مجلة الرسالة/العدد 371/على هامش الحرب
→ من وحي الحرب | مجلة الرسالة - العدد 371 على هامش الحرب [[مؤلف:|]] |
نجوى! ← |
بتاريخ: 12 - 08 - 1940 |
الطابور الخامس في القرآن
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
- 2 -
أهل الكتاب
أعمالهم في السلم: التشكيك في الدين، محاولة فتنة المؤمنين، تحريف كتابهم إذا كان فيه ما ينفع المؤمنين، محاولة التفريق بين الأوس والخزرج.
قدمنا في المقال السابق كيف اضطر الرسول الكريم إلى الهجرة من مكة إلى المدينة، وكيف يسر الله له أسباب هذه الهجرة الشريفة بدخول كثير من أهل المدينة، وبخاصة أشرافها، في دين الله، فكانوا عزاً للإسلام، ولمن هاجر إليهم من مسلمي مكة، وعندهم استراح المسلمون المهاجرون من أذى قريش، وتهيأت لهم الفرصة في يثرب ليقتصوا من الذين أخرجوهم من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. واستمر النضال بين المسلمين ومن تخلف عن الدين الجديد إلى أن ظهر الإسلام في جزيرة العرب على الدين كله.
ولكن انتصار المسلمين على قريش خاصة وعلى بقية المشركين عامة، لم يكن أمراً سهلاً؛ فقد كان العدو الخارجي قوياً، وكانت جماعة الطابور الخامس في المدينة وما حولها خطراً شديداً، إذ كانت تخفي عداوتها وتبدي مودتها وتتربص بالمؤمنين الدوائر وتعين عليهم إن سرا وإن جهرا كل من يغير على المدينة أو يريد بالإسلام سوءاً.
ولما كان عدد المسلمين كثيراً بالمدينة، وكان النبي الكريم أكبر عامل في حياة يثرب، وله الرأي الأعلى في إدارتها وحربها وسلمها ونظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كان لا بد من استخفاء جماعة الطابور الخامس في المدينة، وكان لا بد لها من إظهار الإسلام، أو الارتباط بالرسول بعهود وثيقة أن تنصره وتشد أزره ولا تعين عليه مغيراً، حتى تسنح الفرصة لإظهار الكفر أو لتقض العهد، وحينئذ تسارع هذه الجماعة في الكفر وتخلف النبي ما وعدته.
وأهم طوائف هذه الجماعة - جماعة الطابور الخامس - هم أهل الكتاب والمنافقون من أهل المدينة وممن حولها من الأعراب، ويكاد اليهود يكونون وحدهم دعامة الطابور الخامس من أهل الكتاب، ولنبدأ بحديثهم:
اليهود
كان اليهود في بدء الإسلام ينزلون بالمدينة وما حولها، وكانت لهم سيطرة ونفوذ في المدينة قبل الإسلام، وبخاصة من الناحية الروحية، وكانوا يتلون كتابهم ويرون فيه أن رسولاً من غيرهم قرب ظهوره. وكانت صفاته عندهم تدل على أن (النبيَّ الأميَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأُمرُهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلُّ لهم الطيباتِ ويُحَرِّمُ عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصْرَهم والأغلال التي كانت عليهم) هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، العربي القرشي، الذي ظهر بمكة وأخرجه قومه منها، وهاجر إلى المدينة؛ (فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين). وكان الذي دفعهم إلى الكفر به هو حسدهم له وغيرتهم من أن يكون خاتم الرسل رجلاً من غير اليهود، فقال الله فيهم: (بِئسمَا اشترَوْا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزلَ اللهُ بَغْياً أن يُنزَّلَ اللهُ من فضله على من يشاءُ من عباده، فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذابٌ مهين)
موقف اليهود من الرسول في السلم
كانت لليهود مواقف بعد الهجرة لا تمت إلى الشرف بسبب سواء ذلك في السلم أو الحرب، والذي يعنينا اليوم هو موقفهم في السلم، فإن الرسول ﷺ آخى بين المهاجرين والأنصار بعد وصوله إلى المدينة وأذهب الله به ما كان بين الأوس والخزرج من عداوة، وكان من أول ما عمله أن عاهد اليهود على أن يعيش وإياهم في أمن لا ينصر أحدهم عدواً على الآخر، ومن عهده لهم: (وإن من تبعنا من يهود فله النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم) ولكن الحوادث التي سنقدمها تدل على أنهم لم يوفوا بعهدهم، بل أخذوا يحاربون الرسول الذي أقرهم على دينهم وأموالهم، وأخذوا يحاربون دينه بوسائل شتى.
ومن تلك الوسائل التي اتبعوها طريقة التشكيك في الدين، وذلك أنهم كانوا يؤمنون حتى يطمئن إليهم المسلمون ثم يرتدون كفاراً، كي يظن المسلمون بدين الرسول ظنونا، ويقولوا ما كفر هؤلاء وهم على بينة من أمر الأديان إلا لعلة. ففضح الله هذه اللعبة الخطرة إذ يقول: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)
وكانوا (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا) عاتبين على من يخبر المؤمنين منهم بصفات الرسول في التوراة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليُحاجُّوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟)
وكانوا يرسلون طائفة منهم إلى الرسول بعد أن يسمعوها أحكام التوراة محرفة، ويوصون تلك الطائفة ألا تقبل من التعاليم والأحكام إلا ما يوافق أهواء مرسليهم سواء وافقت الحق أو خالفته.
وكانوا يتحاكمون إليه، لا رغبة في حكومته العادلة، ولكن رجاء أن يحابيهم فيحكم بما يوافق هواهم، ثم ينقلبون عليه، ويشيعون عنه السوء من أجل هذه الحكومة: روى أن شريفاً زنى بشريفة بخيبر، وهما محصنان، وحدهما الرجم في التوراة. فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم يسألون رسول الله ﷺ عن ذلك، وقالوا لهم: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا. فأمرهم بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به، فنزل قوله تعالى: (ومن الذين هادوا سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا) وأمر الله نبيه الكريم أن يحكم بينهم بالقسط أو يعرض عنهم، وبين له أنهم احتكموا إليه هرباً من حكم كتابهم، فقال له: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله؟ ثم يتولون من بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين) ثم حذره أمرهم فقال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهوائهم، وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)
وكان علمهم بدين موسى سبباً في مغالطات منطقية سخيفة يريدون بها أن يبطلوا دين محمد، وأن يصرفوا العرب عنه؛ فمحمد يقول لقومه عن الإسلام: (مِلّة أبيكم إبراهيم) وهم يقولون إن إبراهيم كان يهودياً، وهو أبو العرب فواجب على أتباع محمد أن يتبعوا اليهودية التي هي دين إبراهيم، لا أن يتبعوا الإسلام، فنفى الله وصفهم لإبراهيم باليهودية في قوله: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين) ثم وبخهم على هذه المغالطة بقوله: (يا أهل الكتاب لم تحاجُّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، أفلا تعقلون؟)
وبلغت بهم الجرأة أنهم أرادوا تهويد جماعة من كبار الصحابة منهم حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل، ولكن الله عصمهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يُضُّلونكم وما يُضلُّون إلا أنفسهم وما يشعرون)
وكان في التوراة آيات تدل على صفات محمد وفضله، وكان فيها أحكام توافق القرآن ولا توافق هواهم، فعمدوا إلى تحريفها ليبطلوا حجة المسلمين وبرهانهم على رسالة محمد من هذه الناحية، وكان على رأس هذه الطائفة المحرفة كعب بن الأشرف، ومالك ابن الصيف، وحيي بن أخطب، وهم الذين قال الله فيهم: وإن منهم لفريقاً يَلوُون ألسنتهم بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وكانوا يحاولون التفريق بين الأنصار من الأوس والخزرج بتذكيرهم بحروب الجاهلية، والعداوة التي كانت بين القبيلتين ومحاها الإسلام: قيل مَرَّ شاس بن قيس اليهودي على نفر من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه تحدثهم وتألفهم، فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس، ففعل الشاب ما أمر به، فتنازع القوم عند ذلك، وقالوا: السلاح السلاح. فبلغ النبي عليه السلام، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، فقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً باكين. فنزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هُدىَ إلى صراط مستقيم، يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوناً)
تلك خلاصة أعمالهم في السلم وتتجلى في أنهم كانوا يريدون فتنة المسلمين عن دينهم بطريق التشكيك أو المغالطة أو التحريف، وكانوا يودون التفريق بين المؤمنين بإثارة أحقاد الجاهلية، فكان الله لهم بالمرصاد يكشف حيلهم، يفضح أسرارهم، وينهى عن مودتهم، ويبين مبلغ عداوتهم، فقال فيهم: لنجدَنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. وقال تهديداً لهم: (يأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فتردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً)
أما موقفهم في الحرب، ومحاولتهم هدم الإسلام بالسيف والقتل فهو موضوع الحديث التالي إن شاء الله.
(القاهرة)
عبد الرزاق إبراهيم حميدة