مجلة الرسالة/العدد 371/إلى الباكين على فرنسا
→ الحديث ذو شجون | مجلة الرسالة - العدد 371 إلى الباكين على فرنسا [[مؤلف:|]] |
تعليق على: ← |
بتاريخ: 12 - 08 - 1940 |
مقتول يبكي على قاتله!
وفي غير الحب. . .!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
عجيب هذا التفريق والتمييز بين فرنسا السياسية وفرنسا الأدبية والروحية - إن كان لها روح - من أقلام طائفة من كتابنا، بينما فرنسا لا تفرق بين الإسلام والعروبة السياسيين والإسلام والعروبة الروحيين!
أصحيح أنه في مواريثنا ولا في أفكارنا ولا في إنسانيتنا شيء ذو قيمة يستحق الإبقاء عليه والاحتفال به وإمداده بعوامل النمو والحياة؟
وإلا فما بال فرنسا في كل ديار العرب والإسلام التي وقعت تحت سلطانها السياسي أو الأدبي تكيد للإسلام والعروبة وتحاول تجريد أهلها من القوة والمقومات والجنسية واللغة والدين؟
لو فرقت فرنسا وهي القوية بين شخصيتنا السياسية وشخصيتنا الروحية والأدبية ما كان في ذلك خطر عليها مثل الخطر الذي على أممكم الضعيفة أيها الكاتب من هذا التفريق الذي تفرقون.
(إن أول الشر استظراف الأشرار) تلك مقالة صحيحة في علم الأخلاق. وانتم استظرفتم أعدائكم أعداء الحرية والحق الذين زعموا أنهم أول من أعلن حقوق الإنسان، ومددتم أعينكم إلى ما عندهم من زينة الحياة وأعجبتم بجمال اليد التي تضربكم بالسيف وتأخذ منكم أقواتكم وأرزاقكم وغلات أرضكم ومجهود عمالكم وجنودكم لتصنع من كل أولئك أدوات زينتها ووسائل ترفها، وتقيم بها أسواق فنونها وأنسها وبهجتها ومعارض قوتها، ثم لا تذكر هي فقركم وعيلتكم وحرمانكم وضعتكم وهوانكم وجهلكم حين تذكرون أنتم باريس التي قام بنيانها على أنقاضكم وفنونها على أطلال هداكم.
إنكم أخطأتم فهم وضع الإنسان في الحياة ونسيتم الوضع القدسي الذي وضعه فيه الإسلام، وكان هذا الخطأ وهذا النسيان السبب الأول في تنازلكم الكاملة عن حقوق حياتكم وحقوق حياة الآخرين من عباد الله واغتفاركم لفرنسا جناياتها السياسية على صميم الحياة الإنسانية في ملايين عدة من أرواح الإنسان في مقابل تمتعكم بترفها العقلي والأدبي وألوان فنونها التي لم تغن عنها شيئاً غداة نكبتها الكبرى تحت أقدام الألمان.
لقد أنذرتكم الأقدار في سقوط فرنسا بأن هذا الترف العقلي والبدني الذي فتنتم به وأعجبتم بعدوكم له ونسيتم حقوق نفوسكم ونفوس أبناء عمومتكم ودينكم من أجله - إن هو إلا فقاقيع صابون جميلة براقة تنفجر لأقل نسمة تلامسها.
الأدب والفلسفة والفن في فرنسا زور وبهتان وهذيان، لأنه لم يرفع النفس الفرنسية إلى درجة الوصاية الرشيدة على ميراث الفضائل الإنسانية، ولم يجعلها نفساً رحيبة سمحة مع من اغتصبت حرياتهم وحقوقهم بل لم يجعلها نفساً سمحة مع ذاتها هي. وأكبر الدليل على ذلك تلك الأسس الاقتصادية الفاسدة والبراكين الداخلية والانحلال والتفكك الذي انتهى بها إلى نهايتها العجيبة.
لو حكموا الناس حكم الإبقاء والاستحياء لا الإبادة والإفناء والإهدار والتحقير والحرمان من نور العلم وهدى الدين لقلنا خلفاء في الأرض يعمرونها وينمون مواردها ويحترمون إنسانها كما يسمنون حيوانها، ولكنهم لم يفعلوا هذا بل جشعوا وهم الأغنياء، وحرموا المحكومين العلم وهم العلماء، ولم يحاولوا رفع النفوس الإنسانية، بل على الضد كادوا لها ودسوا سموم الضعف والفساد إليها، فليس لنا أن نقول إن لهم روحاً تحب وسياسة تكره لأن التفريق بين الفضيلة والسياسة إلى هذا الحد الفاحش لا يستقيم في معرض انتحال الأعذار وتلمس المنادح إلا إذا حرفنا القلب الإنساني عن موضعه الإلهي. . . ليس لنا أن نقول فيهم غير نتيجة أعمالهم.
إن هذا التفريق بين السلوك السياسي والسلوك الروحي قد صار أمره عجباً من أعاجيب الحياة الأوربية! وقد بات خطراً على الحياة الإنسانية الشخصية لأنه تسرب إلى موازين الحكم على الأفراد فهم يحترمون الذكي ويقدرونه ولو كان شيطاناً شريراً مفسداً ويقولون هناك حياة خاصة يحل للإنسان فيها ما يحرم عليه في الحياة العامة. . . حتى تعددت الشخصيات بين ازدواج وتثليث وتربيع إلى ما لا نهاية. . . وبات الإنسان بهذا متعدد النواحي تصطرع فيه الأضداد وتحترب المتناقضات.
هذا كذب وتدليس على الطبيعة والفطرة كما أرادهما الله فاحذروه! (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. . .) إن الحياة الشخصية إذا تكن بريئة نظيفة معتصمة بعروة الحق الواحد الذي لا يتعدد فهيهات أن تصفو لها وبها الحياة العامة. فإن النوازع النفسية هي الروافد للأفكار والأعمال. وأن الحق لا يعترف بسلطان الهوى (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض) فلا غفران من الحق لنسيانكم آلامكم وآلام أبناء جنسيتكم ودينكم في الجزائر وتونس ومراكش الذين جعلتهم فرنسا أمكم الروحية متخلفين عن قافلة الحياة العالمة العادلة بمائة وخمسين سنة. . .
إنهم ضربوا مدينتكم دمشق ظئر الإسلام الفاضلة الأصيلة العمرة بآثار مجدكم - بالمدافع في الثورة السورية الكبرى؛ ومع ذلك لم يبك عليها منهم باك، ولم يرث لها قلب راث. . فلماذا تبكون أنتم على باريس حينما جرعتها الأقدار غصص القصاص العادل والثأر لكم ولغيركم من عبيد الله المستضعفين؟!
ليست هذه شماتة، ولكنها أيضاً ليست صوفية بلهاء في الوطنية والجنسية، ترحم الجاني وتبكيه يوم ينزل به قصاص العدالة التي قامت بها السموات والأرض.
أجل، ليست ضعفاً وفسولة من (مقتول يبكي على قاتله. . .) وفي غير الحب!
إلا إذا تحررتم من أعدائكم، ولكن ما دمتم تحت النعال فلا تمسحوها وتجملوها بأيديكم. . . وما دامت النصال تنوشكم فلا تحدوها وتشحذوها وتسددوا السواعد التي تضربكم بها. . . وتسديدها هو أن تتغنوا بأي مجد لمن بها تجنوا عليكم ما داموا مصرين على تعذيبكم بمجدهم
ذلك هو منطق الطبيعة الصحيحة المزاح البريئة من التدليس وخديعة الضعف والعجز ونسيان القدر الضروري اللازم من الوحشية لكل إنسان يحرص على الكرامة الإنسانية التي لا تساوي الحياة تكاليفها إذا جردت منها. . .
هذا كلام يساق لمن يعتقد أن عالم الفكر والفن والأدب هو العالم الأصيل في حياة النفس الإنسانية، وأن ما عداه فهو على هامشها؛ وعلى هذا الأساس، إذا لم يؤثر هذا العالم الرفيع في النفس ويوجهها للخير، ويجعل حياتها وحدة متناسقة بريئة من التناقض، فلا جدال في أنه قد قام على أساس فاسد يجب تعديله وتصحيحه وعدم اللجاجة في الدفاع عنه.
أما من يظنون أن الأدب والفن حديث بدواة ونزوات وعربدات وألاعيب ذكاء مسجلة تسجيلاً جميلاً ببيان براق يسحر النفس ويخيل إليها أخيلة الأحلام المنفصلة عن حياة الواقع في السياسة والمعاملة. . . فهؤلاء سيظل الأدب والفن بهم في درجة متخلفة أمام جماهير الإنسانية الحكيمة الواقعية عن درجات صناعة الأحذية ودبغ الجلود وكنس الطرق. . .
وسيظلون عائشين على هامش الحياة منظوراً إليهم من الناس على أنهم يحيون في نطاق عالم آخر مملوء بالشذوذ والعقم والفراغ والحيرة والخيبة وعلك الكلام ومضغ الأحاديث والاكتفاء من الحياة بأيسر ما فيها وأهونه. . .
عبد المنعم خلاف
(القاهرة)