مجلة الرسالة/العدد 371/الحرب في أسبوع
→ نجوى! | مجلة الرسالة - العدد 371 الحرب في أسبوع [[مؤلف:|]] |
خواطر في الحرب ← |
بتاريخ: 12 - 08 - 1940 |
للأستاذ فوزي الشتوي
اضطراب سياسي
أبرز بقاع النشاط السياسي الآن الشرق الأقصى والبلقان، فهما المنطقتان الوحيدتان التي لألمانيا فيهما مجال للمناورات، فهي تحاول في البقعة الأولى أن تضم اليابان إلى صفها لتربك بريطانيا العظمى في الميدان الشرقي، ولتوزع أسطولها للدفاع عن ممتلكاتها في آسيا والمحيط الهادي، وتحاول في البلقان أن يستتب السلام مؤقتاً بأي ثمن.
أما أمريكا فمعروف أمرها، ومعروف أن تأييدها لبريطانيا العظمى أقوى من أن تضعفه المناورات السياسية؛ فأمريكا تعتبر إنجلترا وأسطولها خط دفاعها الأول، فانهيارها يعرض أمريكا للخطر، وإذا كانت تحرص على حفظ قوة إنجلترا البحرية في المحيط الأطلنطي، فإنها تحرص أيضاً على ألا تنتقص هذه القوة بانتقالها إلى المحيط الهادي لتواجه اليابان.
وحاولت إنجلترا بقفل طريق بورما، ومنع توريد الأسلحة إلى الصين أن ترضي اليابان وتضع حد لنزاعهما، ولكن الحزب العسكري في اليابان ثار فأعلن رؤساؤه عدم رضاهم عن الحكومة فاستقالت ليشكل غيرها على هواه، وكانت باكورة أعمال تلك الوزارة أن قبضت على بعض الرعايا الإنجليز مما أثار الحكومة البريطانية، ووقف عقبة في سبيل مفاوضات إنجلترا واليابان.
انقلاب عسكري
ولعل السر في هذا الانقلاب الياباني عقلية حزبها العسكري الذي يصبو إلى السيطرة على جميع آسيا، فهو يريد التخلص من منافسة إنجلترا لليابان اعتماداً على قوته، وقد أنبأتنا البرقيات أن حركة الحزب العسكري لا يقرها قادة اليابان البحريون الذين يعرفون مدى قوة الأسطولين البريطاني والأمريكي، وهم يعرفون أن الحرب مع إنجلترا وأمريكا صدام بين قوات بحرية أكثر منه بين قوات برية، فإن تردد أمريكا في دخول الحرب ينتهي بمجرد أن تدخلها اليابان، ويتولى أسطولها وقواتها العبء الأكبر من الحرب في الشرق الأقصى.
وتدل حركة اليابان الأخيرة على الوسائل التي تلجأ إليها ألمانيا لتحبط حركات إنجلت وخصوصاً إذا أضفنا إليها ما أذاعه مدير قسم الأبحاث السرية في أمريكا عن عمل الجواسيس ومحاولتهم إفساد خطط الدفاع الأمريكية بتدمير الطائرات بوضع الرمل في محركاتها، أو بنسف المنشآت العامة وتسميم المياه، وغير ذلك من الوسائل التي يرتكبها الجواسيس.
الروح الوطنية
أما في البلقان فقد تطورت الحوادث الأخيرة تطوراً كبيراُ نشك إذا كان هتلر نفسه توقعه، فإنه كان يعتمد اعتماداً كبيراً على تأييد رجال الحرس الحديدي لمشروعاته، فلما ظهرت نياته بالموافقة على ضم جزء من ترانسلفانيا إلى المجر تمرد رجال الحرس الحديدي وتكاتفت طبقات الشعب وزعماؤه، فأعلنوا توحيد صفوفهم بزعامة مانيو زعيم الفلاحين، وقالوا إنهم يفضلون أن تضم بلادهم إلى الروسيا على أن تقتطعها المجر أو بلغاريا.
فإذا لم يتمكن النازيون من إيجاد صدع بين أحزاب رومانيا فإن ضم أحد أجزائها إلى دولة أخرى يتعذر حتى إذا وافقت الحكومة الرومانية على هذا الضم بإكراه ألمانيا، لأن الشعب في هذه الحالة يثور، وتجد الحكومة الرومانية نفسها في مركز ضعيف، وكل حكومة تفضل في مثل هذه الحالات أن تقاتل على أن تسلم، ولا سيما أن المجر وبلغاريا ليستا من القوة حتى تتمكنا من إكراه رومانيا على تلبية طلباتهما، فرومانيا هي أقوى دولة في البلطيق فلديها أقوى جيش، وأقوى سلاح طيران، وكانت تعرف أطماع هذه الدول من قبل فأعدت العدة لصد عدوانها.
واتحاد كلمة زعمائها وتمسك شعوبها وخصوصاً سكان الأجزاء التي يراد ضمها إلى الدولتين الأخريين - عقبة كبيرة في سبيل تحقيق السلام الذي ينشده هتلر في البلقان ويضع خططه في مركز حرج؛ أضف إلى ذلك ظهور الخلاف بين ألمانيا والروسيا على ألسنة الساسة الرومانيين بعد رجوعهم من مقابلة هتلر؛ فقد كثر الكلام أخيراً عن الخطر الشيوعي وعن مساعي ألمانيا لوقفه؛ فهل تكشف حوادث البلقان الأخيرة نقاب الزعيمين اللذين يتظاهران بالصفاء والاتفاق رغم تنافر طباعهما واختلاف ميولهما وأطماعهما؟ هذا ما تكشف عنه الأيام قريباً.
دروس الحرب ولا يقتصر الاضطراب على أوربا والدول المتحاربة وحدها بل يشمل الأرض بأجمعها، فمهما تباعدت حدود الدول عن ميدان الخطر فهي تشعر به في مناورات جاراتها للاستيلاء على بعض أجزائها حرصاً على فائدة عسكرية، وهي تحمسه فيما أصاب تجارتها من كساد، وما أصاب أهلها من ضيق في العيش تبعاً للرقابة على الصادر والوارد.
فلا يقتصر الحصر الإنجليزي البحري على الدول المتحاربة، بل يتعداها إلى الدول المحايدة البعيدة؛ فلكيلا تحصل ألمانيا على الواردات يجب أن تمنع الدول الأخرى من تصدير منتجاتها إلى ألمانيا؛ وهذه الفترة من الفترات التي يشعر فيها العالم أجمع بما بين دولة من رباط وثيق؛ وهي ليست التجربة الأولى من نوعها ولكن لها أشباهاً في الحروب الماضية، وإن كان العالم قد خبر أقسى تلك الدروس في الحرب الماضية عندما فرض نفس الحصر على تجارة ألمانيا.
وتكرار هذا الدرس من شانه أن يوحد بين أمم العالم، ويجعلها تتنازل عن عصبيتها، فتوحد قانونها وتجعل له من القوة ما للقوانين المحلية التي تقيد مطامع الأفراد وتنظم معاملاتهم على أساس العدل والمنفعة المتبادلة في ظل السلام، وإذا كان الأفراد قد شعروا بوجوب احترام قوانين الدولة فإن أمثال النضال الحالي والنضال السابق هي خير معلم للدول لتشعر نفس الشعور وتحترم القوانين الدولية؛ وقد فشلت عصبة الأمم في العهد الماضي في تحقيق هذه الوحدة لأن الدول لم تكن أعدت الإعداد الكافي من الناحية العقلية، ولأن بقايا النظم القديمة وأطماعها أثرت في نفسية الشعوب.
ولسنا نعني أن هذه الحرب ستكون الحد الفاصل للمنازعات الدولية، وأن العالم سيصبح إذا انتهت دولة واحدة ينظم معاملاتها قانون واحد، ولكننا نرى النضال الحالي وما جره من مصائب يضع أحد أحجار ذلك الاتحاد؛ ففكرة اتحاد دولي عالمي ليست بنت اليوم نودي بها من زمن طويل وكان أول حاكم دولي أراد إحياءها بصورة جدية اسكندر قيصر الروسيا فوضع في سبتمبر سنة 1851 أسس اتحاد مقدس يحكم الدول على ضوء التعاليم المسيحية ولكن مشروعه قبر لأسباب كثيرة.
جغرافية الحرب وكما تعطينا هذه الحرب فكرة واضحة عن ارتباط مصالح العالم بعضها ببعض، فإنها تعطينا دروساً أخرى في الجغرافيا، فقارن بين معلوماتك عن بلدان العالم الآن وبين معلوماتك عنها قبل الحرب، تجد أنها تضاعفت عدة مرات، دون أن يكرهك أستاذ على دراستها، ودون أن يضطرك امتحان إلى مذاكرتها.
وعلمتك هذه الحرب كثيراً من المميزات الإقليمية للبلاد من جبال وأنهار وسهول، وما تضمه أرضها من ثروة معدنية وزراعية، وما أتصف به أهلها من قدرة على تحمل شظف العيش ومرارة القتال، كما عرفت مدى حاجات الدول بعضها إلى بعض.
ثورة صناعية
والحرب ثورة صناعية تحفز الحكومات والمخترعين على ابتكار معدات جديدة في الميدانين المدني والعسكري، فكلاهما مكمل للآخر، ولا نستطيع أن نضع حداً فاصلاً بينهما، فالجندي يحتاج إلى وسائل مدنية وعسكرية، فيجب العناية بطعامه وصحته وملابسه ووسائل راحته، كما يجب العناية بإعداده وإمداده بأدوات القتال.
ومن أمثلة تقدم المخترعات (الطيران) فإن ما وصل إليه من طول مدى الطيران وقوة الحمولة يدلان على ما فعلته فيه الحرب، فلم نعرف من قبل أن الطائرة تحمل أربعين جندياً بمعداتهم كما هي الحال الآن، ورحلات سلاح الطيران في إغاراتها على ألمانيا وعودتها دون توقف؛ هذا تقدم كبير يربحه العالم من الحرب عندما تضع أوزارها، ومثله كثير في الطب والصناعة والزراعة.
وليس معنى هذا أننا من مؤيدي الحروب فإن المصائب التي تحل بالعالم من قتل الأنفس وتدمير البلاد وانتشار الأمراض، تفوق بمراحل هذه المكاسب الزهيدة التي يصل إليها العلم أثناء السلم بعد فترة أطول من الزمن، فتقدم العالم مطرد سواء في السلم أو في الحرب إلا أن فترة الحرب انقلاب وسرعة.
الخسائر والأرباح
وهي فترة انقلاب ضرورية إلى أن تصفو الضمائر وتقتنع العقول بأن الحرب مهما أكسبت من أسلاب وغنائم، فلن توازي ما يخسر العالم من أموال ومن أروح، وبلغ عدد القتلى والجرحى في الحرب الماضية 21 مليون نفس، وتكلفت 67. 598 مليون جنيه؛ وبديهي أن هذه الأنفس والأموال لو وضعت تحت تصرف العلماء والمخترعين لأنتجوا أضعاف ما أنتجت الحرب من تقدم.
وهاهي ذي الحرب الحالية تنفق عليها إنجلترا وحدها 52 مليون جنيه في الأسبوع الواحد؛ فإذا قلنا إن ألمانيا نتفق نصف هذا المبلغ عرفنا كم تتكلف الحرب من أموال تضاف إليها خسارة الأرواح وكساد بعض نواحي الحياة المدنية مما لا تتلائم طبيعته وطبيعة الحرب.
ولا يسعنا أن نقول إن الفنون والعلوم توقف تماماً، ولكنها تتحول إلى الناحية العسكرية، فيشتغل القصصيون بالقصص العسكرية، ويرسم الفنانون الصور العسكرية، وتتحول العقول الهادئة إلى عقول مدمرة عملها شحذ عزائم أهلها؛ فكل أديب أو فنان لا يعمل الآن من أجل الحرب يموت جوعاً، ولا يتيسر له إبراز إنتاجه لأنه يعيش في وادي غير وادي الناس ويفكر فيما لا يفكر فيه الناس، ويبتدع ما لا يقره الناس.
فالقتال إحدى الغرائز الإنسانية، صقلتها القوانين والنظم، وكبتت في الفرد، ولكنها ما زالت بارزة في الجماعة، فإلى أن يتاح للجماعة أن تكبت هذه الغريزة وتحولها إلى غريزة أصلح، فإن الحرب لن تزول.
وإذا كانت الحكومات وفقت في ضبطها عند الأفراد، فمصيرها غامض عند الأمم لاختلاف أمزجتها وميولها اختلافاً بيناً وإن كانت نهايتها المحتومة عندما تعقل الدول.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة