الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 37/بعد حوادث النمسا

مجلة الرسالة/العدد 37/بعد حوادث النمسا

بتاريخ: 19 - 03 - 1934


النمسا الجمهورية في خمسة عشر عاما

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 2 -

أنشأت الديموقراطية الاشتراكية الجمهورية النمساوية الجديدة، وتولت زعامتها وقيادتها أثناء عقد معاهدة الصلح (معاهدة سان جرمان) وتسوية المشاكل الأولى التي خلفتها الحرب، ولكنها لم تتمتع طويلاً بالأغلبية البرلمانية وسلطان الحكم، ففي سنة 1920 خرج الاشتراكيون المسيحيون بأغلبية في الانتخابات، واختتم الدكتور رنر زعيم الديموقراطية وزارته الثانية، وألف الاشتراكيون المسيحيون أول وزارة لهم برآسة الدكتور (مير) ومن ذلك الحين تتعاقب الوزارات الاشتراكية المسيحية في حكم النمسا، أحياناً مستقلة دون ائتلاف، أحيانا مؤتلفة مع الديموقراطيين الاشتراكيين أو الأحزاب الصغيرة الأخرى (مثل الألمان الوطنيين والزراع) وفي العام التالي اشتدت دعوة الانضمام إلى ألمانيا (الانشلوس) في بعض نواحي التيرول، واشتدت الأزمة المالية، فاستقالت وزارة (مير) وألف الدكتور شوبر وزارته الأولى في يونيه سنة 1921ٌ ولكن الوزارة الجديدة لم تستطع أن تغالب الأزمة المالية، وارتفعت الأثمان واشتد الغلاء ووقعت كارثة النقد، فاستقالت وزارة شوبر، وألف المونسنيور سيبل وزارته الأولى (مايو سنة 1922)، وأبدى في معالجة الموقف كثيراً ` من الشجاعة والبراعة، واستطاع أن يحمل عصبة الأمم على الاهتمام بمتاعب النمسا، وأن يجعل من المسألة النمساوية مسألة أوربية، واستطاع بالأخص أن يعالج مسألة التضخم، وان يعيد الاستقرار إلى النقد، فهدأت النفوس وانتعشت الآمال نوعا، وبذل المونسنيور سيبل جهوداً تخلق بالإعجاب في سبيل توطيد شئون الجمهورية الجديدة، وتذليل مشاكلها الداخلية والخارجية، ولكنه اضطر إلى الاستقالة على اثر محاولة الاعتداء على حياته في نوفمبر سنة 1924 وألف الدكتور رامك بالاتفاق مع الديموقراطيين الاشتراكيين وزارة ائتلافية، استمرت في سياسة الإصلاح المالي، ثم استقالت في أواخر سنة 1926 حين اشتدت الأزمة المالية كرة أخرى، وألف المونسنيور سيبل وزارته الثانية (في نوفمبر). وخرج الديموقراطيون الاشتراكيون على الائتلاف ونظموا معارضة قوية. وفي أثناء الانتخابات العامة التي وقعت في أبريل سنة 1927، بث زعماء الديموقراطية الاشتراكية وعلى رأسهم الدكتور أوتو باور، والهر كارل سايتز حاكم فينا ضد الحكومة وحزبها وأنصارها دعوة شديدة في العاصمة والاقاليم، ونضم اعتصاب عام شديد الوطأة ولكن الحكومة ثبتت أمام العاصفة، وأخفقت هذه المحاولة الأولى

وفي منتصف يوليه سنة 1927 وقع صدام دموي خطير بين الكتلة المسيحية الاشتراكية (الحكومة)، والديموقراطية الاشتراكية. وتفصيل ذلك أن بعض الفلاحين المنتمين إلى (جماعة هتلر) أطلقوا النار على جماعة من الديمقراطيين الاشتراكيين في قرية شاتندورف، أثناء اجتماع انتخابي عقدوه، فقتلوا رجلاً وطفلين، فقبض على الجناة متلبسين بجريمتهم وأحيلوا على المحاكمة، وثار الاشتراكيون لذلك الاعتداء، ولكن المحكمة قضت ببراءة المتهمين فاضطرم الاشتراكيون لذلك غضباً وسخطاً، ورموا الحكومة بالتأثير في القضاء، ونددوا بتحيز القضاء (البورجوازي)، وهرعت ألوف مؤلفة من العمال إلى قلب مدينة فينا لتتظاهر احتجاجا على الحكم. وكان ذلك في ضحى يوم 15 يولية، وأبدى بوليس فينا يومئذ - وعلى رأسه مديره الهر شوبر رئيس الوزارة السابق - في معاملة المتظاهرين صرامة. ووقعت أول مصادمة بين المتظاهرين والبوليس أمام دار البلدية (الرات هوس) وعندئذ تحول من المتظاهرين إلى وزارة الحقانية وأضرموا النار في جنباتها، ولما اشتد ضغط الجموع، أطلق البوليس النار على المتظاهرين، فقتل منهم نحو ستين بينهم عدد من النساء والاحداث، وكان يوماَ عصيباَ ساد فيه الروع والحزن مدينة فينا. ومما يجدر ذكره أن المتظاهرين، لم يكونوا مسلحين يومئذ، واعتذر البوليس عن تصرفه بان المتظاهرين بدءوا بإطلاق النار، ولكن البوليس لم يقتل منه سوى رجل أو اثنين؛ ولم تعرف الحقيقة قط، وأدركت الديموقراطية الاشتراكية من ذلك اليوم أنها تواجه جبهة لا يستهان بقوتها، وأنها تخوض معركة الحياة والموت مع القوى الخصيمة لها.

والواقع أن حوادث 15 يولية كانت ذات نتائج حاسمة في سير السياسة الداخلية النمساوية. فقد رأت الديموقراطية الاشتراكية أنها أضعف الحزبين، وأخذت تعمل لتقوية نفسها وتسليح أنصارها، ورأت الكتلة المحافظة، كتلة الملاك وأصحاب الأموال التي تؤيد حزب الحكومة - المسيحيين الاشتراكيين - أن تنشئ لها قوة خاصة تستعين بها على مقاومة الديموقراطيين الاشتراكيين؛ وهكذا أنشئت جماعة (الهايمفر) - الشهيرة - ومعناها (الدفاع الوطني) - في خريف سنة 1927، لتكون قوة دفاعية للمحافظين والملاك. وتولى تنظيمها وزعامتها سيد من أبناء الأسر النبيلة القديمة هو البرنس أرنست فون شتار همبرج، وقامت جماعة الهايمفر مشبعة بروح الفاشستية الإيطالية، ولكنها أعلنت أنها مخلصة للنظام الجمهوري، وأنها تعمل فقط لحماية النمساويين من خطر الطغيان الاشتراكي أو الماركسي (نسبة إلى ماركس)، ونظم الاشتراكيون من جانبهم قوتهم العسكرية المعروفة (بالشوتسبند) أو رابطة الدفاع الجمهوري وهي القوة التي أنشأوها وسلحوها منذ حين ليعتمدوا عليها في مقاومة خصومهم وفي حماية أنفسهم ومصالحهم، وتولى تنظيمها وقيادتها قائد قديم هو الجنرال كرنر، وأصبحت النمسا تموج بهذين المعسكرين المسلحين الخصيمين، ولم يمض بعيد حتى اشتبك الهايمفر مع خصومهم في ضاحية (فينر نويشتات) وهي مركز المعسكر الاشتراكي (في أكتوبر) واضطرت الحكومة أن ترسل قوة كبيرة من الجيش لحسم النزاع والمحافظة على النظام، واحتج الاشتراكيون بقوة على قيام (الهايمفر) واتهموا أصحاب الأموال باستخدامهم لإرغام الاشتراكيين والطبقات العاملة على التنازل عن حقوقهم، وبدا خطر الحرب الأهلية داهما، وحاول زعماء الفريقين التفاهم والمهادنة، واقترح البعض نزع سلاح الفريقين، ولكن هذه الجهود السلمية ذهبت عبثا.

ولبث المونسينور سيبل في منصة الحكم حتى صيف سنة 1929 وكانت مسألة الاتحاد مع ألمانيا (الانشلوس) من أهم المسائل السياسية التي شغلت الأحزاب والرأي العام يومئذ، وكانت الديموقراطية الاشتراكية، كما قدمنا تعارض في هذا الاتحاد أشد المعارضة، وكان المونسنيور سيبل ينكره ويأباه في خطبه الرسمية، ولكنه لم يفعل شيئاً ضده من الوجهة الرسمية، ولم يقبل أن تدخل النمسا في حلف سياسي أو اقتصادي مع أية دولة من الدول الوسطى التي تعارض ألمانيا. وفى شهر أبريل استقال المونسنيور سيبل فجأة، واستطالت الأزمة الوزارية نحو شهر، ثم قامت وزارة الهر شتيروفتز أخيراً بتعضيد المونسنيور وحزبه المسيحي الاشتراكي، ولكنها لم تلبث سوى أشهر قلائل، تقدمت خلالها جماعة (الهايمفر) تقدماً كبيراً وزاد أنصارها بكثرة، ولا سيما في التيرول والنمسا السفلى، واضحت قوة كبيرة يخشى بأسها، وأخذ المونسنيور سيبل وحزبه في تأييدها واضطرت وزارة شتيروفتز تحت ضغط الهايمفر أن تجري عدة إصلاحات دستورية، ولما زاد ضغط الهايمفر وصخبهم ووعيدهم استقالت وزارة شتيروفتز (سبتمبر): واتفقت الآراء على ترشيح الهر جان شوبر مدير بوليس فينا ورئيس الوزارة السابق؛ فألف وزارته الثانية، على قاعدة الائتلاف والتفاهم مع الديموقراطيين الاشتراكيين. وكان الديموقراطيون يضطرمون نحوه سخطاً منذ حوادث يوليه. ولكنهم اضطروا إلى مهادنته والتعاون معه نظراً لتفاقم خطر (الهايمفر) واشتداد بأس المحافظين. ولم يكن الهر شوبر من خصوم الهايمفر، وكان يرى بالعكس أن يصانعهم ليكسبهم ويأمن جانبهم وليوجه حركتهم إلى ما يدعم غاياته السياسية، وأعلنت الوزارة الجديدة أنها لن تدخر وسعا في تأييد النظام والأمن وقمع كل محاولة للعبث بهما. فاستقرت الأمور نوعاً وعادت الثقة والطمأنينة، وأثبتت الحكومة أنها تملك ناصية الموقف غير مرة كلما حدث احتشاد أو تظاهر من جانب الهايمفر أو خصومهم الاشتراكيين، وأبدى الهر شوبر بالأخص براعة في تسيير السياسة الخارجية وفي توطيد الثقة الدولية بالنمسا وحمل عصبة الأمم على معاونتها.

وفي نوفمبر سنة 1930 وقعت الانتخابات العامة وخرج الديموقراطيون الاشتراكيون بأغلبية نسبية تفوق الأغلبية التي فاز بها المسيحيون الاشتراكيون، ولكنها لم تكن كافية لأن يعود الديموقراطيون إلى الحكم، واستقالت وزارة شوبر، وقامت وزارة ائتلاف برياسة الدكتور أندر يؤازرها المسيحيون والهايمفر وكتلة شوبر المستقلة، وتولى هر شوبر وكالة الوزارة ووزارة الخارجية وكان هو الروح المسير لهذه الوزارة، وخصوصاً في الشئون الخارجية، وفي مارس من العام التالي عقدت النمسا مع ألمانيا مشروع اتحاد جمركي نمساوي ألماني، فاحتجت عليه دول الحلفاء بشدة، وكذلك دول الاتفاق الصغير، واعتبرته مقدمة لتنفيذ مشروع الاتحاد النمساوي الألماني (الانشلوس)، وطالبت بإلغائه لأنه يخالف معاهدات الصلح وتعهدات النمسا إزاء عصبة الامم، فاضطرت النمسا أن تنزل عند إرادة الحلفاء في ذلك، وأن تحيل الاتفاق الجمركي إلى محكمة العدل الدولية الدائمة لتقضي بعد ذلك ببطلانه. ووقعت خلال ذلك كارثة (كريديت انشتالت) وهو أعظم بنوك النمسا وظهر عجز جسيم في موارده وكاد ينهار بناؤه فساد الذعر المالي وكادت النمسا تنحدر إلى هاوية الخراب المالي، وتصدع بناء الوزارة لأنها لم تقو على معالجة الازمة، ووضعت الدول ذات الشأن شروطاً شديدة لإعانة النمسا وإقراضها، ومنها الإشراف على مالية النمسا على يد لجنة دولية، فاستقالت الوزارة في يونيه، وبعد مفاوضات معقدة خلفتها وزارة ائتلاف أيضاً على رأسها الدكتور بوريش، وعاد هر شوبر فتولى وكالة الرئاسة والخارجية وعنيت الوزارة الجديدة بمسألة الإنقاذ المالي وتوطيد الميزانية، واستطاعت بعد جهود عديدة أن تصلح الموقف نوعاً، وأن تدبر مسألة القروض المالية مع الدول ذات الشأن، وعالجت أيضاً مسألة المرتبات وإعانة العاطلين.

ووقعت في 13 سبتمبر محاولة عنيفة قامت بها عصابات الهايمفر في ولاية ستيريا دبرها الدكتور فريمر. واستولى الهايمفر خلالها على عدة مبان ومدارس حكومية، فجردت حكومة فينا في الحال على الثوار قوة كافية وانهارت المحاولة في الحال وفر مدبرها الدكتور فريمر، وكانت هذه أول محاولة من جانب الهايمفر للتطلع إلى السلطة، ولكنها كانت محاولة ضئيلة، ولم يبد من الشعب عندئذ أنه متحمس في تأييد الهايمفر. واستمرت وزارة بوريش في كرسي الحكم حتى مايو سنة 1932 ثم استقالت. وهنا قامت وزارة على رأسها رجل لم يعرف من قبل كثيراً في ميدان السياسة هو الدكتور انجلبرت دولفوس، وهو من رجال الاقتصاد، وكان قد تولى وزارة الاقتصاد في الوزارة السابقة، ولكنه لم يعرف من قبل ذلك بأي نشاط سياسي. وهو من رجال الحزب المسيحي الاشتراكي، قوى الإيمان والنزعة الدينية، ولم يكن يوم توليه الرآسة قد جاوز الأربعين بعد، وكان المقدر أن هذه الوزارة الجديدة ستكون وزارة إدارية على الاغلب، وانها لن تعمر طويلاً.

ولكن الدكتور دولفوس لا يزال يشرف على مصاير النمسا منذ عامين، ولا يزال يواجه الصعاب والأزمات المختلفة بجلد وشجاعة تخلقان بالإعجاب. ولم تلق النمسا الجمهورية من الأزمات العصيبة الداخلية والخارجية مثل ما لقيت في العامين الأخيرين، ولكنها استطاعت حتى اليوم أن تجوز هذه الصعاب، وأن تحافظ على كيانها السياسي والاقتصادي. وبدأ الدكتور دولفوس بالعمل في سبيل الإنهاض الاقتصادي، وانتهى في ذلك بعقد بروتركول لوزان على يد عصبة الأمم لمعاونة النمسا المالية والاقتصادية. ولكن هذه الخطوة أثارت معارضة شديدة من جانب الديمقراطيين وباقي الأحزاب المعارضة، ولم تستطع الحكومة أن تحصل على الأغلبية البرلمانية اللازمة إلا بصعوبة؛ وطالب الديمقراطيون بإجراء انتخابات جديدة؛ فعارض الدكتور دولفوس في ذلك متذرعاً بحاجة البلاد إلى السكينة والعمل الهادئ، وسعى إلى الاتفاق مع جماعة الهايمفر ليكسب عونهم في البرلمان على أن يضم واحد منهم إلى الوزارة وكان الهياج الحزبي يشتد في كل يوم، إذ قويت دعوة أنصار الجامعة الألمانية (الهتلريين)، ووقعت بينهم وبين الديمقراطيين مناوشات دموية، فاستدعى الدكتور دولفروس زعيم الهايمفر في فينا الماجور فاي وهو جندي قديم ذو مواهب ممتازة واسند إليه وزارة الأمن العام، فعمل على ضبط النظام بعزم وقوة، ولما افتتحت الدورة البرلمانية في أكتوبر ظهرت شدة المعارضة، وانضم الهتلريون إلى الديمقراطيين في معارضة الوزارة متهمين إياها بالخضوع للسياسة الفرنسية، وتحرج الموقف البرلماني شيئاً فشيئاً حتى عدا مستحيلاً؛ وعمد الدكتور دولفوس من جانبه إلى العمل المستقل؛ وأخيراً استقال رئيس البرلمان وأعضاء مكتبه، فشل بذلك العمل البرلماني، وألقى المستشار نفسه طليقاً من إشراف المعارضة، واتخذ لنفسه سلطة شبه دكتاتورية.

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان