مجلة الرسالة/العدد 37/في الأدب الألماني
→ قلبي! | مجلة الرسالة - العدد 37 في الأدب الألماني [[مؤلف:|]] |
إلى الأستاذ زكي نجيب محمود ← |
بتاريخ: 19 - 03 - 1934 |
الشاعر نوفاليس
1772 - 1801
للأستاذ خليل هنداوي
غالى قوم في نعتهم (نوفاليس) بنبي المدرسة الرومانتيكية الألمانية، وقد كان لنوفاليس تأثير واضح في تشييد دعائم هذه المدرسة في عصر كان الأدب الألماني فيه حائراً تتهاداه السبل، وتتقاذفه الشكوك. ولكن هذا التأثير لا يجعل من نوفاليس نبياً قدسي الآيات، ولعله كاد أن يكون نبياً وفوق النبي لهذه المدرسة، ولو لم يقتطف الموت زهرة صباه عاجلا قبيل أن تتفتق، لكن قلبه النضير، قلبه الشاب استطاع أن يسبح في عوالم الشعر. ويعود - بعد طوافه - غنياً بما جمع والتقط وكثير ما هم النبغاء الذين تنبغ قلوبهم قبل ان تنبغ أعمارهم، ويفيض عبيرهم قبل أن تتفتح أزهارهم، ويمضون سراعاً وهم في مقتبل العمر، وقد تركوا وراءهم دوياً لا ينسى ابد الدهر، شأن شيللي وكيتس ونوفاليس. لكل نابغة - في مقبل عمره - مثال من النوابغ المعجب بهم، يتأثر به ويتشيع له ويترسم خطواته. وكان (شيللر) مثل (نوفاليس) الأسمى، كان مثله في البراعة والعظمة والكمال. وشيللر هو الذي أحيا في نفسه هذه الميول، ودفع به إلى الحياة الشعرية،
خبت في نفسه هذه الميول، ثم ما لبثت أن هبت ثانية على أثر مطالعته كتب (ويلهلم مستر) وعكوفه على هذه الكتب يتلوها تلاوة وجد وهيام، فطبعت في نفسه لحناً رومانتيكياً وولدت عنده حقائق عميقة محاطة بالرموز، ولكن هذه الميول ظلت هامدة ساكنة لا يقوي شيء على إظهارها، حتى عرضت لعينيه غادة أحلامه متمثلة في (صوفيا الصغيرة) التي لا تتجاوز الاثني عشر ربيعاً. فخطبها فكان له ذلك، ولكن القدر كان قاسياً، فانتاب الفتاة داء لم يمهلها إلا قليلاً، فتيقظت ميوله واهتاجت عواطفه، وبكاها ما شاء له البكاء، ينظم فيها الشعر ويجعلها مثله الأعلى في الوجود. ويعتقد أنها حية في نفسه لم ينهبها موت، وإنما الميت هو نفسه، وأنها سبقته إلى ذلك العالم تدعوه إليها. فيسأل: (هل في استطاعة الإرادة البشرية التي تحول وتبدل ما تشاء في هذا العالم أن تجوز أبواب الأبدية؟. .
ويقول: (أود أن أموت، لا موت ذلك الكائن البالي الذي عافته الطبيعة، أود أن أموت كالعصفور المتنقل الذي يسعى وراء أقطار جديدة، أو أن أموت فرحاً كالشعر الفني) وبهذه العاطفة التي تجعل تشاؤمه مضيئاً كتب (أغانيه لليل) بأسلوب شعري منثور، لم ينقصه الوزن شيئاً من روعة معانيه، ولم يضع نثره من العاطفة الشعرية. يغلب على أغانيه شيء من الطرب القائم، يناضل به صاحبه الشقاء. هذا هو الطرب الذي خفف من شقائه، وهذه هي الفتوة التي كانت تزين له الأحلام وتنقله من حياته هذه إلى حياة اكثر سعادة وأحسن أملا.
أراد (نوفاليس) أن يطرق عالم الفلسفة فغلب عليه خياله، وتبدو في كتابه (الأغاني) و (الدفتر اليومي) فكرته التي تدور حولها فلسفته، وهذه الفكرة يريد من ورائها ان يفرض سلطة الروح بدون واسطة على المادة وعلى الاشياء، كما هو الحال في العلم الذي يسيطر عليها، وهذه الفكرة هي (علم السحر) ويعتقد أن إزاء فن المنطق الذي يعتمد على الأقيسة العقلية والبراهين الفكرية فناً هو أسمى منه، يدعوه (عالم الوهم) وهذا الفن هو أن نعرف كيف نستنتج بصورة نفسية فنا نعمل به على تحقيق أحلامنا وأوهامنا، وغير مغنيك شيئاً أن تسأل (نوفاليس) عما ينتج من هذا الفن من فائدة، فانه يطلب إليك إزاء إلحاحك الكثير أن تغادره سعيداً في أقطار أوهامه وأخيلته، وهذا المعتقد الفلسفي قد أثر تأثيراً واضحاً في روحه الشعرية، وما كانت هذه الروح إلا أثراً من آثار هذا المعتقد الذي يشيع في كل جوانب نفسه، فيحس في نفسه ميولا عميقة لا تقل غموضاً عن جوهرنا الذاتي، لا أسماء لها ولا القبض عليها بمستطاع، فيوجب على الشعر أن يوقظ فينا مثل هذه الميول، لأن الشعر هو لسان باطني، وتعبير تحدث به النفس ذاتها، وعليها أن تنفر كثيراً من الصيغ الواضحة كل الوضوح لأن كل وضوح وكل حد تحمل عليه النفس يحدد آفاق النفس التي يجب ألا تحد.
الموسيقى هي الفن الأول، والشعر هو أولى الفنون كلها بالتقرب من فن العزف والضرب على الأوتار، وكما أن الشعر يهتك الأستار ويهبط علينا بالأسرار، فالموسيقى تحمل إلينا معاني الطبيعة الخفية المستورة وتعبر لنا عن نفس الطبيعة، ونفس الطبيعة عنده هي الشيء الغريب، والشاعر هو الذي يعطل فينا ملاحظتنا العادية للاشياء، ويرينا الخليقة كما تبدو للأنظار في الوهلة الاولى، هو يعجبنا ويذهلنا وهو بعد ذلك عندليب مترنم.
هذا هو مذهب (نوفاليس) في الشعر أعلنه يوم كانت المدرسة الرومانتيكية في بدء عهدها. وعده بعض أنصار هذه المدرسة نبياً للمدرسة، على ان هذا المذهب الذي جاء به لو حلله النقاد وعمل على مقارنته بالمذاهب الرمزي لرأى أنه أدنى إلى الرمز منه إلى المذهب الرومانتيكي، لأن صاحبه رمزي وأكثر تمسكاً بالرموز من أصحابها بها. ولكن ذلك الجيل كان يجهل بواعث الرموز، وفلسفة ذلك الجيل لم تصل إلى تقرير المشاعر الباطنية في النفس تقريراً علمياً. فلم ير ذلك الجيل إلا أن يحشره مع المدرسة االرومانتيكية، وإن لم يكن منها.
أليس نوفاليس هو الذي يعلن أن هنالك ميولا خفية لا تسمى هي ما يجب على الشاعر أن يوقظها ويخرجها بلغة لا يفسدها الوضوح، وهذا المذهب نفسه هو الذي إلى (الرمزيون) على أنفسهم أن يظهروه. وجعلوا أصحابه أصحاب مدرسة جديدة في الشعر. ولم ينس نوفاليس تأثير الموسيقى في الشعر، فأوجب على الشاعر أن يكون نظمه وإيقاعه للألفاظ إيقاعاً موسيقياً، لأن الموسيقى لغة النفس
ولكن تلك الفاجعة التي نزلت به في مطلع صباه، جعلت منه شاعراً متألما يتغنى بألمه، ويأبى أن يظهر والألم غالب عليه فيضحك للألم ويطرب للشقاء، ويرشف دموعه ناعما كما يرشف الطائر الظمآن دماءه، وفي هذه المجالي تسمع نفسه تشكو وصدره يزفر، وترى عينيه محدقتين في العالم الموهوم الذي تصوره وشاء أن يسكنه
روح (نوفاليس) الرومانتيكية تبدو في رواياته التي كتبها لنفسه، لأنه لم يستطع أن يدخل إلى العالم ويعاشر سكانه ويعرف أهواءهم، لأنه شاعر غني يريد أن يوزع ما لديه بعد أن ضاقت جوانب نفسه بكنوزها، هو لا يأخذ ولكنه يعطي. وهكذا نرى (نوفاليس) شاعراً في رواياته، شأنه أن يجود وأن يعطى. .
وضح مذهبه الشعري جليا في روايته (هنري دوفتر ينجين) التي جاءت ناطقة عن نفسه. نوفاليس الذي فقد (صوفيا) وهام بعدها هيام الجنون، قد وجدها مرة ثانية حية في (جوليا) فأحب هذه وكأنه يحب صوفيا، وخطبها كأنه يخطب صوفيا فأطفأ هذا الحب الجديد كل ما لقي من كآبة وسأم. وأخذ يستقبل الحياة بقلب يخفق مرحا. ويشيع عهده الأول ليدخل في عهد ثان طافح بالأمل والرجاء.
بدأ يكتب روايته هذه، ولكن القدر لم يشأ له أن يكملها. فألف جزأها الأول، وترك بعده مقطوعات منثورة قد تتم معنى روايته وتظهر الغاية التي سلك إليها. يبدأ جزؤها الأول بحلم وينتهي بقصة، وكلا الحلم والقصة جزءان متلائمان منتظمان يعبران عن نفسية البطل (وبطل القصة) خلق شاعراً، ونشأ تحت رعاية والديه، يقضي وقته متأملا متنقلا في مروج الخيال. دون أن تحول حوائل بينه وبين ما يصبو إليه.
رأى في حلمه الزهرة الزرقاء، وهي مثل حياته الأعلى، ورأى انه إذا أرادها لنفسه، فمن الواجب عليه أن يهجر وطنه، ويسيح في أقطار الأرض وبقاع العالم. فأطاع هذا الهاتف النفساني، وسار في الأرض يتأمل في أقطار تقع عليها عيناه. وفي طريقه التقى بالساحر الشاعر (. . .) وهو الذي ألقى عليه بعض فصول ممتعة في الفن، وأفهمه مخاطر الهيام، وأدلى إليه بفائدة التأمل والتمحيص. وكان لهذا الشاعر الساحر ابنة جميلة، ما أن وقع عليها نظر هذا الهائم حتى جن بها، واعتقد أنها هي (الزهرة الزرقاء) التي وجدها في حلمه. فشغف بها شغفاً شديداً، ولكن المنية داهمتها فقضت نحبها - وهذه الجميلة لم تكن إلا (صوفيا) محبوبة نوفاليس الأولى - ثم واصل الشاعر الفتى سياحاته في الأرض، ما زاده موتها إلا كلفاً وهياماً
ثم تأتي أجزاء الرواية المنثورة فنفهم منها أن البطل سيعرج على إيطاليا ويعرج على اليونان، ثم يسيح في بلاد المشرق. ثم يجتمع بالشاعر الساحر، فتقوم - هنالك - مجادله شعرية فنية ثم يتعرف الشاعر الفتى إلى فتاة تمثل (الزهرة الزرقاء) وتحل محل الأولى - وهذه الجميلة الثانية هي (جوليا) محبوبة نوفاليس الثانية. - فتجدد له حياة زاهية الألوان. وتبنى له من الأرض الغبراء سماء ساطعة الأضواء. فيرى الشاعر في وجهها وجه الأولى، وهما متحدان مقترنان في وجه واحد سام كامل، وهكذا تنتهي سياحة الشاعر.
والشاعر بعد أن ساح في أقطار الارض، وبعد أن تعرف إلى صور كل شيء، لم يبق له وراء ذلك لا أن يطوي نفسه، ويدخل إلى عالم نفسه - كما يقول نوفاليس في إحدى مقطوعاته - (ألا إن كل شيء يقودني إلى نفسي!) وهذه هي الفكرة التي بنى عليها نوفاليس روايته.
فالرواية لا تتخذ لها أجواء إلا أجواء النفس، وهي ضعيفة بحقيقتها واسعة بخيالها، تمتزج خيال الشاعر ولا تلائم حقيقة الفيلسوف. قد اجتمع فيها كل ألم الشاعر وآماله. وكل ما اعتقد ويعتقد من قواعد في الشعر والفن. وهذه الرواية هي أدنى إلى القصيدة الشعرية منها إلى القصة التي تعتمد على الألوان الخارجية. وهي قصيدة طويلة عميقة الخيال، بعيدة الغور، تصل إلى أعماق الباطن والنفس، يظهر فيها نوفاليس الشاعر وراء الشخصية المبهمة التي تلبس بها. تلك الشخصية التي تستفزها الأحلام وتهيجها الآمال وتفهم الجمال الكلي الذي لا يموت بموت الملامح.
روح وادعة تنظر إلى الوجود بعين الأمل والرضا، يريد صاحبها ان يحمل شقاءه كصديق، ولا يريد أن يوليه مملكة قلبه وعقله كالغالب يعيث فيها فساداً. لأنه يرى نفسه مرتاحة بهذا النزر من الشقاء قال عنه (فردريك شيلجل) (وكان لا يجد أثراً للسوء والشر في الوجود، وكان يعتقد أن كل شيء يستعد ليدخل في حياة ذهبية) ونوفاليس يقول عن نفسه (انو الطبيعة حبتني هذه النعمة، نعمة النظر إلى سمائها ولألائها بعين المرح والسرور) وهذه الكلمة تبدي لنا الحساس (نوفاليس) العميق في الطبيعة، وتفهمه لدقائق أشيائها. هو إحساس لا تغلب عليه العاطفة الهوجاء. ولا تصدمه الحقيقة السائدة في الوجود، وكيف نريد أن نقيد أو نحدد إحساسه وهو الذي آمن بالأحلام ليستطيع أن يكيف الطبيعة كما تبتغي أحلامه. . وهو يبغي أن يحيا في الطبيعة كما يريد لا كما تريد هي. .! ولكن هذا المرح لم يكن مرحاً هائجاً ثائراً، بل كان مرحاً ساكناً هادئاً، يتمشى بين ثناياه ألم عميق إذا تعمق الناقد في باطنه تبينت له تلك السحابة القائمة، وتلك الظلمة الفاحمة. وقد تكون سحابة قاتمة لكنها موشاة بألوان الشفق الوردي: يبدو احمرارها للعين ويتوارى سوادها. وقد تكون ظلمة فاحمة ولكن أشعة قمر مستور يغمرها بشعاع باهت ينيرها ولكن لا يظهرها.
هذا هو (نوفاليس) الذي غادر الوجود ولما يبلغ التاسعة والعشرين، قد غالى قوم في تقديسه حتى نعتوه (بنبي المدرسة الرومانتيكية). وغالى قوم في بخسهم قيمته، فقالوا ان فنه هو مجموعة أحلام صبيانة. والناقد الحق هو الذي لا يغالي في الأمرين. ينظر إلى الأولين فيدرك أنهم أرادوا لو انفسح عمر الشاعر لكان منه ذلك النبي المزعوم. وينظر إلى الآخرين فيدرك أن مقاييسهم كانت قاسية، تريد من الشعر مالا يريد الشعر من نفسه، فيقف بينهما موقفا وسطا ويقول: كان نوفاليس شاعراً تلاه ناس، وسوف يتلوه ناس، لأنه كان شاعر النفس والعاطفة العميقة والأحلام والرموز.
وهنالك - العدوى الفلسفية - وهي اشد سرياناً في الفلسفة منها في الأدب، فان جل البارزين واللامعين في العصر الحاضر إذا حككت مذاهبهم قليلا رأيت فيها كثيرا من مذهب أساتذتهم اللامعين - في العصر الماضي - فمثل هذه القربى يجب ان تظهر وان تحلل، لأن قرابة الفلسفة قرابة جامعة بين الفلاسفة هي أشمل من قرابة الأدب بين الأدباء.
هذه كلمة يتقبلها الأستاذ الأديب ممن لا يحمل له إلا المحبة والإخلاص
دير الزور
خليل هنداوي