مجلة الرسالة/العدد 37/القصص
→ العلوم | مجلة الرسالة - العدد 37 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 19 - 03 - 1934 |
ليلة ضائعة
مسرحية ذات فصل واحد
تأليف شارل كليرك
ترجمة فتحوح نشاطى
أشخاص الرواية
ممثلة التراجيديا العظيمة: راشيل. الشاعر ألفريد دي موسيه. لوردي برانكور. ايفون: وصيفة الممثلة
تقع حوادث الرواية حوالي سنة 1840 في باريس
(يمثل المنظر صالون استقبال صغير في قصر الكونت دي كاستلان أعد لتستعمله الممثلة الكبيرة مقصورة مسرحية. عند رفع الستار تدخل راشيل حاملة باقة فخمة من الزهور يصحبها دوي التصفيق والهتاف فقد ألقت في حفل أرستقراطي حاشد قصيدة رائعة للشاعر الخالد الفريد دي موسيه: ليلة ضائعة. ولا تكاد تخفت عاصفة التهليل حتى يسمع من بعيد عزف كمنجة حنون)
المشهد الأول
راشيل - ايفون
راشيل (لوصيفتها) لا أحد! هل تسمعين؟ لا أستقبل أحداً! سنرحل على أثر انتهائي من تمثيل مشهد (هرميون). .
ايفون - (ملحة) ولكن. . . معالي الوزير سيدي الكونت دي شاتل جاء قصداً خصيصاً ليحظى برؤية راشيل العظيمة على انفراد
راشيل - لا حد
إيفون - (قارئة البطاقات المشبكة بباقات الزهور) واللورد بروجهام؟ أيمضي إلى حال سبيله؟ والكونت دي موليه الذي لا يجازف ببطاقته إلا داخل باقات ملكية؟
راشيل - (ضجرة) أرغب ألا أرى أحداً الليلة! إيفون - كيف يا سيدتي؟ أتراك تبدلت نفسك؟ أقدر لنا أن نلقى معبودة فرنسا وقد عادت نافرة ملولا تزهد في بخور الإعجاب الذي طالما نشقته وهي نشوى بعطره المتصاعد؟ هل أضحى الظفر أو هي جاذبية من أن يستوقف خاطرك الحزين؟
راشيل - (وقد ارتدت لباس هرميون) لا أراك مصيبة في فهمي يا ايفون - يشوقني حقيقة في المسرح إعجاب الجماهير التي تؤخذ بنبرة هرميون الصادقة وإشارتها البسيطة - لكن هنا، في قصر آل كاستلان، داخل هذه الصالونات الصاخبة التي يتناوب تمثيلي فيها عزف الموسيقى! هنا حيث لا يحتفون براشيل ولا يمجدونها الا لأنهم يرونها عن كثب. هنا حيث أستبين في العيون الشاخصة إلى شهوة ملحة أكثر مما ألمح فيها إعجاباً خالصاً!
ايفون - كفى إذن عن أن تكوني فتية وجملية!
راشيل - لقد عدت برمة بهذه الجمهرة من العشاق المتزاحمين حوالي كالفراش! أتدرين ما الذي يجذبهم اليّ؟ انه المجد. . . مجدي الذي صنعته بيدي مفرقي! هل دار في خلد واحد منهم أن يجازف بعاطفة حنون نحوي أيام كنت أسابق ظلي على الطريق الموحشة، في الريف عارية القدمين، وحيدة، بائسة؟ أمضي بهذه الزهور بعيداً عني. . . أريحي عيني من مرأى هذه البطاقات. . . جميعها. . . جميعها. . . أريدني الليلة سيدة نفسي! (لنفسها وقد جلست إلى مرآة الزينة بينما ترتب الوصيفة باقات الزهور)
لم يجيء موسيه حتى الآن! أن سهرة نسائية شغلته ولابد عن الحضور لسماعي وأنا القي قصيدته. . . إيه! أراني أسعى وراء أحلام طائشة! لننس الناسي!
(طرقة خفيفة على الباب) من الطارق أيضاً؟
ايفون - إنها تلميذتك، مدموازيل دي برانكور التي تستأذن راشيل - هي. . . بلا شك. . . على الرحب والسعة. . . فلتدخل. . .
المشهد الثاني
راشيل - لوردي برنكور ثم يعد حين الوصيفة
راشيل - (للور) أنت هنا يا عزيزتي لور؟
لور - نعم يا صديقتي العظيمة - أكاد أكون من الأسرة.
فصاحب القصر الكونت دي كاستلان قريبي. لكم رددت في حداثتي أشعار فلوريان تحت هذه الصورة الخطيرة التي تمثل أحد أجداد هذه الأسرة الكريمة، فقد جذبني المسرح إليه منذ ذلك العهد البعيد
راشيل - (مجاملة في عطف) وما زالت تتألقين في سمائه!
لور - بفضل تعاليمك الغالية التي تسدد خطواتي المتعثرة! أعلم أني تلميذة جهول، غير أني أرحب دائماً بانتصاراتك الباهرة واصفق لها من كل قلبي! شد ما أعجب بك الحضور الليلة!
راشيل - لا تخادعي نفسك! لقد أعجبوا بي ولكنهم لم ينظروا إلا إليك! لو أني أكثر أنوثة وأقل ولوعاً بفني لحسدتك على سنيك التسع عشرة المتألقة!
لور - شبابي اعجز من أن يسامي عبقريتك! أنت يا من تجمعين إليك أرواح الجماهير لتمضي بها نحو المثل العليا! أنت التي لم يعوزك لتتسنمي قمة المجد - أكثر من ليلة صغت إليك فيها باريس. ثم توجتك أميرة للمسرح! أنت يا من تبعث مواهبك الفذة كورنيل حياً بعد راسين، والتي ينحني العالم مشدوهاً أمام نبوغك المشرق! أي حلم!
راشيل - (في حرارة) الحلم جميل نعم. . . لو يدوم ولو لم تبدده ريح النسيان العاتية! أسفاه! من يمجدونني اليوم هم أول من يمزقونني غداً! ولا أعود أجد بعد قليل بين آلاف المعجبين غير شاعر واحد يصون مجدي من البلى: هو الذي سمعته من هنيهة
لور - موسيه؟ إن الأشعار الجديدة التي أنشدتها منذ حين ستبقى عزيزة على من صفقوا لها معجبين. أكاد أسمعها تتغنى في حافظتي فهي لعذوبة معانيها وروعة صورها أقرب إلى الذاكرة وألصق بالفكر: الشاعر الحالم وسهرة الكوميدي فرنسين؛ العنق الرشيق الناصع الذي ينوه بفرعة الفاحم، والذي يبصر به الشاعر فجأة وهو يستعرض الوجوه بمنظاره، فيستوقف منه النظر والفكر حتى ساعة الرحيل، الصورة الخيالية الباهرة التي تبارى في رسمها شاعران كبيران، والتي استلهم فيها موسيه بيتين من شعر الشاعر شنييه. . .
راشيل - (تردد الأبيات المعنية) (تحت رأسك الظريف يتثنى عنق بض، رشيق (يكاد لفرط بياضه أن يكسف نصاعة الثلج)
لور - يظهر لي أن لغزاً دقيقاً يستتر خلف هذه (الليلة الضائعة) وأكاد أفترض لحظة أن راشيل ربما كانت تعرف العابرة الجميلة التي تراءت للشاعر المحبوب راشيل - (مرحة) أبدا! لم أمثل في حياتي أدوار العجائز اللاتي يعمد إليهن أبطال الروايات للمارة! فيم إذن تحلم الفتيات الطائشات؟ ثم ما يدريك أن موسيه ما زال يذكر للآن تلك الرؤيا الخفية التي مرت به كومضة البرق الخاطف؟ هذا الرأس الجميل الذي لمحه موسيه ليلة في مسرح إن هو في عرفي إلا خيال شاعر! وما احسب موسيه متأثراً إلا بروعة الأبيات التي خطها يراعه للخلود!
لور - تتهمينه بما هو براء منه. . . واعتقد. . .
راشيل - ليكن، أخطأت! انتشى إذن وحدك بهذه القصة الوجدانية الخيالية فهي من سنك!
لور - ولكنك لم تبلغي العشرين بعد!
راشيل - القلب الذي يسيطر عليه الفن يذوي قبل الأوان ويعود يؤمن بالأشعار الجميلة اكثر مما يؤمن بأحلام الشاعر
الوصيفة (داخلة) يطلبونك يا سيدتي
راشيل - في الحال. . . أنا على استعداد
(تخرج الوصيفة)
لكن، يا للفوضى!
لور - (وهي تقترب من مرآة الزينة التي وضعت أمامها الممثلة العظيمة حليها بين عقود وخواتم) اطمئني! آخذ على عاتقي ترتيب كل شيء!
راشيل - امضي إذن واثقة بسلامة حلي من الضياع؟
(تخرج)
المشهد الثالث
لور - ثم - الزائر
لور - (لنفسها وهي تجرب الحلي التي تجمعها) تروقني هذه اللآلئ الصافية. . . هذا الخاتم في إصبعي يغريني بالزهو والعجب. يا لدنيا المسرح العجيبة! ترى ما الذي حل براشيل هذا المساء. تبدو لي كئيبة، متجهمة! أيكون لانقباضها علاقة بهجمات ذلك النقادة الظالم الذي ادعى أنها خيبت آمال اصدقائها في رواية (با يزيد)؟ على أن هذا محض افتراء! فما رأت عيني سلطانة أروع وأجمل منها في دور (روكسان)! لقد دافع عنها موسيه. وأحسن صنعا فالجمال حقيق بكل تقديس وعبادة!
(يدخل الزائر فلا تلحظه لور وقد جلست مدبرة للباب. الزائر غاية في التأنق يلبس (فراك) السهرة والصديرى الأبيض)
الزائر - مساء الخير يا راشيل!
(تلتفت لور فيتولى الزائرعارض من الدهشة، رجة نفسانية يكبحها في الحال) أنت!
(يملك روعة وقد تبدلت لهجته) أوه! عفوا! مدموازيل! ما كنت أتوقع. . . ودهشتى لا تحد. . . طرقت متطفلا ودخلت دون استئذان. . .
لور - أبدا يا سيدي. . . لكن راشيل تمثل الآن مشهد هرميون فعجل إن شئت مشاهدتها
الزائر - هل أنشدت بعض أشعار؟
لور - نعم، ارق وأعذب قصائد الوجدان، أبيات شجية للشاعر موسيه، تلتها علينا من لحظة قصيرة بين الإعجاب والتهليل ذكرى (ليلة ضائعة)، عمل أستاذ قدير!
الزائر - قرأت أخيراً هذه الأشعار الجديدة وتمنيت لو أسمعها لكني وفدت متأخراً، أنا أيضاً أعد موسيه شاعري المفضل. يشوقني فيه فنه الساحر: ذلك المزيج البارع من الحنان الصادق والأسى العميق!
لور - حرمت على مطالعة (قصص إيطاليا) غير أني نعمت بقراءة (فانتزيو) وشاركت (فينون) أحلامها الذهبية! لكن لنعد إلى قصيدة الليلة. آه! يا سيدي لو تدري كم أجهدت ذهني في التقصي عن مجهولة الليلة الضائعة أهي كميل أم سيسيل؟ من تكون يا ترى تلك الفتاة الصبوح ذات العنق الناصع. من؟
الزائر - إنها العذراء الفاتنة التي تشبه الاثنين على غير علم منها!
لور - (متابعة فكرتها) وهكذا قدر للملهمة أن تجهل القصة الرائعة التي الهمتها! لو أنها تكشفت هذا السر لعادت به جد فخورة!
الزائر - تظنين؟
المشهد الرابع
المذكوران. الوصيفة.
الوصيفة - أوه! عفواً! جئت أبحث عن فراء سيدتي (تبصر بالزائر) أنت مسيو دي موسيه؟ وما وقوفك هنا؟ تعال: كيف؟ يمجدون راشيل. وتهجرها؟
موسيه - أسير إليها في الحال. . .
الوصيفة - عجل فقد تكاثر من حولها الإعجاب! (تخرج)
المشهد الخامس
موسيه - لور
موسيه - (للور وقد بهتت مأخوذة حيرى) ثقي أني ما استرقت سرك إلا بالرغم مني، فلولا هذا اللقاء العزيز الذي لم يكن ليؤمله قلبي لقدمت إليك نفسي لأول بادرة. إن العابرة المجهولة التي تطوف في سماء قصيدي قمين بك أن تعرفيها. تأملي هذه المرآة. . . المجهولة الجميلة أنت! كنت ترتدين تلك الليلة ثوباً وردياً، وكنت قد وصلت متأخراً إلى المسرح - فجأة - بينما كنت أجيل بصري في أرجاء تلك الصالة التي استحوزت عليها سخرية (ألسست) اللاذعة فجعلتها تضج بالضحك والإعجاب - لمحتك في مقصورتك. . .
لور - (في خفر صادق) أمسك ياسيدي. . . لا تزد حرفاً ارجوك. . . أرى لزاماً على أن أفارقك. . . فما أخالك إلا شاعراً بالضيق الذي طوح بي إليه اعترافك. إنني جد خجلة. . .
موسيه - وأنا جد سعيد. هذه الليلة الهانئة تبدد جهمة الليالي العاصفة التي تملأ قلب الشاعر بالشك المقيت! أن أشعاري التي تحبينها هي صفوة ما كتبت، ولقد بت أستحسن ما تفضلين في قصائدي من شعر طهور ورؤى علوية ما دام قلبك العذري خفق لها خفقة الإعجاب. نعم، صدقيني يا آنسة. نينيت ونينون أختان لك. أراهما على صورتك. لهما عيونك وصوتك. إني لم اعد أستطيع أن افصل عن خيالي الفني هذه الأبيات التي رسم لك فيها شينيه صورة مخلدة (تحت رأسك الظريف يتثنى عنق بض رشيق)
(يكاد لفرط بياضه أن يكسف نصاعة الثلج)
لور - عندما أنشدتنا راشيل هذه الأشعار تأثرت بها نفسي أقل بكثير مما تأثرت الآن، لقد تجلت لي فجأة بهجتها السحرية! وهأنذا استعيد ذكرى تلك السهرة التي قضيتها بالكوميدي فرنسيز في أدق تفاصيلها ولأول وهلة تتضح في عيني معالم قصيدتك وتتناسق. أذكر وقد جلست محازاة والدتي أني شعرت بنظرة ملحة تحوم حولي مرتقبة نظرتي. يا للعجب! بينا كنت أغرب في الضحك غرامية عجيبة؟ هل متفكهة بمشهد (اورونت) لم يهجس ببالي أني كنت أحيا قصة كنت تتابع الرواية أنت الآخر.
موسيه - ما كنت أرى إلا إياك! لقد تبعتك في فترة الاستراحة القصيرة وحمت حواليك أتملى محاسنك الغضة، وإذ أنت توشكين العودة إلى مقصورتك سقطت منك عفواً مروحتك فخففت التقطها وقدمتها إليك واجف القلب واليد، تذكرين؟
لور - (حالمة) نعم أذكر تلك الليلة تعاودني اللحظة كالذكرى السعيدة!
موسيه - ليلة أقل سحراً وقداسة من التي تعود بك إلى مازجة جميع أعطار العالم بعطرك الشذى! أنت وأنا يا للغبطة! ومع ذلك ما أراني أجتزئ أن أصعد فيك بصري يا مليكة العطور والزهور! ألا ليت الزمن الحاني يقف بنا متمهلاً! يا للساعة السعيدة التي يرود الحب فيها حوالينا موحياً إلى قلوبنا العطشى أن تعتصر خمرته الإلهية مذكراً إيانا أن الحياة حلم غامض لا مغزى له إلا عند من جمعوا شتيت آمالهم في يوم هني!. . . أرى الدنيا تتداعى حواليك ولا أبصر في وهيج المصباح الذي ينير بقربك آنية شفافة. غير عينيك النجلاوين وشفتيك اللتين تفوقان زهر الربيع نضارة وبهاء! أحبك
لور - (مقاطعة) أخشى هذه الكلمة. . . أخشى ألا تكون منبثقة من أعماق قلبك وأن تكون مخادعي بها وأنت تخدع نفسك، ألم ترددها من قبل على راشيل؟
موسيه - احبك! أنا لا أدري عنك شيئاً، ومع ذلك فقد ملأ طيفك النوراني سماء خيالي في كل وقت. هي انت، هي صورتك التي كانت تتبدى لي في ليالي سهادى، وأنت في الحق خيالي الشعري تجسم حيا! كل ما أعجبك في أعمالي الأدبية، هي أنت! لكم تشفعت بك واستنجدت في أيامي العصيبة المحمومة. كنت أرتقبك كما يرتقب الغريق صخرة النجاة، وكما كانت ليالي المدلهمة تتشوق لمطلع فجرك! أحبك!
لور - الآن اصدق. وبودي لو أصارحك بما يجيش في صدري من أمان خفية لكن وا أسفاه! أما زلت حرة؟ لا ادري. شت فكري! كيف يمكنني ان أكون لك بينما أرى كل شيء يفصلنا؟ لقد تم اختيار أهلي. . فهل يحق لي أن أخالف الرغبة الوالدية فأتصرف بنفسي كما يحلو لي؟
موسيه (محزونا) نعم أنت محقة. . . أحس يدك ترتجف اكثر مما يجب بين يدي كي لا أردها إليك في الحال! وا أسفاه! حرمت حتى هذه التعزية، الأخيرة واراني ملوماً إذ تجرأت على الكلام دون ان استوثق من اني اطرق قلباً خالياً. فهل تتجاوزين عن نزوتي المختبلة؟
لور - (مادة له يدها) إنسني!
موسيه - وهل يرتجى فيك نسيان؟ أتموت الذكرى التي قدسها الألم كما تغيب لؤلؤة داخل علبتها الذهبية؟ إن الألم المقدس الذي يحيى ميت الإرادة ويشحذ الهمة الشماء، الأم الذي يرهف قوى النفس ويصمد لحوادث القدر كالسنديانة في مهب العواصف، ذلك الألم الإلهي الذي يغسل الأفئدة المجدودة، أحسست به اليوم لأول مرة! بفضلك سأدين لك آخر الدهر يبعث قلب جهله الكل وظنوا ماء الحياة فيه قد نضب!
لور - (بعطف) الوداع!
موسيه - لا لا ترحلي بهذه السرعة! سينتهي حلمي بعد حين غير تارك في قرارة نفسك سوى ذكرى عفيفة! انك إذ تلمسين مدى سلطان محاسنك البريئة على، لا تتنزلين عن جزء من طهارة قلبك! هل تروح زنبقة الوادي أقل نصاعة، لأن ظلال السحر تطيف بجمالها الفتان؟ قد تمسى أحزاني أهون حملا لو أضاءتها مثل هذه الساعة الحنون! أبقى، أرجوك! فلن تخجلك بعد ارتحالي، نجوى هذا القلب الذي باح رغماً عنه بكل ما يكن لن تصدقي بعد اليوم جميع ما يذاع عني ما دمت تحتفظين إلى الابد بذكرى اللحظة التي تنسمت فيها زهرة القبلة على شفتيك بينما كان في مكنتى وقد استشعرت رجفة يدك في يدي ان اقطف تلك الزهرة العلوية!
لور - (مبتعدة عنه) أقبلت راشيل! ترى. هل أملك الوقت الكافي لابثك عميق اضطرابي؟ وا أسفاه! لابد لي من اصطناع الابتسام وتكتم عذوبة هذه العاطفة الوليدة! أخشى أن يخونني ثبات جأشي!
المشهد السادس
المذكوران - راشيل ثم الوصيفة
(راشيل للوصيفة من الخارج) سأتناول الطعام في البيت. إني أتهالك من فرط الإعياء!
(تبصر بموسيه)
يا للمفاجأة! انت. موسيه؟
موسيه - (مقبلا يدها) نعم، قدمت متأخراً. كنت مرتبطاً بسهرة ولم استطع الفرار. . .
سوف أشرح لك
راشيل - (متخابثة) ولكني حذرت كل شيء أيها العزيز!
موسيه - ترينني شديد الأسف. سامحيني.
راشيل - سامحتك. وهل أملك أن أكون صارمة حيال الصديق الشاعر المحبوب الذي تقودني حكمته وينير مجدي حماسه؟ لقد هبت ذئاب النقد تتواثب حوالي شخصي الضعيف فلم ألق غيرك يثبت إيماني بنفسي. ترى، أهي الصداقة التي أملت عليك موقفك إزائي أم اليقين؟
موسيه - الاثنان معاً. ثقي أني ما كتبت غير ما يجول بخاطر باريس جميعا! إنما أنت عنوان فخرنا، بك ننفس ونزهو على العالمين! إلا دعى الحمقى الأغرار يتزاحمون عليك رجاء النيل من عزيمتك: لن ينتزعوا من ذكرياتنا الحية (هريميون) ولا (مونيم) ولا اللهب المشبوب الذي يتطاير من هذا القلب الفتى الخفاق! اندبي يا أميرة المسرح (بايزيد) الملك بييروس، فكل دمعة منك ترتفع بمجدك الناشئ وبفننا المسرحي أكثر ألف مرة مما نفيده من نقد جميع الناقدين!
راشيل - أشكرك وأومن بقولك. كنت الليلة في حاجة ماسة إلى كلمة مشجعة، إلى شعاع من الأمل. سأدرس (فيدر) عقب عودتي إلى المنزل. هذا الدور معقد أحلامي! قرأته عشرين كرة بعيني التلميذ، وأطمح في تمثيله وشيكا
لور - تعملين الليلة؟ ولكنك لم تستريحي اليوم!
موسيه - (للور) الفن طاغوتنا!
راشيل - اذن، فلا تحرر من ربقته. لور محقة. موسيه. . . أدعوك إلى العشاء معي. سوف نتذاكر الماضي العزيز: عشاءنا الأول الذي كان غاية في الفقر والظرف. أتذكر تلك الليلة البوهيمية التي خدمتك فيها بنفسي أثر عودتنا من الكوميدي فرانسيز؟ قرأنا، ليلتها فصلين من (اندروماك)، بعد أن تناولنا، فرحين، شايا ممزوجا بالروم! تعال: سنعيد السيرة من جديد. . . وأكرم وفادتك. . . خيرا من الماضي!
موسيه - (وقد لحظ القلق يستولي على لور) صدقيني. لم انس راشيل الناشئة وتغريني هذه الدعوة الحبية، لكني لا أجد الليلة من نفس حافزاً للهو والمرح، خصوصاً وقد وعدت بالسهر على مقال يرتقبونه من زمن مديد. . . خذلني تكاسلي مرات عديدة فلا أرى الهرب من الواجب، مرة أخرى!
راشيل - يا للعذر الواهي! وإن أضعت أيها العزيز ليلة أخرى!
موسيه - (شاخصا إلى لور) لا. بت والأسف يحز في نفسي على بعض (الليالي الضائعة)
راشيل - (تتطلع نحو الاثنين ثم تقول وقد فهمت كل شيء) الليالي الضائعة؟ أو أثق أنت من ضياعها؟ أراهن انك التقيت بالعابرة المجهولة وأن قلب عذراء في العشرين سيحلم الليلة بالأبيات الخالدة التي ألهمتك إياها إحدى هذه الليالي الضائعة، لقد اهتدت فطرة ذلك القلب السليمة إلى ما تبقى في نفسك من صدق ونبل وحنان وإني لا بصر وأنا أهتك سرك - بموسيه مجهول ربما كان هو موسيه الحقيقي!
موسيه - (في تأثر بالغ) مساء الخير يا راشيل!
(يقبل يد الممثلة ثم ينحني طويلا أمام لور التي تكتفي بكلمة تعبر له عن شدة تأثرها واغتباطها برفضه قضاء السهرة في مرح)
شكرا
(يخرج موسيه)
راشيل - (للوصيفة) على بمعطفي!
(تخف إلى لور التي تابعت الشاعر بعيونها وتقول)
أما أنت يا صغيرتي لور فصدقيني: لك أن تفاخري بهذا الحب!
(ثم لنفسها في أسى مرير)
لم يناجني موسيه قط بمثل هذه النجوى القدسية!
- ستار -
(النقد
قصة خسرو وشيرين
والشعر المرسل
بقلم احمد حسن الزيات ألقي إلينا في البريد رواية شعرية في خمسة فصول، بعنوان (قصة خسرو وشيرين) لا تحمل اسم ناظمها، ولا عنوان طابعها، ولا تتسم بشيء من السمات الدالة على الشخصية، فكأنها الوليد البريء جاء لِغِيَّة فألقى على مدرجة الطريق، متروكا لرحمة القدر أو قسوته.
الرواية جليلة الموضوع، نبيلة المغزى، جميلة النسج، ينم سياقها وحوارها على قلم مدرب، وفكر ناضج، وثقافة عالية، فلا يمكن أن يكون المؤلف قد أرسلها غفلا، فرارا من تعقب الدين أو القانون أو الأدب أو الفن، إنما علة هذا التخفي على ما يظهر من المقدمة تمكين الناقدين من الرأي الحر والحكم الصريح في قضية الشعر المرسل.
فان المؤلف كما تدل المشابهة القوية بين ما نشر من هذا الشعر في (الرسالة) وبين ما جاء منه في هذه الرواية، زعيم القائلين به والقائلين فيه، فهو بذلك يضع المثل أمام القراء والشعراء ليقطع حبل الجدل، ويخرج من النظر إلى العمل، ويجعل الدفاع عن هذا المذهب لقوة الحياة فيه، ومبلغ الفائدة منه.
أضف إلى ذلك إن المؤلف يدرك نبو هذا الشعر في ذوق الجمهور فهو يريد أن يوسع له في مجال القول، ولا يجعل لاعتراضه أو امتعاضه حدا من الصداقة أو المجاملة. قال الأستاذ في المقدمة:
- (أرجوك العفو أيها القارئ عما يمكن ان تتحمله في قراءة هذا الـ. . . (ماذا أسمي هذا؟ أظن خير تسمية ان أسميه المطبوع). وأنك إن قرأت منه كلمة واحدة أو سطراً واحداً ثم رميته كارها كنت عندي معذوراً، فهذا ما توقعته، ولا عجب في الأمر إذا كان متوقعاً ولست عندي معذوراً فحسب، بل انك جدير بشكري، إذ أنك قرأت منه شيئاً في حين أن كثيراً من الناس إذا وقع لهم مثل هذا المطبوع لا يقرأون منه حرفاً بل يقلبون صفحاته تقليباً سريعاً، ثم يرمون به إلى أقرب موضع، ولكنهم مع ذلك لا يترددون في ان يبدوا رأياً في عيوبه أو محاسنه إن تكرموا. وأما إذا أنت صبرت أيها القارئ فقرأت سطرين أو ثلاثة من هذا المطبوع، ثم قذفت به حيث أردت لم تكن في ذلك بالمعذور، بل كنت متفضلا مضحياً من أجل مجاملتي مع أنك لا تعرف من أنا، وفي هذا أدب عظيم وكرم مطبوع، وأما إذا كنت قد بلغت من قوة ضبط النفس ورياضتها على المكاره بحيث استطعت ان تثبت على القراءة حتى أتيت إلى آخر كلمة، ثم تركت لنفسك العنان بعد طول كبحها وحبسها فانطلقت تصخب وتشتم وتنادي بالويل والثبور - إذا فعلت ذلك كنت في نظري بطلا من أبطال العزيمة وقوة الاحتمال. على أنك لو فعلت ذلك لم يمسسني منك أذى وان بلغت في ثورتك مبلغاً مخيفاً، لأني قد توقعت مثل ذلك فأخفيت نفسي حتى لا تتحرج فيما تفعل، فلعلي إذا أظهرت لك شخصي بدوت لك صديقاً أو ممن يمتون إليك بسبب فتجاملني أو تكظم غيظك عليّ، فيكون في ذلك أذى لك لا أرضاه. فافعل ما بدا لك أيها القارئ. ولا تتورع فان أحجارك أو سهامك لن تصل إليّ).
ذلك ما بدأ به المؤلف الفاضل مقدمة الرواية، ومن وراء سطوره كما ترى إغراء بالقراءة. وتحريض على النقد. وعتاب ساخر لمن يقول في الشيء بغير علم. ويحكم عليه من غير خبرة.
فإذا علمت بعد هذا انه لم يعرض روايته في السوق، وإنما أهدى ما طبع منها إلى الأصدقاء والأدباء ازددت يقيناً بأنه لا يريد غير محاكمة المذهب، وسواء بعدها أكنت له أم عليه.
على ذلك نصارح الأستاذ برأينا في الشعر المرسل، ونحن أشد ما نكون اطمئناناً إلى رضاه، ووثوقا بحسن ظنه.
لقد قرأت الرواية وحاولت أن أوفق بين شعرها المرسل وذوقي المقيد فلم أفلح. فالأبيات تطربني بأجزائها المتسقة، وألفاظها المختارة ومعانيها السامية. ولكن أواخرها النواشز تتناكر مع الطبع والسمع فتذهب بحلاوة سياقها وعذوبة موسيقاها. اقرأ معي قوله في الفصل الأول ص14
شيرين:
جئت حينا هنا، فألفيت أرضا ... غير ما اعتدت إذ تكون بجنبي
كان لون الزهر غير بهيج ... وخرير الماء غير جميل
وقوله في الفصل الثاني على لسان خسرو ص41
خسرو:
لا أرى في الأنام أحرى بسخر ... من معنى بكاذبات الأماني
من يكن همه التماسا لرزق ... لم يجد في طلابه أسقاما قد يهيم الفقير بين الفيافي ... في التماس الاحطاب والأعشاب
فإذا فاز بعد جهد جهيد ... برغيفين لم يعكره هم
غير أن الذي يحاول مجداً ... يدع النوم والسلام ويأبى
ثغرة الابتسام حتى إذا ما ... طالعته المنى رآها سرابا
وقوله في أول الفصل الخامس على لسان جنديين يهيئان مجلساً في بهو القلعة لخسروا السجين ص103
الأول: إن في الفقر سلوة يا صديقي.
الثاني: فتمتع به وحيداً هنيئاً إنني لا أراه إلا عذاباً.
الأول: قد أمنا في الفقر غدر الليالي.
الثاني:
هل ترى تلك نعمة ان أمنا ... إذ بلغنا الحضيض؟ أي أمان!
الأول:
ليس في الفقر لو علمنا شقاء ... أنا إن جعت كان حسبي رغيف،
وإذا ما تعبت نمت عميقا ... لا أبالي إذا تعريت صيفا
وشتائي لباسه جلد شاة
الثاني:
لا تبالي إذ كنت فرداً وحيداً ... ليس يبكي الأطفال حولك جوعا
كن كما شئت، عش فقيراً، فإني ... حانق حاقد على إملاقي
الأول:
يا صديقي أكنت ترضى بعز ... ثم تهوى إلى قرار سحيق؟
سل عن المجد والعزازة كسرى، ... بعد أن ذاق ذلة المأسور
الثاني:
ان قلبي يسيل هما إذا يا ... من كسرى يختال في الأسر كبرا.
الأول:
حسبه شقوة إذا كان قوم ... مثلنا يرحمونه في شقائه. . .
يا صديقي لا تغتر بلباس ... للامع قد يكون ستراً لبؤس.
ماذا تجد في حسك من هذا الشعر؟ ألا تجد في ذوقك المطبوع على نغم القوافي العربية نفوراً من هذه الفواصل المتدابرة؟ لقد كان هذا النشوز يخف لو راعى الأستاذ الشاعر اتحاد الأصوات في أواخر الأبيات كقوله مثلاً على لسان سرجيس:
قد علمنا أن الحياة غرور ... ثم لا نستطيع غير الغرور
جعل الله في النفوس نزوعا ... لاضطراب الحياة رغم العقول
فان بين الغرور والعقول مزاوجة تلطف من وقعمها على الذوق الحساس والعادةالموروثة: ولكن أين هذا وذاك من قوله في ختام الفصل الخامس على لسان شيرين (ص129)
أيها الذاهب الشهيد بنفسي ... ما أصابتك من جروح دوامي
قد أسالوا الدم الزكي. وأني ... تنفع المدنف الدموع الهوامي؟
ذهب اليوم صاحب وحبيب ... كان من هذه الحياة نصيبي
فجعوني به، فكيف حياتي ... بعد أن غاب عن حياتي حبيبي
شيرويه (يرى شيرين فيظهر التألم)
وا أبي! صرعة العظيم قضاء ... عرفته النجوم منذ القديم.
قد أراد القضاء ما كنت أخشى، ... ما احتيالي في الكائن المحتوم؟
شيرين: (لشيرويه)
أنا أبكي والدمع حسبي، فمالي ... حيلة في المصاب غير دموعي
ليس لي الصولجان والسيف حتى ... أندب الملك بانتقام وجيع.
شيرين:
دع لمثلي الدموع، فهي دوائي ... من شجون لواعج وكلوم
فجعوني بصبيتي تحت عيني، ... وأسالوا دماء قلب سقيم
ثم ضحوا بصاحبي وحبيبي، ... وا فؤاداه للصريع الكريم!
أسعفي يا دموع قلبي حتى ... أجد الطب في الهلاك الرحيم
ففي هذه الأبيات اشتد التأثير في الموقف، وقوى الشعور في الأشخاص، فغلبت القافية إرادة الشاعر، وجاء المنظر الختامي حجة عليه ونقضاً لما عاناه من ترويض الآذان على الشعر المرسل
إنما يتميز الشعر من سائر ضروب الكلام بخصائص ثلاث: موسيقية شديدة الحساسية، وصعوبة عسيرة التذليل، وقدرة على تثبيت الفكرة بلفظها في الذاكرة. فالشعر المرسل يستطيع أن يدرك شيئاً من الموسيقى إذا زاوج الشاعر بين أواخر الأبيات، واستفاد من الحرية التي أعطيها، فتخير الألفاظ، وعدل الأقسام، وألف الألوان، وحرك المعاني، ونوع الصور، وأخشى بعد ذلك كله ألا يرتفع عن النثر البليغ المحكم. ولكن الصعوبة التي تلقى الشاعر في كل بيت عند القافية فيسلط عليها ذهنه وفنه وذوقه ولغته حتى يفجأ أذنك - وهي تنتظر في غير صبر - بتلك الحيلة الفنية، واللفتة الذهنية، والكلمة الصادقة الموسيقية، لا تجدها في غير الشعر المقفى
كذلك يعجز الشعر المرسل عن أن يهيئ للذاكرة في التمثيل - على الأخص - ما تهيئه لها القافية من (نقط الارتكاز) وعلائم الطريق حتى لا تجور ولا تضل.
على أن تسهيل الشعر بإلغاء القافية يخمد الذهن ويجدب القريحة، لان الصعوبة ترهف الفكر فيدق احساسه، وتوقظ العقل فيزيد انتاجه، وتبعث الفن فيحيا بين الهام الشاعر وإعجاب القارئ
والواقع أن القافية لم يشكها شاعر مطبوع ولا ناظم مطلع، فان الطبيعة الغنائية للشعر العربي من جهة، ووفرة الثروة اللفظية للشاعر من جهة أخرى، تجعلان القافية من أخص لوازم الشعر واسهل ضروبه. ولك في الأراجيز القديمة، والموشحات الحديثة، وسائر ما استحدث المولدون من الأنواع القائمة على موسيقى القافية دليل ناهض على ما نقول.
فإذا وقع شاعر اليوم في رهق من بناء القافية لقلة محصوله من اللغة، أو لمعالجته التمثيل والقصص الطويل، كان له في تنويعها مندوحة عن هذا النوع الذي تذبذب بين النظم والنثر، فوقف من الأذن موقف الغصة من الحلق، بذلك استطاع البستاني أن يترجم الإلياذة، وتسنى لشوقي أن يبدع في مآسيه.
هذه كلمة موجهة نفتتح بها المعركة الأخيرة بين الشعر المقفى والشعر المرسل، فان رواية (خسرو وشيرين) مع ملاحظة التحفظ في عرضها، جاءت بعد المقالات التي نشرت بالرسالة أشبه برواية (هرناني) حين كتبها (هوجو) على المذهب (الرومانتيكي) بعد أن دعا إليه في مقدمة (كرومويل) وفاتحة (الشرقيات) فجعلها هو وأنصاره المعركة الفاصلة بين هذا المذهب والمذهب (الكلاسيكي).
أما الحديث عن موضوع الرواية، وتصوير أشخاصها، وعرض مواقفها، وتسلسل حوادثها، وتدرج العمل فيها، فله فرصة أخرى نرجو أن تحين.