مجلة الرسالة/العدد 367/في ظلال الذكريات
→ لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا | مجلة الرسالة - العدد 367 في ظلال الذكريات [[مؤلف:|]] |
البلهبذ ← |
بتاريخ: 15 - 07 - 1940 |
أحمد الله إليك!
للدكتور زكي مبارك
في شهر يولية سنة 1928 تلقيت وأنا في باريس خطاباً من الأستاذ الدكتور طه حسين بك جاءت فيه عبارة: (أحمد الله إليك)؛ فالتفت ذهني إلى هذه العبارة، لأنها لم تكن من العبارات المألوفة في رسائله إليَّ، وقلت لنفسي: من أين وصل هذا التعبير إلى الدكتور طه حسين وهو في هذه الأيام يعيش في جيرار يير؟
وصح عندي بعد التأمل أن الدكتور طه قد يكن مشغولاً بمراجعات متصلة بالسيرة النبوية، لأن عبارة (أحمد الله إليك) تكثر في الرسائل المأثورة عن عصر النبوة وعصر الخلفاء
وبعد أعوام أخرج الدكتور طه كتابه (على هامش السيرة) وتفضل فأهداني نسخة ممهورة بعبارة كريمة من عبارات الإهداء، وكنت حينئذ أحرر الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ، فرأيت أن أتحدث عنه إلى قرائي بعناية تحملهم على اقتناء ذلك الكتاب، تحقيقاً للتضامن بين المؤلفين
فماذا قلت؟ قلت: إن الدكتور طه يجيد أعظم الإجادة حين يتروى في التأليف، وكتابه الجديد أثرٌ من آثاره الجيدة في تروّيه، فهو مشغول بموضوعه منذ سنة 1928، وإن لم يقل ذلك، فقد كتب إليَّ خطاباً في شهر يولية من تلك السنة يقول فيه: (أحمد الله إليك)، وقد فهمت من هذه العبارة أنه كان مشغولاً بدراسات متصلة بالسيرة النبوية، وكذلك عرفت أن الظن قد يبلغ درجة اليقين، وقد يقوم مقام المعاينة عند صدق الإحساس
فكيف استقبل الدكتور طه هذا التقريظ الطريف؟
مضى يقول: هذا اختراع جديد من اختراعات زكي مبارك في الأسمار والأحاديث، فليس من المعقول أن أكتب إليه خطاباً أقول فيه (أحمد الله إليك)، وهي ليست من عبارات هذا الجيل!
ولقيني بعد ذلك، فجدد استغرابه من العبارة التي نسبتها إليه؛ فقلت: إنها حق؛ فقال: إنها من المستحيلات!
ومضيت أبحث عن ذلك الخطاب، فلم أهتد إليه، لأن الدنيا كانت أسرفت في اللجاجة واللدَد، فنقلتني من أحوال إلى أحوال، وبعثرَتْ ما كنت أحرص عليه من رسائل الأهل والأصدقاء، وعَدَتْ على مكتبتي بالقلب والإعلال، فلم يبق أمل في الوصول إلى نص الخطاب المنشود
ثم أخذت أتحدث في مقالاتي ومؤلفاتي عن أشياء وقعت بيني وبين الدكتور طه حسين، فكان إذا سئل عن بعض تلك الأشياء أجاب بأنها اختراع من نوع (أحمد الله إليك)!!
ومنذ أيام مضيت لمقابلة سعادة الأستاذ الجليل الدكتور السنهوري بك وفي يدي نسخة مهدأة إليه من كتاب (الأسمار والأحاديث) فوجدت الدكتور طه بك هناك، وسألني السنهوري بك عن بعض أغراض الكتاب، فقلت: فيه أقوال فاه بها الدكتور طه ولم ينشرها، فنشرتها بالنيابة عنه على نحو ما كان يصنع أفلاطون مع سقراط!
واللطف الملحوظ في هذه العبارة لم يمنع الدكتور طه من أن يقول: لا بد أن تكون اختراعات من طراز (أحمد الله إليك)
وسألني السنهوري بك عن القصة فأجملتها في كلمات قصار فراراً من الدخول في جدل جديد مع الدكتور طه حسين، فقال وهو يبتسم: يجب أن يكون الخطاب صحيحاً ما دمت تحدثت عنه في البلاغ!
فقلت: وإن وجدت أصل الخطاب؟
فقال الدكتور طه: إن وجدته فسيكون بخطك؟
فقلت: وإن كان بخط (توفيق)؟
فقال: هذا مستحيل!
فقلت: وهل عندك مانع من أي تحمد الله إليَّ؟
فقال: أنا أحمد الله في كل وقت، ولكني لا أذكر أني حمدته إليك!
ثم انصرفت وقد اطمأن مَن حضروا هذا الحوار إلى أني أتزّيد على الناس حين أشاء
أين ذلك الخطاب؟ وأين أنا من سنة 1928 وقد شرَّقتُ وغربت، وانتقلت من دار إلى دار، وبعثرت أوراقي مئات المرات؟
أما تسمح المقادير بأن أصل إلى ذلك الخطاب ليعرف الدكتور طه حسين أني لم أتزيد عليه؟ إلى يا أوراقي، إليَّ، إلىَّ، فقد طالَ عهدكِ بالحجاب، واشتقتُ إليك أشد الاشتياق!
ورجعت إلى تلك الأوراق، الأوراق التي سبقت هجرتي إلى بغداد، رجعت إليها في حذر وخوف، لأنها تذكرني بعهود سيطول عليها بكائي إن فكرت في أيامها الطيبات
فماذا رأيت؟
رأيت ألوفاً من أطياف الشباب، الشباب الذي أبليته في الدرس بلا ترفق ولا استبقاء
ورأيت قصائد منسية كنت نظمتها أيام كنت أومن بأن الدنيا أهل لأن يعيش فيها الرجل وهو مُرهَف الحس خفاق الفؤاد
ورأيت رسائل مهجورة أملتْها قلوبٌ خوافق لا أعرف مصيرها اليوم، ولا أدري مكانها بين الحياة أو الموت
ورأيت مواعيد وفيتُ منها بما وفيت، وأخلفتُ منها ما أخلفت، يوم كانت الدنيا تسمح بأن أتخيَّر من المواعيد ما أشاء. ومن أخصب تخيَّر. فيا زمن الخصب أين أنت؟ وكيف ألقاك؟
ورأيت صوراً غالية كادت تُبليها الأنفاس والمدامع، لطول ما عانت من لوعتي وأساي، قبل أن يروضني الدهر على اصطناع الصبر الجميل:
وإن أَكُ عن ليلَى سلوتُ فإنما ... تسليتُ عن يأس ولم أسلُ عن صبر
ورأيت خطابات لا تستحق الحفظ، لأن أصحابها ضيعوا العهد، وأخلفوا الميعاد
وقد مزَّقتُ تلك الخطابات شر ممزَّق، ثم رجعت فجمعت أوصالها بترفق وتلطف، لأني تخيلتها جُثثاً هوامد لأرواح قتلها الغدر والجحود، ولا يباح التمثيل بجثث الأموات
ورأيت رسائل من هند، فعرفت أن بلائي بها قديم العهد، وكنت أحسب هواها أين أَمس!
ورأيت ما دلني على أن فلاناً كان ينزعج حين تخلو حياته من وجهي يوماً أو بعض يوم، وقد صار إلى ما صار إليه، فلا ألقاه إلا بعد استئذان
فيا فلان، كيف حالك، فلست أنت الذي أراه حين أستأذن في الدخول عليك، وإنما هو خيالك، خيال الصديق العزيز الذي كنت أعهد، وما هو خيالك؟ إنما هو الهيكل الذي أحتل روحك اللطيف بغير حق، فأين أنت يا صديقي لأقدم إليك تحية الوجد والشوق؟ أين أنت، فما تخيلتُ فجيعتي فيك إلا طار صوابي؟!
ورأيت عناوين محفوظة لأحباب أوفياء، فأين أولئك الأحباب لأكتب لأحدهم خطاباً أقول فيه: (أحمد الله إليك)؟
ومن يضمن بقاء تلك العناوين، وخرائطُ البلاد تُغَيَّر من يوم إلى يوم؟ وهل تسمح الدنيا مرة ثانية بأن تأخذ المواعيد في القطارات لعام أو عامين ثم تفي بتلك المواعيد كما كنا نصنع؟
هي دنيا قد تولتْ ... فعلى الدنيا السلامْ
إليّ يا أوراقي، إليّ، فقد بقيت مآرب يعزْ عليَّ أن تضيع
وما هذه الأشياء؟ ما هذه الأشياء؟ وبأي حق حفظتها في أصْوِنة الأوراق؟
هذهِ كسرات من آنية مصدوعة، فما تاريخ تلك الآنية؟
أسندتُ رأسي بيديّ وفكرت عساني أذكر ذلك التاريخ
ثم تذكرت بعد لأي أني كنت ذهبت إلى الهافر لأشهد الاحتفال بعيد (العنصرة) هنالك في سنة 1927 ونفدت نقودي فرجعت إلى باريس بدون أن أشتري شيئاً من طرائف ذلك الثغر الجميل
وسألتني ربة البيت الذي كنت أقيم فيه عن رحلتي إلى الهاقر فذكرتُ أني متوجع لأن النقود خانتني فلم أشتر شيئاً من طرائف تلك المدينة، فنظرت إليَّ ابنتها بطرف غضيض وهي تقول: سأعوِّض عليك ما ضاع منك، ثم أتحفتني بزهرية جميلة كانت اشترتها من هناك
وانصدعت الزهرية بعد أحايين فجمعت كِسراتها وضممتها إلى ما أحفظ من رسائل ذلك العهد، فهي اليوم روح من أرواح تلك الذكريات
فما أخبار صاحبة الزهرية؟ وكيف حال طرفها الغضيض؟
أفي الحق أن باريس عانت مخاوف الحرب وإطفاء الأنوار بالليل، ثم انتهتْ بها الخطوب إلى الاشتمال بأثواب الحِدَاد؟
متى نلتقي وفي جيبي كسرات تلك الزهرية التي عاشت بين أوراقي وهي مصونة في مدة زادت على أربعة عشر عاماً؟
متى نلتقي لتحدثني وأحدثها عما صنع الزمان بأحلامها وأحلامي؟ وهل أعرفها حين أراها أو تعرفني حين تراني بلا بشير بالتلاقي؟
عندي صورتها وعندها صورتي، ولكن أين نحن مما كنا عليه سنة 1927 وقد تبدلنا أحوالاً بأحوال؟ ومن ذا الذي لا يتغير، يا ربة الطف الغضيض؟!
أنا بخير وعافية، وإن صنع الدهر ما صنع، فكيف أنتِ؟ ومتى تعود ليالينا بمطالع الأقمار في باريس؟ ومتى نعود سيرتنا الأولى، سيرة الأطفال الذي يرضَون ويَغضبون في اللحظة الواحد عشر مرات؟
حدثيني منى أردّ إليك أصداع الزهرية ومعها أصداع قلبي، القلب الذي أخذ عنك درس الثقة بالقلوب، فلم يعرف بعدك غير الأسف على حُسن الثقة بالقلوب؟!
كنت نسيت أني أخذت الدرس عن طفلة، وكذلك يندم من يأخذ الدروس عن الأطفال!
ولكن أين خطاب الدكتور طه حسين؟ وأين عبارة (أحمد الله إليك)؟
إن أسفاري في البحث عن هذا الخطاب ستطول، وقد لا أصل إليه أبداً، وما قيمة التعلق بتاريخ قديم تنكَّر له عارفوه؟ وما الفائدة في رَجْع هذا الدكتور إلى حسابٍ تمتْ تصفيته منذ أعوام طوال؟ وهل أقدر على بعث الأموات من الذكريات؟ تلك معجزة صحّت لبعض الأنبياء ولن تعود، فليقل الدكتور طه إني افتريت عليه وليُسرف في اتهامي كيف شاء، فحسبي من الطمأنينة أن أعرف أني كنت من الصادقين
ولكن ما هذه الخريطة؟ ولأي سبب حفظتها في أوراقي؟
هي خريطة لمقبرة بير لاشيز في باريس
فكيف عرفتُ تلك المقبرة وكيف احتفظتُ بالخريطة فنقلتها من باريس إلى مصر الجديدة بلطف ورفق لأرجع إلى درس معالمها حين أريد؟
كنت في درس المسيو (تونلا) أستاذ الأدب الألماني بالسوربون، وكانت دروس هذا الرجل تستهويني كل الاستهواء، فقد كانت تنقلني إلى آفاق من الفكر لا أصل إلى مثلها في صحبة رجل سواه، وفي دروس هذا الرجل عرفت سيدة ألمانية لم تكن مع زوجها على وفاق، وكانت فيما حدثتني من شواعر برلين، وكانت ملامحها وشمائلها تشهد بأنها على صلة وثيقة بشياطين الشعر الجميل. ويظهر أن الزوجية قيدٌ لا يستريح إليه بعض هذا النوع من الجنس اللطيف.
ولم يكن للشاعرة بُدٌّ من رجل تشكو إليه جهالة زوجها الغبيّ البليد، فهدتها الفِراسة إلي أن أذنيّ أصلح الآذان للترحيب باغتياب الأغبياء والبُلَداء، وكذلك أخذتْ تصبّ في أذني شكايات هي أعذب وأخطر من صهباء الرُّضاب
كنت أعرف أن الغِيبة من الكبائر، وأن السامع شريك القائل في الإثم، ولكني نسيت الأدب مع الشرع، لأن تلك الكبيرة كانت تساق إلى أذني في لغة فرنسية ملحونة، وأنا أعبد اللحن في اللغة الفرنسية إذا صدر عن الألمانيات الملاح، وهل في الدنيا لغة أحلى وأعذب من لغة باريس حين تمضغها ظبية من برلين؟
واتفق في تلك الأيام أني كنت مشغول الفكر والقلب بدرس طوائف من الشعراء العشَّاق منهم ألفريد دي ميسَّيه، وقد كُتِب في تاريخ هواه عشراتٌ من المؤلفات الجياد، فحدثتني النفس بأن أحجّ إلى قبر ميسَّيه مع تلك الألمانية الحسناء، لأذوق حلاوة النجوى في رحاب ذلك (الشهيد)
وكذلك مضينا إلى مقبرة بير لاشيز في صباح يومٍ مَطير لا يَدفع غيومه الثقال غير ما في قلوبنا من صفاء
وأسرع البواب فقدَّم إلينا خريطة المقبرة بثلاثة فرنكات، ولم يكن بدٌّ من الاهتداء بالخريطة، لأن تلك المقبرة فيها ألوف من المقابر، ولن نصل إلى قبر ميسيه بغير دليل
وماذا تقول الخريطة؟
إنها لا تعيِّن غير أسماء العلماء والشعراء والكتاب والمجاهدين، وهي أسماء معدودات، فأين أسماء المجهولين والمنسيين بتلك المقبرة الفيحاء؟
أولئك أقوامٌ دفنوا همومهم في صدورهم فلم يتحدث عنهم شاعرٌ ولا كاتبٌ ولا خطيب
أولئك أقوام كانوا أحجاراً في بناء الوطنية الفرنسية، ولو كانوا من أصغر الطبقات، فكيف نسيهم الناس فلم يُحفظ لهم في الخريطة مكان؟
تلك حظوظ من يعملون وهم صامتون، وقد يكون فيهم من أدى لوطنه خدمة منسية، وقد يكون فيهم من حفظ العهد لإخوانه الناسين، وقد يكون فيهم من شرب من رحيق الوجود أكثر مما شرب كبار الشعراء
وما هي إلا لحظات حتى التفتتْ رفيقتي فرأت عينيّ مغرورقتين بالدمع، ورأتني لا أطيق الجواب من فرط الحزن والذهول
وصَوّبت الرفيقة بصرها إلى ما صوّبتُ إليه بصري فرأتني أحدِّق في لوحة رُقِمت هذه العبارة الصارخة:
فرنسا! تذكري!! -
وهي عبارة مسطورة فوق قبر رجل استشهد في الدفاع عن الألزاس أيام حرب السبعين
فقالت: وماذا يهمك من هذه العبارة؟
فأجبت: أشتهي أن أوجِّه مثل هذه العبارة إلى وطني
وكنت في صبيحة ذلك اليوم تلقيتُ من مصر خطاباً يشهد بأن وطني لا يحفظ الجميل؟ فما هو ذلك الخطاب؟
هو خطابٌ له تاريخ يضيق عنه هذا الحديث
وفي طريقنا إلى قبر ميسيه مررنا بقبر حوله أحواض من الأزهار، فأخذتْ رفيقتي تجمع الزهر الذي تساقط على الأرض. ونظرتُ فرأيتُ أحد الحراس يراقبها من بعد، ثم انقض كالصاعقة يسألها عما جَنَتْ يداها، فأجابت: هذه أزهار ذوابل أسقطتها العواصف. فانصرف الحارس وهو مُجلّل بالخجل والكسوف!
ثم وصلنا بعد لأْي إلى قبر ميسيه وبجانبه تمثال الشاعر وهو كهلٌ لا تنطق معارف وجهه بأنه كان حُلم الغانيات في باريس
أما شجرة الصفصاف التي أوصى الشاعر بأن تُغرس بجانب قبره فقد رأيتها في صُفرة الموت
ثم قضينا بقية اليوم في تدوين ما كُتِبَ فوق القبور لأقارنه وحين تسنح الفرص بما يُكتب فوق المقابر المصرية، وهو مقال لم أكتبه بعد، وقد كان في بالي حين زرت مقابر الكرخ ومقابر بغداد
والكاتب قد يُجيل فكره في الموضوع الواحد عدداً من السنين
أين خطاب الدكتور طه؟ أين؟ أين؟
ولكن ما الموجب للحرص على خطاب صديق لم تصحّ لي صداقته غير عشرة أعوام كانت أقصر من عشرة دقائق؟
وماذا يهمني من أن يعرف أني لم أتحدث عنه بغير الصدق ولم تبق لذكراه في قلبي غير أطلال؟ هذا الصديق يهمني جداً، لأنه لم يعرف بعد فراقي كيف يكون صدق الإخاء
هذا الصديق يهمني جداً، لأنني خلقت منه عدواً عظيماً، وأنا أتخيَّر أعدائي كما أتخيَّر أصدقائي. ولكن أين الخطاب؟
هذه أوراق وأوراق وأوراق. هذه مئات من الرسائل التي تشهد بأني كنت على صلات مع أرواح جاذبتُها زمناً أطراف المحبة والعتاب
رباه! متى تعود أيامي؟ متى تعود؟!
ثم تشاء الأقدار أن أجد الخطاب المنشود، وبخط (توفيق) الذي صار من أيام دكتوراً في الحقوق من الجامعة المصرية
تشاء الأقدار أن أجد الخطاب الذي يقول:
(أحمد الله إليك على ما أنت فيه من رضاً بالإقامة في باريس، وأتمنَّى لك المزيد من هذا الرضا، كما أتمنى أن تنتفع بأيامك فر فرنسا إلى أبعد حدّ ممكن، وتقبَّل من السيدة ومني تحية خالصاً وشكراً جميلاً)
وتاريخ الخطاب 26 يولية سنة 1928
وقد ابتسمتُ حين وجدت (تحية خالصاً) فهي غلطٌ من (توفيق) لا من الدكتور، إلا أن يكون لها وجه ضعيف!
ثم ماذا؟
ثم تشاء الأقدار أن أجد خطاباً للدكتور طه كتبه إليّ من الإسكندرية، وفيه يقول:
(صديقي العزيز الدكتور زكي مبارك
أنا مَدين لكٌ بشُكر كثير: فقد قرأت كتابيك وتسلمتُ السَّفرين اللذين تفضَّلت بإرسالهما إليّ. ولست أدري كيف أشكر لك عنايتك بفلسفة ابن خلدون، وأنا مقتنعٌ فيما بيني وبين نفسي بأنها لا تستحق هذه الغاية. ومع ذلك فسأشتري (المقطم) منذ اليوم لأقرأ ما تكتُب لأنك أنت الذي سيكتبه لا لأني أنا موضوعه. وكل ما أرجوه لك أن تصدر فيما تكتبه عن الحرية الصادقة القاسية، لا عن الإخاء والمودة اللذين يدفعان في كثير من الأحيان إلى شيء من الرفق لا يخلو من إثم. وأنا أعيذ أصدقائي من أن يتورطوا من أجلي في إثم الإسراف في البِرِّ، كما أكره أن يتورطوا في إثم العقوق. وقد كنت أحب أن يقف كتابي عند هذا الحد، ولكن الله يأبى إلا أن يضاعف دَيْني لك حتى يتجاوز قدرتي على الأداء، فأنا أريد أن تتكلف السعي إلى إدارة السياسة حيث تلقي صديقنا المرصفي وتطلب منه أصول الجزء الثاني من حديث الأربعاء فقد كلفته أن يجمعها لك، وأشكرك إن دفعتها إلى مصطفى أفندي محمد ليبدأ في طبعها. وأنا أرجو أن تكون بخير مطمئن النفس، وأن تكتب إلى في شيء من الإطالة والحرية، فإن كتبك وأحاديثك تقع في نفسي دائماً موقعاً حسناً. وليس لدي الآن ما يشغلني عن قراءة كتبك. فأنا أقضي من بقي من أيام الراحة في قراءة متفرقة لا نظام لها ولا نفع فيها، وأرجو أن أراك بخير حين أعود إلى القاهرة في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، إن شاء الله، وتقبل تحيتي الخالصة)
طه حسين
وتاريخ هذا الخطاب (2 أغسطس سنة 1925)
وفيه غلطة نحوية وقعت من (توفيق) لأنه أساء النقل عن الدكتور، كما كان يتفق له في بعض الأحيان
فإن قيل: وكيف أمكن بعد ذلك الوداد الوثيق أن تَفسُد العلائق بيني وبين الدكتور طه حسين، فإني أجيب بأن لله حكمه فيما وقع بيني وبين هذا الصديق
لم يكن لي بدٌّ من خصومة أتخذ منها فرصة لتوجيه الجمهور إلى الحقائق الأدبية، وكذلك خاصمتُ عدداً من رجال الأدب، كان أظهرهم الدكتور طه حسين
وأنا اليوم في حياد، أو غير محارب، وهما حالتان متقاربتان، فمتى أخلق خصومات جديدة أذكى بها نار الأدب من جديد؟
أنا حاضرٌ للخصومة، على شرط أن أجد خصماً في مثل مواهب الدكتور طه حسين، فما أرضى بمنازلة الشادين في الأدب من الذين لم يأخذوا زادهم الأدبي إلا من قراءة الهوامش بالجرائد والمجلات
يا دكتور طه
إن كنت أنكرت أن تحمد الله إليّ فخطابك تحت يدي أقدمه إليك حين تشاء، فإن لم تحمد الله إليَّ فأنا أحمد إليك!
وإن أذن الله بانقشاع ظلمات الحرب فستراني حيث تحب أو حيث تكره بأبحاث طوال عراض تعود على الأدب بأجزل النفع، وتملأ مسامع الزمان
والله يحفظك للخصم الذي يتمنى لك دوام العافية والتوفيق
زكي مبارك