الأم، ثم تقدمت في خطوات ثابتة حتى وضعت يدها على كتفه، وقالت في لهجة الأمر والثقة: (ذلك حقك يا عابد، ولكن. . . ولكنك لن تفعل!)

وابتعد الفتى مغضباً وهو يقول: (بل إنني سأفعل، سأفعل؛ سأتزوجها ولو. . .)

وقاطعته أمه: (. . . ولو كانت أختَك. . . . . .!)

وسكت عابد وجحظت عيناه مدهوشاً؛ واسترسلت أمه: (. . . بلى؛ أنها أختك يا عابد؛ لقد رضعتها من ثدي واحدة دهراً طويلاً يا بنيَّ من طفولتك؛ أتراك تريد أن تتزوج أختك يا عابد. . . .؟!)

ودار رأسُ الفتى وأوشك أن يسقط، وتهاوى على كرسيه لا يكاد يعي، وغَشَّى عينيه الدمع. . .

وبدأ منذ اليوم تاريخ جديد، أما الفتى فراح يعالج نفسه بالصمت والوحدة لعله أن ينسى؛ ولكن صورتها ما برحت تتخايل لعينيه في فنون؛ لقد استطاع أن يقهر نفسه على السلوان ويسومها الرِّضا؛ ولكنه لم يستطع أن يتصامّ عن تأنيب الضمير ووخز الندم كلما تذكّر أن أمينة أختُه، وأنه نال منها ما لا ينال الأخ من أخته وترك لها خِزي الدهر وعار الأبد؛ فلا كان لها منه حِفاظُ الأخ ولا وفاء الحبيب!

هذا واحد؛ أما الأب والأم فراحا يدبران أمرهما قبل أن ينتفض غزلهما، وإنهما ليحسان حيناً بعد حين آلاماً مُرةً من قسوة ما نال وحيدهما العزيز المرجوّ؛ فذهبا يعدان العدة لتزويجه قبل أن ينتكس ويعاوده مرضُه!

وأما هي، أما هي فكانت بين مَغْداها ومراحها كل يوم إلى شجرة الصفصاف ما تزال تأمل أملاً، أملاً يلوح ويخفي كما يتراءى القمر بين قطع السحاب، ولكنه أمل يمسك عليها نفسها. . . وبلغها النبأ أخيراً وعرفتْ أن فتاها يوشك أن يتزوج؛ وارتكضت أحشاؤها تنبئها نبأ آخر. . .

وكانت القرية ساطعة الأنوار احتفالاً بعرس عابد، حين كانت أمينة تدرع الظلماء في طريق لا تعرف له غاية!

وأصبحت القرية بعد ليلة ساهرة تبحث عن أمينة فلم يعرف لها خبر؛ ولكن سرها ظل مكتوماً لم يطلع عليه أحد؛ لأن الثلاثة الذين يعرفونه لم يكن يسرهم أن يعرفه أحد!

وراح أبوها وذوو قرابتها يتقصَّصون الخبر ويتبعون الأثر؛ فلم يبلغوا إلى غاية؛ وذهب الناس في الحدْس مذاهب، ولكن أحداً منهم لم يبلغ من سوء الظن أن يتهم أمينة تنال من شرفها؛ إذ كانت عندهم فوق الظنون والريب؛ فاتهموا بها وَحْشَ الفلاة ومَوْجَ البحر ولم يتهموها؛ وأقاموا لها مأتماً وقرءوا لها القرآن!

وسمع عابد النبأ فعرف ما كان، وأقام مأتمها في قلبه ولم يزل صدى أغاني العرس في أذنيه!

لم يسعد عابد بزواجه كما رجا أهلهُ، ولم ينس؛ وعاش كما قٌدِّر له، بين حُطام الأمل، ولوعة الذكرى، ولذْع الندم؛ صباحٌ ومساء، ونجم ينير ونجم يغور، والحياة هي الحياة إلا ما تُجدِّ له الذكرى من الألم وعذاب القلب ووخز الضمير!

كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، وما يزال عابد كعهده يوم كان؛ لم يغيِّره الشيبُ الباكرُ شيئاً ولم تقوَ الأيام أن تمحو آلامه؛ على أنه اليوم يعيش منفرداً في القصر الأبيض كما عاش منفرداً بآلامه منذ سنين؛ وقد آل إليه القصر والمزرعة بعد وفاة أبيه وأمه، وعقمت زوجُه فلم تقدر أن تمنحه الولد، كما عقمت من قبل فلم تقدر أن تمنحه الحب؛ وعاش وعاشت كما يعيش الضيف في غير أهله، فليس بينهما شابكة من حب ترِّفه عنه، ولا رابطة من أمل تقرِّ بها إليه؛ فلولا هذه الخادمة الصغيرة التي ترعاه وتلبِي نداءه وتبسم له لكانت حياته جحيما لا طاقة عليها ولا صبر معها؛ وقد اصطفاها عابد لخدمته الخاصة منذ بعيد؛ فليس لها من عمل في القصر إلا خدمته والترفيه عنه وليس لأحد غيره عليها حق.

وكانت (زهيرة) الخادمة حقيقة بهذه المكانة من سيدها؛ فكانت صَموتاً مطيعة لا تسبق إلى عمل في غير وقته ولا تؤخره وكأنما صنعت لها روحها ابتسامتها الدائمة، فلا تُرى إلا ضاحكة السن، تطِلْ من عينيها نفس صريحة فيها بريق الإخلاص والحب تنشر حولها جوّاً من الرضا والطمأنينة!

لم يكن ذلك شعورَ عابد وحده، ولكنه كان شعور الكافة من أصدقائه القليلين الذين يزورونه في قصره؛ على أن أحداً منهم لم يبلغ به حُسْنُ الرأي في (زهيرة) أكثر من هذا الحدّ؛ بل إنها كانت موضع التهمة في أمانتها عند بعض خدم القصر. فكثيراً ما اختفت أشياء من أشياء سيدها لم تكن تبلغ إليها يد غير يد زهيرة؛ ولكن سيدها كان من حسن الظن بها بحيث تنال منه ما تشاء لو أنها أرادت؛ فكيف يتهمها بمنديل أو خاتم أو صورة تختفي ولو شاءت لمدت يديها من المال إلى ما تريد؟

وبلغت (زهير) سن الشباب ونضجت أنوثتها، وكان لها جمال خَلق إلى جمال العثْرة وحسن الخلق؛ وخلا عابد إلى بعض صحابته يوماً يُسِرْ إليه حديثاً؛ وأجفل صاحبه مذعوراً وهو يقول: (وتفعلها يا عابد؟)

وسكت عابد، ولكن نفسه كانت تحدثه حديَثها. . .

ولما خلا عابد إلى نفسه أطلق العنان لأفكاره وسرح. . .

(وماذا عليه لو تزوَّجَها؟ وماذا يهمه حديث الناس؟)

هكذا راح يسأل نفسه في خلوته؛ لقد أحب عابد فتاته؛ ذلك شعور يحسه في نفسه إحساساً لم يحس مثله منذ بضع عشرة سنة فماله وللناس؟ وماذا يضطره إلى أن يصانعهم ليشتري رضاهم بسعادة نفسه؟ أو ليس يكفيه ما بذل من شبابه وراحة قلبه من أجل الناس؟

ودعا عابد فتاته فلبَّت ووقفت بين يديه صامته تنتظر ما يأمر؛ ونظر الرجل إليها نظرة جمعتْ له الزمانَ في لحظة فكر؛ وكأنما خيل إليه أنه قد رجع القهقري إلى ماضيه مع أمينة يوم كان وكانت، وراحت الذكريات يمدّ بعضها بعضاً فتنشئ له أملاً وتبعث فيه نشوة؛ ووقف، وأراح على كتفها يداً ترتجف، وقال لها: (أمينة! أتقبلينني. . .!)

ورفعت إليه عينين فيهما حنان وحب، ثم أطرقتْ؛ وقالت: (سيدي!)

وكما سمعها مرة منذ بضع عشرة سنة من فم أمينة - طرقت مسمعيه الساعة؛ واستطردتْ: (لستُ لك يا سيدي، ولست لنفسي؛ إنني خادمتك!)

وانفلتت من بين يديه وذهبتْ. ومضت أيام قبل أن يعود إلى الحديث معها، وقالت: (سيدي!) وضمها إليه وهو يقول: (ناديني باسمي يا زهيرة؛ إنه أحبُّ إليّ!)

قالت: (ولكن لك اسماً آخر أحب إليّ؛ لقد أنبأتني أمي. . .!)

قال عابد: (أمك؟. . .)

قالت: (نعم، إنها أمي. . . أمينة؛ لقد أنبأتني أمس؛ لم أكن أعرف قبلها أن لي أباً، ولكني كنت أعرفه، وأحبه. . .!) وهوّتْ بين ذراعيه باكية!

وفي كوخٍ منفردٍ على حدود العمران، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، كان اثنان جالسين يتحدثان في همس، وثّمِّة فتاة على مقربة تصغي إليهما في شوق ولهفة، تحاول أن تعرف قصةً بدأتْ قبل أن تولَد ولم تنته إلى نهايتها بعد. . .

. . . وقال عابد: (إذن فلم ترضْعني أمُّكِ كما زعموا؟)

قالت: (ومن أين لها وقد ماتتْ أمي قبل أن يُبْنَى القصر الأبيض، ومن أين لك؟ لقد خلفتني أمي قبل أن أتم الرضاع فلم ألقم ثدياً بعدها قطّ، وجاءت بك سيدتي وأنت غلام تسابق الفَراش بين نوَّار الحقل، وكنتُ أدعوك سيدي!)

فابتسم عابد وقال: (ولكنك لن تدعيني بهذا الاسم بعد؟)

ومال رأس على كتف، وامتزج دمع بدمع، وتروَّت شفاهٌ ظمأى؛ وتلاحقت أنفاس مبهورة، وهمت أن تقول، وهمَّ أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف؛ وتساءل قلب وأجاب قلب؛ وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام. وهبت نسمة ندية فالتقى غصنان، وتهامست زهرتان، وأطلَّتْ عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، وازدحمت العيون على فروج الخباء تنظر؛ ثم انقشع السحاب وبرز القمر؛ وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل. . .

واتخذا طريقهما إلى شجرة الصفصاف يجددان العهد ويبعثان الذكرى، مشيا صامتين يتبعهما ظلهما، ويتبادلان لمسة باليد كلما همَّتْ أن تجتاز قناة في طريقها بين الحقول، يهم أن يعينها وتهم أن تستعينه؛ وعاد الماضي كما بدأ؛ وتعاهدا لا يفترقان حتى يبلغا آخر الطريق؛ وعادى البهجة إلى القصر الأبيض، ورفَّ النور من شرفاته.

محمد سعيد العريان