مجلة الرسالة/العدد 366/رسالة الفن
→ صرخة روح | مجلة الرسالة - العدد 366 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 08 - 07 - 1940 |
تأملات:
ذات اليمين وذات الشمال
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أوى الفتية إلى الكهف
قالوا إنهم سبعة وثامنهم كلبهم
وقد لجئوا إلى الكهف هاربين من الدنيا يستعجلون الآخرة. والآخرة عندهم جميعاً نهاية نيرة يستطيع كل إنسان أن يصل إليها إذا سلك لها طريقها
ولما كانوا في المدينة بحثوا طويلاً عن هذه الطريق حتى أعياهم البحث، وكانوا يتفرقون ثم يجتمعون ويسأل بعضهم بعضاً هل اهتدى أحدهم إلى طريق النهاية النيرة؛ فما كانوا يجيبون وما كانوا يهتدون
وأخيراً قال قائل منهم: ما أظننا واجدين شيئاً ولو قضينا العمر كله هنا في هذا المكان المنحرف عن مسرى النور، وتحت هذه الجدران الجاثمة فوق الأرض بأثقالها والقاذفة الأرض بظلالها، ظلالها المظلمة المعتمة، التي لا يحب أهلها أن تشف، ولا أن تلطف. . . فتعالوا بنا إلى هذا الكهف الذي فوق هذا الجبل فإنه أكثر تصدياً للنور، وأبعد عن حلبة الصراع المخبول، ولعلنا هناك نهتدي إلى شيء. . .
فأوى الفتية إلى الكهف، وتبعهم الكلب
وكانوا وهم في الطريق إلى الجبل يسيرون جميعاً صامتين خاشعين مطرقي الرؤوس، شاهدين على أنفسهم بعجزهم وضعفهم، مؤملين أن يتاح لهم ما يرجونه حتى إذا ما رحلوا عن هذه الدنيا غادروها وهم أكبر مما كانوا يوم وردوها. . .
إلا أحدهم، فقد كان يضحك. فسألوه عما يضحكه فأشار إليهم ثم أشار إلى نفسه وظل يضحك، فتركوه يضحك
ولما انتهوا إلى الكهف قال قائلهم: نستطيع الآن أن نتفرق في أركان هذا الكهف وزواياه ومنافذه، ولنجتمع بعد يوم كامل لينبئ كل منا صحبه عما رأى. . .
فتفرقوا أفراداً، إلا أحدهم فقد اصطحب أحدهم
أما الكلب فقد جلس حيثما كان وبسط ذراعيه
وذلك الذي كان يضحك، ظل يضحك ولم يرض أن يتجه إلى ناحية ما يستقر فيها، وإنما أخذ يطوف بهم، فكلما رآهم واجمين زاد ضحكه، فإذا رآهم منبسطين تضاعف ضحكه، حتى الكلب لم ينج من ضحكاته، بل إنه هو نفسه لم ينج منها، فقد مر وهو في تلافيف الكهف بنبع نظر في مائه فرأى صورته فما استرسل إلا ضحكا. . .
حتى إذا جاء إلى الاثنين اللذين تصاحبا سمعهما يتناجيان، فتخفى وراء صخرة يستزيد سمعاً. . . وأرهف للسمع نفسه كمن يستجدي السمع مهرباً من ضيق وأزمة. . . مع أنه كان يضحك!
كان الصغير يسأل الكبير قائلاً:
- الآن وقد جئنا إلى هذا الكهف لنبحث عن ذلك الذي دخنا في البحث عنه لما كنا في المدينة، ماذا ترانا صانعين، وأين ترانا سنبحث؟ ولقد كانت في المدينة حياة متلونة، وكنت ترسلني منها وتقول لي: ابحث. فإذا سألتك عن أي شيء أبحث؟ قلت لي: سر متيقظاً، فإما رأيت أو سمعت شيئاً فاسأل نفسك ما هو؟ وكيف كان؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين هو ذاهب؟ فإذا وجدت الجواب عند نفسك فامض بحثاً حتى تقف أمام ما يعجزك تأويله. فكنت إذا أعجزني تأويل شيء جئت إليك فأولته لي، وعرفتني أصله وفصله، ولم أرك يوماً حرت في أمر ولا استغلقت عليك مسألة، بل إني على العكس من ذلك كنت أراك تجيئني أحيانا بأحاديث عما رأيت أنت وسمعت مع تفسيره وتأويله، وما كنت أنا لأخرج منه بشيء إن كنت رأيته أو سمعته. . . هذه كانت حالنا في المدينة، فكيف تريد بحالنا أن تكون هنا، ونحن لا نرى شيئاً ولا نسمع شيئاً، وليس أمامنا إلا هؤلاء الذين جاءوا معنا، وهاهم أولاء كما تراهم متفرقين يبحثون مثلنا عن شيء لا أراه أنا فدلني عليه إن كنت تراه. . .
- هأنذا معك يا بني، لا أرى إلا ما ترى، ولا أسمع إلا ما تسمع
- وهم جميعاً هكذا، وسنقضي العمر هنا أضيع مما كنا سنقضيه لو أننا بقينا في المدينة، فهيا بنا نعد فهناك من غير شك أوفى حياة وأحلى
- صحيح. ولكن أمامنا الآن ونحن هنا في هذا الكهف شيء ليس في المدينة متا يشبهه، وإنه من الخير لنا أن نبقى هنا لنراه
- أما فرغنا من رؤيته بعد، هذا الكهف وما فيه؟
- ربما كنا قد فرغنا من استعراض الكهف حقاً، ولكننا لم نفرغ بعد من استعراض الذين فيه نحن ومن معنا. أما قلنا إننا سنجتمع بعد أن يمضي يوم؟ أو لا يمكن أن تحدث في هذا اليوم حوادث لنا وللذين معنا؟ أو لا يمكن إذا انتهى هذا اليوم أن يقول لنا واحد منا إنه رأى شيئاً أو سمع شيئاً، ولو في المنام رؤيا؟ ثم أليس أمامنا الآن نفسانا ونفوس هؤلاء الذين معنا وقد اعتزموا أن يقضوا يوماً في الكهف بحثاً. . . ألسنا جميعاً أهلاً لأن يرانا راء وأن يسمعنا سامع ونحن على هذه الحال التي لو علم بها أهل المدينة لجعلونا بها سخرية وهزؤواً؟ ألست تحب أنت أن تسخر وتهزأ. . . هيا اسخر واهزأ إن لم تجد أمامك جداً. . .
. . . وهنا قصفت من وراء الصخرة ضحكة انفجرت في صدر المختفي وراءها لم يستطع أن يحبسها، فلما دوت الضحكة وفضحته أطل من وراء الصخرة وقال لهما وقد استرسل يضحك:
- لقد سبقتكما، فأنا أضحك منذ كنا تحت. . . سنلتقي في آخر اليوم، وسأقول، وستقولان، وسيقولون، وسنسمع. وأما أنا فسأظل أضحك، وأما أنتم. . . فمن يدري
فقال الصغير: نحن الذين سنضحك في الآخر وأنت ستبكي
وقال الكبير: من يدري. . .
. . . وهنا. . . تثاءب الكلب. . .
. . . فلما تثاءب الكلب تثاءب بعده أقربهم منه. . . وكان شاباً صادق الوجه، فيه ملاحة وفيه خفة وفيه دلال بعثه في نفسه حب الناس له وإقبالهم عليه. . . وكان فيه إلى هذا إهمال ظاهر في إهماله لنفسه، ولمحاسنه ولعقله. . .
رأى الكلب يتثاءب، فالتقط منه تكاسله، وتثاءب هو أيضاً، ثم طرح نفسه على الأرض، وقال للكلب:
- أتكون أنت أهدأ مني بالاً؟. . . لماذا؟. . . أنا جالس إلى جانبك أحرق نفسي بحثاً عن هذا الذي يبحث عنه هؤلاء جميعاً، والذي لا أعرف ما هو، وأنت جاثم نائم مرتاح؟ لماذا لا أرتاح مثلك؟ ألأني أريد مثلهم نهاية نيرة؟ إن عندي ألف نهاية نيرة! جلسة عند الراقصات الحور في جنة قطوفها دانية بين ذراعي تلك التي. . . هل تعرف يأيها الكلب (تلك التي. . .)؟ أو لست تعرفها. . .؟ تعرفها أو لا تعرفها، فإنني أنا أعرفها، وسيزورني الآن طيفها ومعه قطعة من الجنة، فأحسن استقباله يا صديقي الكلب، ودله عليَّ إذا تاه عني، وهأنذا راقد إلى جانبك. . . أسعدت مساء. . .
. . . قال هذا ونام. . . نام بعد أن غنى لنفسه ما شاء، وما استطاع. . . ومر به الضحاك، فإذا به نائم؛ فبانت عليه إمارات الغيظ وانحنى عليه يسأله:
- أنائم أنت؟. . . فإذا استيقظت في آخر اليوم، فماذا أنت قائل لهم إن سألوك عما رأيت وعما سمعت؟ سنرى. . .
. . . وانصرف الضحاك عنه إلى واحد من أصحابه رآه يثقب سقف الكهف بمثقاب نحته من الحجر. فهم الضحاك بأن يشكو لهذا الصاحب صاحبهما الذي نام، ولكنه آثر أن يستتر خلف منعطف في الكهف، ليرقب هذا الذي يريد أن يخرق الحجر، وليس شيء وراء الحجر إلا الفضاء
وسطع من جوف الحجر بريق، فانبهر الثاقب، وجفل الضحاك. أراد أن يضحك، ولكنه أمسك عن الضحك، وآثر مرة أخرى أن يظل يرقب صاحبه، وهذا البريق الذي لمع من حرف الحجر، وما عساه أن يحدث بينهما. . .
ظل الرجل يثقب ويثقب حتى استخرجها من جوف الحجر حصاة كبيرة شفافة براقة متألقة، استقبلت النور فعكسته أنواراً، فراح يتأملها في إعجاب وفرح، وأخذ ينفخ فيها ويمسها بأنامله وهو يقول:
- أظنهم مهما جدوا فلن يعثر واحد منهم على ما يشبه هذه؟ ولكن ما هذه؟ على أي حال إنه لا يعنيني كثيراً أن أعرف ما هذه، ما دمت بهذه أستطيع أن أمتاز على الناس وأن أخلب أنظارهم؛ فلأخفها ولأكتم أمرها
. . . وبعد أن كان الضحاك الذي كف الآن عن الضحك. . . بعد أن كان يريد أن يشكو صاحبه الذي نام لصاحبه الذي اهتدى إلى قطعة النور المتجمدة، مضي وفي عزمه أن يشكو صاحبه هذا الأخير لأول من يلقاه من أصحابه. . .
فأخذ يتسلل بين منعطفات الكهف حتى اشرف على صاحب آخر رأى ينبش الأرض وينكثها، وينبش وينكث حتى تفجر من الأرض ماء، مد الرجل إليه فمه فشرب منه رشفة، فإذا به يترنح ترنحاً خفيفاً وإذا به يقول:
- ما في الحياة خير من هذه لذة. . . ولا أمتع منها راحة. . . سأملأ من هذا الماء قدحاً، وسأسقي كلا من أصحابي رشفة فيهدءون ويرتاحون، ويدعون بحثهم واستقصاءهم، فأبحث أنا وأستقصي أنا فإن وجدت بعد ذلك شيئاً أعطيتهم منه القليل، وادخرت لنفسي مصدره. . . لن يكون غير هذا، ولست ظالمهم، ولاهم ظالمي، وإنما لكل منا حظه. . .
وكان الضحاك قد نسي الضحك، واعتراه هم لم يكن يتوقعه واعتراه بأس لم يعرف منشأه، فأطرق برأسه إلى الأرض، وسار بخطوات عمياء إلى حيث لا يدري، وانتهى به المسير إلى حيث كان الكلب راقداً فرقد إلى جانبه هو أيضاً، ولكنه لم يرقد كما يرقد الناس، وإنما انبطح على وجهه كالكلب، وبسط ذراعيه أيضاً كالكلب. . .
كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. أما الكلب فهو الكلب
وأما هم فأولهم هذا الضحاك الذي اغتم ونام وفي آخر الأمر، وثانيهم هذا الذي غنى ونام من قبله، وثالثهم صاحب قطعة النور، ورابعهم صاحب الماء اللذيذ، وخامسهم صاحب سادسهم، وهما اللذان أرادا منذ أول الأمر أن يريا في هؤلاء الجماعة جداً أو هزؤواً وسخرية إن لم يريا الجد
فأين كان سابعهم؟. .
سابعهم كان جالساً على حجر عند مدخل الكهف يتمتم قائلاً:
- هو. هو. هو. هو. هو. هو
وانقضى اليوم. واجتمعوا عند مدخل الكهف حول هذا المتمتم، فسأل أولهم: ماذا وجدت؟ فضحك. فقال له: أمجنون أنت؟ لقد سكتنا عن ضحكك هذا عندما كنا في الطريق، ولكننا الآن لا نستطيع أن نسكت عنه بعد أن قضينا يوماً بحثاً. . .
فضحك. . . فقالوا جميعاً: دعه، إنه مجنون. فتركه يضحك
ثم سأل الثاني: ماذا وجدت. فقال له: غادة هيفاء، وروضة فيحاء، ونسيم عليل، وخمر وغناء، ورقص وتسابيح، ودنيا أخرى غير هذه ما فيها إلا السعادة والنعيم. . .
فسأله: أين هي؟ فقال: هاهي ذي. . . أما تراها. . . إن كنت لا تراها فهي إذن قد ولت. . . يا خسارة. . .
فقال له: إذا عدنا إلى المدينة فصفها للناس يرحبوا بك شاعراً
ثم سأل الثالث: وأنت ماذا وجدت؟
فقال له: هذه. . . تلمع في النور، وتلمع في الظلام، لها أنوار مختلفة الألوان، حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء. . . أنا لا أدري ما هي ولكني أحبها، وأنت أيضاً تحبها، والناس جميعاً يحبونها، أليس كذلك؟
فقال له: نعم، فإذا نزلت إلى المدينة فاخلب بها الأنظار والألباب إنها السحر. . . ولكني أوصيك ألا تؤذي ببريقها امرأة ولا طفلاً ولا رجلاً ضعيفاً، فما كل عين تطيق هذا التألق الخطاف. . .
ثم نظر إلى الرابع وسأله، وأنت ماذا وجدت؟
فقدم له القدح وقال له: اشرب، فقال له: ما هذا الذي تريدني أن أشربه؟ فقال له: ماء وجدته. فسأله: أين؟ فقال: لن أقول، فإن لي به سلطاناً لو شاع بين الناس فقدته. . . إنه شراب لذيذ ومسعد
فقال له: لا ريب إن كنت لا تزال صادقاً. . . فارجع به إلى أهلك فاسقهم منه يقيموك فيهم كاهناً يطلبون عندك الراحة كلما تعبوا. . . ولكن لماذا لا تدلهم على سر هذا الشراب حتى إذا مت وجدوه من بعدك. . .
فقال: من بعدي؟ ما لي أنا والذين بعدي، والذين قبلي؟ هل عطف عليَّ من أهل هذه المدينة أحد. . . لا يا سيدي، لكل منا سره. . .
. . . ثم نظر المتمتم للصاحبين المتلازمين وسألهما: ماذا رأيتما؟ فقال الصغير: رأيناكم أنتم، وقد عرفتكم جميعاً إلا أنت يا من تسألني. . . وتسأل الناس لم أعرف ماذا وجدت أنت؟ ولا ماذا ستصنع عندما تعود إلى المدينة. . .
فقال الكبير من الصاحبين: هذا يا صغيري رجل، له ولي، كلما فرغ نصب وذكره، فهو دواماً معه. . .
فسأل الصغير - ومن وليه؟ فأجاب الكبير - هو. . .
فسأل الصغير مرة أخرى - ومن هو؟!
فأجاب الكبير مرة أخرى - اسأله هو. . .
فسأله الصغير - قل لي من هو؟
فقال له - عندما أستطيع الكلام سأقول لمعلمك. . .
ثم نزلوا إلى المدينة. . . ووراءهم كلبهم. فلما تشتتوا كان الكلب يعود إلى الكهف وحده بين الحين والحين لينام، فقد استطاب الهواء الذي هناك.
عزيز أحمد فهمي