مجلة الرسالة/العدد 370/محل الحضارة العربية
→ الحضارة المتبرجة | مجلة الرسالة - العدد 370 محل الحضارة العربية [[مؤلف:|]] |
للنقد الخالص ← |
بتاريخ: 05 - 08 - 1940 |
للدكتور جواد علي
هل هنالك حضارة عالمية اشترك في تكوينها جميع أفراد البشر على اختلاف إشكالهم وأجناسهم؟ أم هل هنالك حضارات مختلفة لكل حضارة ميزة وعقلية تمثل عقلية الجيل أو الأمة؟ أم هل هنالك حضارة واحدة تغذي العالم كله وتشع عليه كما تشع الشمس على الأرض؟ تلك نظريات مختلفة تمثل نزعات علمية وسياسية متضاربة وغايات متباينة. غير أن الرأي السائد اليوم بيم جمهور المؤرخين ومنقبي تأريخ الحضارة هو أن هنالك تفاوتاً بين البشر، كما أن هنالك تفاوتاً بين الحيوان أو النبات، وأن الحضارة التي هي إنتاج البشر العقلي تختلف لذلك تبعاً لاختلاف المجموعات البشرية، وهذه النظرية على طرفي نقيض مع نظرية (1744 - 1803)، ونظرية التطور التاريخي للفيلسوف (1770 - 1831)، ونظرية (الإنسانيين) وأتباع الكنيسة من المؤرخين.
والمسألة لم تقف عند هذا الحد مع ذلك بين أصحاب نظرية تعدد الحضارات، إذ أن من بين هؤلاء من يدين بفكرة تأثر الحضارات بعضها ببعض، كما هي نظرية الفيلسوف الألماني - مؤسس (دار الحكمة) في مدينة الألمانية والمستشرق وجمهور من المستشرقين، كما أن هناك مثل الفيلسوف من يقول بتعدد الحضارات مع وجود نفسية خاصة لكل حضارة، أو استقلال تام كما هو رأي الفيلسوف
أما أصحاب فكرة وجود حضارة واحدة هي سبب هذا التطور العالمي والتقدم البشري المطرد فهم أصحاب العواطف المتطرفون من الأوربيين كالفرنسي رينان في محاضراته التي ألقاها في عام 1883 في كتابه تاريخ الحضارة السامية وكرافر كوبينو والنازيين الألمان وفاشست إيطاليا. ولكن معظم أصحاب هذه النظرية هم أناس ليسوا ذوي اختصاص في الموضوع ولا دراسة ناتجة عن استقراء علمي محدود، بل هم من ذوي الطريقة الفلسفية العامة التي تحاول الإلمام بكل شيء وتضع القوانين حسب وقواعد رأتها صالحة لذلك. والحضارة العربية في نظر هؤلاء حضارة سطحية ظاهرية أنتجتها عقلية آرية ومنابع يونانية فارسية هندية غوطية. وحيثما وجد الإنسان ظاهرة من ظواهر الحضارة في البلاد العربية فلا بد من إرجاعها على عقلية آرية وإنتاج غير سامي. ودوزنبرك الدكتاتو النازي للشؤون الثقافية الذي لم يسلم إلا بالزخارف المعروفة باسم يحاول الحط من قدر هذه، فيجعلها تمثل عقلية ساذجة لا غير.
غير أن النظريات لا قيمة لها أبداً إن لم تدعم بالنصوص والبراهين، كما أن الاستشهاد بحادثة أو رواية لا يتخذ حجة للحكم به على أمة. وإني أستطيع أن أجعل من الأمة الجرمانية أمة همجية بربرية مادية خاملة لم تنهض إلا أخيراً، كان يحاول زعماؤها إيقاظها، بالاستناد إلى النصوص الجرمانية نفسها المجموعة في المصادر والمنابع عن التأريخ الجرماني. ويستطيع كل مؤرخ أن يفعل ذلك في تاريخ أي أمة كانت ولا سيما إن كانت أمة ضعيفة في وقته منحطة. وأستطيع أن أقول إن الأمة العربية لو كانت في الوقت الحاضر قوية لكانت النظرية على العكس تماماً. وفي المصادر والنقوش الأثرية ما يبرهن على أن وضع حدود وحواجز بين حضارة وحضارة ومحاولة عزل الحضارات بعضها عن بعض أمر غير ممكن. حتى في المسائل الروحية تتأثر الأمم بعضها ببعض. فمحاولة كتابة تاريخ أوربي فقط لا تنجح تماماً إن لم يتطرق المؤرخ في بحثه إلى الحضارة الإسلامية، كما أن محاولة كتابة تاريخ عربي مجرد عن ذكر أي تأثير للحضارة الغربية محاولة فاشلة غير علمية.
ولو درس التاريخ العربي كما يدرس التاريخ بجميع فروعه في الجامعات لأوربية، أو لو انصرف المؤرخون إلى دراسة النصوص الأوربية على العلاقات بين أوربا والشرق الأدنى لتغيرت نظرية أصحاب العزلة تماماً. وهناك مؤثرات أثرت تأثيراً شديداً من جانب العرب ليست في الحياة المادية بل في الحياة الروحية الأوربية التي هي من أصعب الأشياء لما بين العقليتين من فروق. ومن أمثلة ذلك الشعر في القرون الوسطى وظهور نوع جديد منه هو الشعر الغزلي على الطريقة الشرقية والروايات العربية والتصوف الذي أطلق عليه اسم (التصوف الألماني) وكان زعماؤه يجيدون اللغة العربية ودرسوا وترجموا الكتب إلى اللغة اللاتينية.
وقد غير كثير من أصحاب نظرية (الشرق شرق والغرب غرب) نظريتهم حين توغلوا في البلاد العربية وجابوا البلاد الأفريقية، وتوصل بعضهم إلى أن الحضارة العربية تعود إلى الحضارة الأوربية لا الحضارة الأسيوية، وأن السيد أمير علي المسلم الهندي أقرب جداً إلى أوربا عقلاً وثقافة من الفيلسوف طاغور الأسيوي فكراً وعقلاً. كما لاحظ الأوربيون الذين ذهبوا إلى السودان وأعالي النيل أن التفاهم مع المصريين المسلمين كان يزداد يوماً فيوماً كلما تقرب هؤلاء من العالم الأسود، وكذلك كان الحال في نواحي أفريقية الأخرى. كما لاحظ المستشرقون أن اللغات الهندية الأوربية تتقارب مع السامية جداً بالنظر إلى اللغة السودانية أو لغة البانتو مثلاً. وقد ظهر أن الأتراك أقرب إلى أوربا عقلياً من اليابان، مع أن اليابان هي في مدنيتها أوربية محضة، ولكنها في حضارتها أسيوية محضة، وقد جعلوا سبب ذلك تأثير الحضارة الإسلامية. وأغرب من ذلك هو أن القبائل الأفريقية أو قبائل الهند الهولندية حينما تسلم تسرع إلى لبس الملابس وإلى التقرب من الأوربيين أكثر من الوثنيين الابتدائيين. وهذه المسألة كانت من أهم المسائل التي درستها الحكومة الألمانية قبل الحرب لتعيين سياستها تجاه الإسلام.
يرجع بيكر ذلك إلى الأصول التي تتألف منها كل من الحضارتين الأوربية والعربية، فبينما نجد الحضارة اليونانية الرومانية والحضارة المسيحية والحياة اليومية الأوربية هي الأسس التي تكون الحضارة الأوربية نرى الحضارة العربية متأثرة بالعاملين الأولين مضافاً إليهما العقلية السامية الخاصة، وهذا هو سبب التقارب الموجود بين الحضارتين ولكن ذلك لا يعني أن الحضارة العربية مشتقة أو هي جزء من الحضارة الأوربية، بل هي وسيلة بين الحضارة الأوربية والحضارة الأسيوية لها مميزاتها الخاصة ومثلها العليا، ونظرتها العالمية.
هنالك حضارة كما أن هنالك مدنية، ومن الخطأ عدم التفريق بينهما، كما أن من الخطأ تفضيل حضارة على حضارة بصورة مطلقة دون قيد أو شرط، إذ أن كل الحضارة تمثل نفسية خاصة هي وليدة عوامل مختلفة، ومن الخطأ كذلك أن تتكلم عن حضارة أوربية بصورة عامة، إذ أن بين شعوب أوربا من البون الشاسع كما في شعوب البلقان ما لا يسوغ لنا إطلاق هذا التعبير. كما أن من الخطأ نكران الحضارات الأخرى، ولدينا أمثلة من الحياة اليومية لا تنكر.
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا