الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 368/الحرب في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 368/الحرب في أسبوع

بتاريخ: 22 - 07 - 1940


للأستاذ فوزي الشتوي

المؤامرة

يرى كثير من الناس أن الصراع الحالي مؤامرة سياسية عسكرية نظمتها الدول الدكتاتورية بمهارة وإتقان منذ سنوات، ويرون أيضاً أنها تسير بخطوات متزنة، فلم يطرأ عليها حتى الآن خلل يستحق الذكر. أما رأس هذه المناورة فألمانيا، وأطرافها إيطاليا والروسيا واليابان وأسبانيا

ويستدلون على ذلك بتسلسل عدة حوادث أدت إلى انهيار فرنسا، وإذا صادفها النجاح إلى النهاية فقد تؤدي إلى انهيار إنجلترا أيضاً. فقد وضعت فرنسا سياستها عقب الحرب الكبرى على تطويق ألمانيا بالدول الصغيرة التي تعتمد على ولائها لفرنسا مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وبلجيكا

فعمدت ألمانيا من جانبها إلى تحطيم هذا النطاق، فنجحت رغم معارضة خططها لما كان معروفاً من قبل لخطط إيطاليا والروسيا؛ فكانت الأولى تحرص على استقلال النمسا، ومع ذلك سمحت لألمانيا باحتلالها؛ وكانت الثانية تشتهي من زمن طويل أن تحصل على مرافئ حرة على بحر الشمال، ومع ذلك سمحت لألمانيا باحتلال النرويج

وأخيراً، دخلت إيطاليا الحرب تنفيذاً لاتفاقات موسوليني وهتلر، عندما كانت فرنسا في النزع الأخير، وبعد ما أفادت ألمانيا بموقفها غير المحارب فائدة كبيرة

الفرص المناسبة

ومعنى هذا أن دول المؤامرة - في عرفهم - تنفذ الجزء الخاص بها عندما تتوفر ظروف خاصة، كما حدث مع إيطاليا التي يعتبرون دخولها الحرب بمثابة بدء الجزء الخاص بإنجلترا، وبمثابة عامل يمنعها من وقف القتال إذا أرادت عقب تسليم فرنسا؛ فلن ترضى بريطانيا مثلاً أن تتجاوز عن حقها في البحر الأبيض وهو طريقها الطبيعي إلى إمبراطوريتها إذا طالبت إيطاليا ببعض هذه الحقوق، وهذا ما كان منتظراً لو استكانت بريطانيا لأعدائه أما متى تدخل الدولة التالية ومن تكون فهذا أمر رهن الظروف، وإن كان بعضهم يرجح أن تكون أسبانيا، فلدول المحور فيها نفوذ كبير، بل إن حكومتها الحالية تدين لدولتي المحور بالبقاء. ولأسبانيا أهمية خاصة إذ يسهل من أراضيها سواء في أسبانيا أو في مراكش الأسبانية من كوتا ضرب جبل طارق، وإطلاق سراح الأسطول الإيطالي ليوالي أعماله في البحار، وينقل الجنود لمهاجمة إنجلترا. ولعل انتظار هذا الظرف هو السبب في هرب الأسطول الإيطالي من مواجهة الأسطول البريطاني

الصخرة

ويعتبر جبل طارق أقوى حصون العالم وأمنعها، فهو لسان دقيق من الصخور المرتفعة ينساب من الشاطئ الأوربي، ولا يتجاوز طوله ثلاثة أميال وعرضه ميلاً واحداً، وهو متصل بجنوب أسبانيا برقبة ضيقة من الأرض السهلة. وفي شمال الصخرة من جهة أسبانيا سهل يمتد ربع ميل به خطوط الدفاع البريطانية، ويليه الأرض المحايدة وهي رملية تمتد 1500 ياردة بطول الأرض وعرضها يختلف من 900 - 1800 ياردة، وفي نهايتها مدينة لالينيا الأسبانية

وترتفع الصخرة من الناحية الأسبانية عمودياً، ثم تتدرج إلى ناحية البحر، وارتفاع أقصى قممها 1400 قدم فوق سطح البحر. كان سطح الصخرة في أول الأمر مكوناً من الرمال والصخور في أوضاع غير منتظمة، ولكن أعمال الهندسة تناولته فبنت فيه طرقاً دائرية من الأسمنت المسلح يتجمع فها ماء الأمطار وينساب إلى أحواض عظيمة لحفظه. وبهذه الطريقة حلت معضلة ماء الشرب، وأصبح خلو الصخرة من الأنهار أو الآبار أمراً لا أهمية له

واستغلت الصخرة نفسها فعملت فيها عدة أنفاق عسكرية يوصل أحدها بين البحر الأبيض والمحيط، كما جهزت بالمدافع والحصون والمخابئ. وشيد على الشاطئ الغربي للصخرة ميناء بديع يرجع عهده إلى القرن الثامن عشر، وله شهرة تاريخية يمجدها الإنجليز فهو أول ميناء رست فيها السفينة (فكتوري) وهي تحمل جثمان (نلسن) عقب موقعة الطرف الأغر التي دمر فيها الأسطول الفرنسي، ومنها أذيع النبأ في جميع أنحاء الإمبراطورية، ومساحة المنطقة المائية لهذا الميناء 440 فداناً مربعاً، وأطول أرصفتها 851 قدماً منذ قرنين

وبلغ عدد سكان جبل طارق سنة 1931: 21. 372 نسمة لا يحق لأحدهم امتلاك قطعة من أرضها، بل يعيش فيها الجميع بتصاريح خاصة من حاكم المنطقة، ويتضمن هذا العدد العسكريين منهم والمدنيين

بدأت سيطرة إنجلترا عليها سنة 1704، وحاولت فرنسا وإسبانيا نزعها منها، ولكن جميع الجهود التي بذلت لم تأت بأية نتيجة. ففي سنة 1779 حاصرتها الدولتان، وكان عدد الجنود البريطانية ثلاثة آلاف جندي يقابلهم 17 ألف جندي فرنسي وإسباني، واستمر الحصار ستة أشهر خسر فيها المهاجمان عشرة آلاف مقاتل مقابل 400 بريطاني، وتوالى عليها الحصار في هذه الحرب مدة ثلاث سنوات وسبعة شهور ولكنها ظلت أمنع حصون العالم

ولا نستطيع أن نتكهن من الآن عن المصير الذي تواجهه فقد صقلت الأسلحة الحديثة إلى حد بعيد، وأصبح من السهل قذفها بقنابل المدافع من كوتا في الساحل الأفريقي، فهي لا تبعد عنه إلا 12 ميلاً، كما يمكن ضربها من أسبانيا؛ فإذا حاولت دولتا المحور مهاجمتها فسنرى لجبل طارق تاريخاً جديداً، فقد جهزه الإنجليز بأحدث الأسلحة وأبعدها مرمى، واستعدوا لجميع الظروف من تخزين مؤن وذخائر مما يجعل اقتناصها أمراً بعيد التحقيق

ومنذ سنة 1783 لم تحاول أية دولة دخلت الحرب من إنجلترا أن تطمع في مهاجمة جبل طارق أو تنازع بريطانيا العظمى السيادة فيه. ولهذه الصخرة أهمية ممتازة وخصوصاً في الحرب الحالية. في مفتاح البحر الأبيض المتوسط، ويتحتم على كل سفينة تحاول دخول هذا البحر المرور في مياها الساحلية لضيق المسافة بين الشاطئين الأفريقي والأوربي. فإذا حاولت العصيان فإنها تتعرض لقنابل مدافع الصخرة المركزة في أماكن حصينة

حلقة الحصر

ويؤدي جبل طارق في هذه الحرب مهمتين:

الأولى: حبس الأسطول الإيطالي في حوض البحر الأبيض فيتعذر عليه الخروج إلى المحيط لعرقلة الملاحة البحرية، فإن رجال البحرية الإيطالية يعرفون مقدرة الأسطول البريطاني فلا يفكرون في الاشتباك معه في معركة بحرية، وظهر هذا التصرف واضحاً عندما التقى الأسطولان في البحر الأبيض فلجأ أسطول إيطاليا إلى الهرب

والثانية: حصر إيطاليا وتعطيل تجارتها فيستحيل على سفنها أن تنقل إليها المواد الخام أو الأغذية اللازمة لسكانها. ولجبل طارق ميزة أخرى أشرنا إليها في مقالنا السابق، فهو القاعدة التي تكمل حلقة الحصر البحري على ألمانيا، وبهذا أصبحت دولتا المحور محصورتين في حلقة مقفلة، فإن نشاط الأسطول الإيطالي محصور في غرب البحر الأبيض، أما في شرقه فلبريطانيا سيادة كاملة عليه. أضف إلى ذلك قنال السويس وهو يعزل إيطاليا عزلاً تاماً عن مستعمراتها في شرق أفريقيا

وبهذا الوضع يتيسر لبريطانيا السيطرة البحرية التامة على المحيط الأطلنطي، فلا توجد فيه أساطيل تنازعها سيادته بعدما أصيب الأسطول الألماني بخسائر فادحة في النرويج جعلته مشلول الحركة

فإذا انتقلنا إلى باقي أطرا المؤامرة وهي الروسيا واليابان فقد وضحنا في مقالاتنا السابقة أن الروسيا تتبع سياسة خاصة لا تهتم فيها إلا بتحقيق أغراضها، وإن هذه السياسة لا تلبث أن تفصم العلاقات التي بين هذه الدول، فضلاً عن عداوتها واصطدام مصالحها بمصالح اليابان في الشرق الأقصى

بين الروسيا واليابان

فالروسيا تعتبر الصين وآسيا من مناطق نفوذها، واليابان تعتبرهما من مناطق نفوذها، وهي التي أصدرت المبدأ القائل: (آسيا للأسيويين) فإذا تجاوزنا اختلافهما في المبادئ إذ الروسيا بلشفية تسعى لبلشفة العالم، واليابان ملكية وللإمبراطور فيها نفوذ الآلهة، وإذا اقتصر بحثنا على اصطدام مصالحهما تبين لنا أن اتفاقهما متعذر

فإذا قلنا إن ما حدث بين الروسيا وألمانيا يمكن أن يحدث بين الروسيا واليابان وجدنا أن القياس متعذر، فإن المناوشات لا تكاد تنقطع بين قوات الفريقين، فحدودهما متجاورة وبحارهما واحدة، بل إن بعض البحار التي في شمال الجزر اليابانية والتي تحيط الأملاك الروسية فيها مصالح رئيسية لليابان؛ فهي مورد رزق لعدد كبير من صيادي السمك اليابانيين، ومصدر صناعات كبيرة في اليابان، وفي هذه البحار يتقابل الفريقان ويتناوشان.

فهذا الاختلاف البارز في علاقات الدولتين يفسر لنا الجزع الذي بدأ في أوساطهما عند ما ظهرت مساعي إنجلترا للاتفاق معهما، فكل منهما تخشى الأخرى ولا تريد أن تقوي جبهتها بالانحياز إلى جانب قوي يستطيع أن يفض خلافاتها، ومن ثم يعتبر اشتراكهما في المؤامرة الدكتاتورية اشتراك المصلحة فحسب، فإذا تيسر لإنجلترا تحقيق هذه المصالح، وهو في استطاعتها بما لها من نفوذ في الشرق فلا يوجد ما يستدعي استمرار المؤامرة ولا سيما أن الروسيا واليابان تطمئنان إلى التوسع البريطاني أكثر مما تطمئنان إلى التوسع النازي، فقد خبرا الأول وعرفا ميوله ووسائله، ولكن الثاني مجهول. وإن رجحت فيه كفة الخيانة والغدر، فالاتفاق مع إنجلترا خير من الاتفاق مع ألمانيا، لأنه اتفاق مأمون العاقبة

السياسة تعمل

أما كيف يتم هذا الاتفاق وعلى حساب أية دولة فهذا أمر ليس في استطاعة الباحث أن يجيب عليه، فقد دخلت الحرب الآن في فترة تعمل فيها السياسة والمعاهدات أكثر مما تفعل القوة العسكرية. فالحرب الآن حرب حياة أو موت تكثر فيها المقامرات، وتكثر فيها المعاهدات السرية الوقتية التي تعمل المعجزات

فمعنى أن إنجلترا تسعى لفض منازعات اليابان مع الصين أنها رأت في سكون هذا النضال مصلحة تريد استغلالها، فساستها ليسوا من الغفلة بحيث يفضون مشاكل اليابان في الصين إذا اعرفوا أن اشتراكها في مؤامرة ألمانيا وإيطاليا ما زال معقول التنفيذ

وتعرف إنجلترا ما بين الروسيا واليابان، فتلويحها بالاتفاق مع إحداهما إضعاف للمؤامرة النازية، وإنذار للأخرى، ولا سيما لما بينها وبين أمريكا من اتفاق على إنقاذ العالم من شرور النازية وأطماعها، وخصوصاً لما بين اليابان وأمريكا من اختلافات قد تؤدي إلى الحرب بينهما

واتفاق الحلفاء مع الروسيا مع ملاحظة سياستها الحالية التي تسعى إلى الحصول على أغراضها كلما سنحت الفرصة سواء كانت هذه الأغراض ضمن الاتفاق أو خارجة عنه كما شاهدنا في تصرفاتها مع ألمانيا - اتفاق لا يطمئن إليه الحلفاء. فللروسيا أطماع كبيرة في تركيا، فسياستها في جميع مراحل الحكم من قيصري وشيوعي كانت مبنية على الاستيلاء على مداخل البحر الأسود في البسفور والدردنيل، فإنه يلاحظ إذا نظرنا إلى خريطتها أنه رغم الرقعة الواسعة التي تشغلها في القارتين الأسيوية والأوربية، يلاحظ أن منافذها البحرية الهامة محصورة وتحت تصرف غيرها من الدول، أو معطلة في جزء من السنة

الروسيا تنتظر

فموانيها في بحر البلطيق تقفل أثناء الشتاء بفعل تجمد الماء، وكذلك موانيها في البحر الأبيض الشمالي بعيدة قليلة الأهمية. ويلاحظ في موانيها في البحر الأسود أن منفذها إلى البحار الواسعة تحت سيطرة تركيا، فهي تسعى للاستيلاء على البسفور والدردنيل ليكون منفذها إلى البحر الأبيض المتوسط حراً، ولتأمن الاعتداء على سواحلها في البحر الأسود من اعتداء أساطيل الدول البحرية، فإنها إذا سيطرت على هذين الجزأين أصبحت سيدة البحر الأسود وهددت البحر الأبيض المتوسط

ومن يتتبع سياسة الروسيا يشاهد أنها توفر قواتها إلى وقت تستطيع فيه استغلالها في ظروف أكثر ملاءمة، فقد احتلت نصيبها من بولندا ورومانيا دون أن تبذل أي مجهود حربي يؤثر على الجيش السوفياتي

فهي في الغالب تنتظر أن تنهك الدول المحاربة ثم تبدأ بنشر الدعوة البلشفية بين الأمم، مستندة إلى قوة الحديد والنار، ولعل هذا مما يدعو الدول الأخرى إلى التفكير في ذلك المصير إذ يهدد الخطر الشيوعي الدول المنتصرة والمنهزمة، ولا شك أن ساسة الدول فكروا في هذا المصير طويلاً وقدروا له العلاج اللازم

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة