مجلة الرسالة/العدد 37/الابتكار في الأدب
→ من صور الحياة في دمشق | مجلة الرسالة - العدد 37 الابتكار في الأدب [[مؤلف:|]] |
حنين المهد إلى الطفولة ← |
بتاريخ: 19 - 03 - 1934 |
يرى بعض أدباء الغرب أن للمصور المجيد، والشاعر المبدع والموسيقى الماهر موهبة عجيبة تعرف بالعبقرية، تعمل مستقلة عن الزمان والمكان، وأن كل ما يحتاجه الفنان الموهوب إنما هو الإلهام مع قليل من الإقدام، فألق به كما يقولون في جوف المحيط أو في وسط الصحراء ودعه يتجه نحو الفن فسيعاون الإلهام عبقريته على إنتاج الجيد وإبراز المعجز من الفن والأدب.
ولكن الحقيقة أقسى من وهمهم هذا، فالواقع أنه ليس هناك فنان يعمل مستقلاً عن الزمان والمكان. ولو أخذنا طائفة من الكتب الأدبية الرائعة في أي عصر من العصور، وقرأناها مع إلمام تام بالكتب التي سبقتها مباشرة لحكمنا مضطرين بأنه لا يوجد كاتب - مهما علا قدره - يتهيأ له وجود مستقل عن حدود زمانه ومكانه الضيقين، إذ الكتاب ما هم إلا أجسام مختلفة تسكنها روح واحدة هي روح العصر الذي يعيشون فيه كما يقول البحاثة الإنجليزي بتركونل وكذلك الحال في الموسيقى والتصوير.
وحقاً إن الكاتب الكبير قد يطبع العصر الذي يعيش فيه بطابعه الشخصي وينحو بجمهرة المتأدبين نحواً لم يعهد قبله، وحينئذ يلقبه معاصروه بالمجدد أو الثائر، ولكنه على ذلك يساير التيار الزمني ويتأثر ببيئته إلى حد كبير. وقد اعتاد مؤرخو الأدب الإنكليزي تقسيمه إلى عصور حسب الشخصيات البارزة في كل عصر ملاحظين هذه الحقيقة المقدمة. فهناك عصر شوسر، وعصر شكسبير، وعصر ميلنون، وعصر دريدن، وعصر بوب، وعصر جونسون، وعصر وردزورث، وعصر تينسون. وكلها شخصيات متفوقة تزعمت الأدب في عصورها وسلكت به مسالك مختلفة. ولكنا نراهم كثيراً ما يتأخرون بالعصر عن صاحبه ويدخلون فيه بعض مشاهير الأقربين ممن سبقوه ملاحظين تأثره بهم وتأثيرهم فيه، وتمثيل الجميع لأزمنة متشابهة. وكأنهم بهذا يقررون أن الابتكار الأدبي بمعناه الصحيح لا يتيسر لأي أديب.
وبعد هذا، له العظمة الأدبية تساوي الجدة الأدبية؟
الإجابة عن هذا الاستيضاح تدعو إلى التفكير وإنعام النظر. . . فقد اعتاد جل نقاد العربية أنهم إذا أرادوا بحث أثر أدبي أخذوا ينظرون إلى ما فيه من الأفكار والأخيلة: الجديدة هي فيذكر صاحبها بالفضل؟ أم سبقه بها غيره فيرمى بأنه دعى؟ وليس من فضل - عندهم - للكاتب الذي يتعرض لما يتعرض له غيره ولو في إيراد مغاير ومن ناحية مباينة. وقديماً عدوا سرقات المتنبي. وفي العام الماضي ثاروا على الأستاذ المازني لأن فكرته في رواية له وافقت بعض الشيء فكرة رواية لمؤلف غربي.
والحق انهم مخطئون في هذا أو مسرفون، وأنه إن لم يكن بد من الحكم حسب الجدة، فعليهم أن ينظروا إلى أسلوب الأداء نفساً أهو جديد أم مستعار. فان كان جديد ألا يحرم صاحبه من فخر الإبداع الأدبي بل يجب أن يعترفوا له بالتفوق على صاحب الفكرة نفسا إذا صاغها صياغة أدق من صياغة سابقة وأكمل، لأنه حينئذ يكون قد أتى بما عجز عنه الأول. ولعل هذا الذي كان بعض المتقدمين يعنيه بقوله: إن المعاني معلومة للجميع وإنما المعول على النظم. هذا هو المقياس المستقيم وبه قدر المنصفون من النقاد الإنجليز حينما حكموا بأفضلية وصف العنكبوتة لبوب على وصفها لدريدن، وإن كان الأول مديناً بالفكرة التي قام عليها الوصف للثاني.
ومن الأمثلة القوية التي يصح الاستشهاد بها في هذا الموضوع شكسبير أعظم الشعراء السكسونيين، والذي لكتابته المنزلة التالية لمنزلة الكتاب المقدس في الأدب الإنجليزي. ولست أستشهد برواياته التاريخية يوليوس قيصر، وانطونيو وكيلوباتره، وكور يولينوس التي استعار أصولها بل بعض أخيلتها مما كتبه المؤرخ الشهير فلوطرخ وإنما أورد رواية أخرى لا تمت للتاريخ بنسب، وتعد من رواياته القيمة التي ألفها في عهد نضوجه الأدبي وهي رواية الليلة الثانية عشرة فقد أخذ حوادثها كلها عن رواية إيطالية، ومع ذلك لم يقل أحد إن شكسبيير لم يكن مبدعاً في هذه الرواية أو أنها ليست من مفاخرة الأدبية.
ومن المفيد أن نذكر خلاصة كل من الروايتين حتى يتبين القارئ مدى الاستعارة. فملخص الرواية الإيطالية وقد ألفت سنة ألف وخمسمائة وسبع وثلاثين أي قبل تأليف رواية شكسبير بنحو سبعين سنة واسمها جلينجاناتي ' , هو ما يأتي: فابرييتو وليليا. أخ وأخت فرقت بينهما ثورة روما في سنة 1527 دفت المقادير بليليا إلى مودينا مقر فلامينيو الذي كان بينه وبينها علاقة غرام سابقة فتنكرت في زي شاب ودخلت في خدمته فوجدت أنه نسى حبها وتعلق بسيدة من أشراف مدينته تدعى إيزابلا. ليليا كشاب جذاب كانت تحمل رسائل الغرام من سيدها فلامينيو إلى إيزابلا. إيزابلا لم تتأثر بتوسلات فلامينيو ولكنها أحبت ليليا - وهي رجل في اعتقادها - حباً عميقاً. فابرييتو يصل إلى مودينا ولأمر ما يلقى إيزابلا فتتم بين الاثنين مراسيم الزواج وهو في اعتقادها ليليا شقيقته. تظهر الحقيقة بعد هذا فينتقل حب إيزابلا في سهولة من ليليا إلى شقيقها ويتزوج فلامينيو من حبيبته الأولى ليليا.
وخلاصة رواية شكسبير ما يأتي: الدوق أورسينو يقيم بايليريا، وقد وقع من وقت طويل في حبال غرام نبيلة من نبلاء مدينته تدعى أوليفيا. أوليفيا لا تبادله الحب بل تنتهز فرصة موت شقيقها، وتعلن أنها سوف لا تسمح لأي خطيب بالاقتراب منها وأنها ستمكث في حداد على أخيها سبع سنين. وهنا نرى فيولا توأم شاب من نبلاء ميسالين يدعى سيبستيان، ظن أنه توفى أثناء عاصفة هبت على سفينة كان هو واخته من بين راكبيها، ونجت فيولا بفضل ربانها على الشاطئ المقابل لايليريا، ولما علمت فيولا بأمر أورسينو وكانت تحبه لما تسمعه عنه، فكرت في العمل عنده كأمين، وتنكرت في زي أخيها وقدمها إلى قصر الدوق أحد رجال حاشيته. اطمأن الدوق إليها وأطلعها على حبه أوليفيا واستخدمها في استعطافها، وعندما تراها أوليفيا لأول مرة تفتن بها وتطلب إليها أن تزورها ثانية بحجة أخبارها بسبب رفض طلب اورسينو، وفي المقابلة الثانية تصدم أوليفيا ببرود فيولا التي أظهرت لها أوله غرامها به. فيولا وهي غير قادرة على كشف سرها لأوليفيا تتركها معلنة أنها سوف لا ترجوها في أمر سيدها ثانية. وبعد وقت قصير يأتي سيباستيان الذي يشبه أخته مشابهة تامة حتى أنه لا يميز بينهما إذا ما تشابه لباسهما فتدفعه الحوادث إلى منزل أوليفيا ويتم بينهما عقد الزواج ثم يكشف السر فلا ترى أوليفيا بأساً من استمرار العقد ويتزوج أورسينو فيولا التي كانت تحبه حباً جماً
نعم قد استعار شكسبير حوادث روايته من تلك الرواية السابقة على النحو الذي رأينا، ولكنه صاغها صياغة أخرى وخلقها خلقاً جديداً فأفاض عليها من قريحته الخصبة وخياله الواسع أفكاراً وصوراً كسبتها بهاء وجلالا حرمتهما الرواية الإيطالية - فهي على استعارة حوادثها جديدة قوية لأنها في أسلوب جديد وهو أسلوب شكسبير القوي الذي امتاز به من غيره. فليس للنقاد أن يطلبوا من الأديب أن يكون أول عابر للسبل التي يسلكها، أو أصيلا في الموضوعات التي يطرقها، أو مبداعاً للحوادث التي يدور حولها، وإلا كان طلبهم من ناحية أخرى أن يمعن في الاطلاع على الآداب الماضية، وتفهمها عديم الغناء القليل النفع، ومن غير المعقول أن يكون الأدب الحديث غير قائم على الآداب الماضية؛ كما انه من غير المعقول أن تكون المدنية الحديثة غير قائمة على المدنيات السابقة. اللهم إذا كان أدباً متأخراً لا يمثل العصر الذي قيل فيه.
والذي يؤاخذ به من يريد الاشتغال بالأدب أشد المؤاخذة هو ألا يكون مبتكراً في أسلوبه، أو بعبارة أخرى أن يكون أسلوبه مرقعاً من أساليب أدباء آخرين يحتذيهم وينحو منحاهم، ويا ليته يبلغهم. . . هذا لا سواه هو الادعاء الأدبي. فلا فرق بين الأديب المحسوب على الأدب بالنسبة إلى مأثور القول، إلا أن الأوليخضعه لطبيعته ويتصرف فيه حسب مزاجه الخاص. أما الثاني فيضعف أمامه أو تضعف طبيعته - ضعفه أمام المعبود المقدس فلا يستطيع أن يتناوله بتبديل أو تحوير
وعمل الأديب الحق يشبه تماماً عمل النحلة التي تحيل بطبيعتها الحلوة ما تمتصه من مختلف الأزهار إلى عسل مصفى لا تتبين فيه الأصول التي أخذ منها.
السيد محمد نوفل