مجلة الرسالة/العدد 365/إلى أرض النبوة!
→ ويلك آمن. . .! | مجلة الرسالة - العدد 365 إلى أرض النبوة! [[مؤلف:|]] |
خرفة ← |
بتاريخ: 01 - 07 - 1940 |
4 - إلى أرض النبوة!
(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ علي الطنطاوي
إن من دأب العادة أنها تضعف الحس، وتذهب بالانتباه. فالغني الذي يلبس الحرير، وينام على السرير، ويركب السيارات، ويملك (العمارات) لا يجد لذلك كله من اللذة ما يجد الفقير المعدم، والبائس المحروم إن نال مثله، والشبعان لا يدرك اللذة التي يتوهمها الجائع، والصحيح لا يعرف لنعمة الصحة قدرها إلا إذا مرض، فلا لذة في الدنيا إلا في التنقل والتبدل، وألاّ تحمد على حال مهما حسنت في ذاتها. وهذا ما أراده الشاعر حين قال:
ولذيذ الحياة ما كان فوضى ... ليس فيه مسيطر أو نظام
من أجل ذلك أحسسنا حين ذهبنا إلى غداء الأمير، ورأينا عادات لم نألفها، وطرائق في الطعام لم نعرفها، بلذة التبدل، والاستمتاع بالجدة، فما كاد يستقر بنا المجلس حتى أقبل العبيد فمدوا سماطاً على الأرض، ووضعوا عليه قصعة هائلة كان يحملها منهم اثنان، وقد ملئت رزاً وألقى فوقه خروف كامل بيديه ورجليه ورأسه، إي والله. . . كأنهم (والله أعلم) خافوا أن نشك فيه فنحسبه دباً أو فيلاً أو قطاً، فأبقوا على الرأس دليلاً قاطعاً على أنه خروف أصيل من أمة الضأن
وكان الخروف مفتوح العينين، ناعس الطرف، فأخذتني الشفقة عليه، وتوهمت أنه ينظر إلينا، وأنه. . . . . . ثم رأيت أن لا مجال للوهم ولا للخيال، وأن الوقت لا يتسع للأدب، لأن القوم أحدقوا بالقصعة وشمروا عن سواعدهم، ونظروا شزراً فعل من يقدم على معركة، فخشيت أن يذهبوا بالرز واللحم، ويبقى لي الخيال والوهم، ومتى أفاد الخيال جائعاً، أو أجدى الأدب على إنسان؟
وكان أصحابنا يدورون بعيونهم يفتشون عن ملعقة أو سكين أو شوكة فما وجدوا شيئاً من ذلك؛ وأبصروا القوم يأخذ أحدهم قبضة من الرز، فيديرها في كفه، ويعصرها، حتى يقطر منها السمن، ويحركها كما يحرك اللاعب الكرة قبل قذفها، حتى إذا اطمأن إلى أنها صارت كالقنبلة، قذف بها في حلقه، فما استقرت بإذن الله إلا في معدته، لا تقف في الفم، ولا تمسها الأسنان. . . وطفق أصحابنا ينظرون إليهم ويعجبون، ثم أقبلوا يأكلون كما يأكلون، ولبثت منتظراً أقول لنفسي وأنا أحاورها لأقنعها: من أين تأكلين إذا لم تجاري وتماشي، وتستعدي لقبول كل ما تأتي به الحال؟ وإني لفي تفكيري، إذ حانت مني التفاتة، فوجدت القصعة قد تكشفت، والخروف المسكين قد تناثر لحمه، وبدت عظامه. . . فمددت يدي آكل كما يأكلون، وقد علمت أن شر طعام خير من الجوع، والرز يتفلت من بين أصابعي، والسمن يملأ كفي، فإذا رفعتها إلى فمي، نقط من مرفقي، ولم يكف القوم ما كانوا قد وضعوا من السمن، بل عمدوا إلى كؤوس يحملونها، فملئوها وصبوا ذلك أمامنا، حتى نستطيع من كثرة الدهن أن نأكل، ولم يكن الرز ليستدير في يدي استدارته في أيديهم، بل كان يدخل بين أصابعي، حتى أضطر إلى إدخالها جميعاً في فمي، وغسل وجهي كله بالسمن. . .
وانقضى الطعام. ولا تسألني: أشبعت أم لم أشبع، كيلا يطول سؤالك كما طال في هذه الرحلة عطشي وجوعي
ثم جاءونا ونحن في مجالسنا بطست عليه مصفاة قد وضعوا فوقها قطعة صابون وإبريق يصبون منه على أيدينا، على نحو ما كان يصنع في دمشق قبل عشرين سنة، ولم تكن تلك طريقتهم في الغسل، وإنما يكون مثلها في مجالس الأمراء والمتحضرين من العرب. أما البدو، فيجزئهم الرمل. وقد بلغنا عن بعض البدو في جهات الشام، أنه إذا كانت وليمة أو غداء كالذي نصف، خرج الضيوف فمسحوا الدهن الذي في أيديهم بباب الخيمة. وعندهم أنه كلما ازداد عليها من الدهن ازداد كرم الرجل وفخاره. . .
ثم خرجنا نجول في البلد، وقد علمت أي شيء هذا البلد فاستقريناه كله في ساعة، ثم دخلنا المسجد، فرأيناه داني السقف قائماً على عمد دقاق من جذوع النخل، جدرانه من الطين، وأرضه مفروشة بالرمل، لا بساط ولا (سجادة) ولا حصير، فسألنا متعجبين، فعجبوا من عجبنا، وأنكروا سؤالنا، وكأنهم استخفونا واستجهلونا، لأن من المقرر عندهم (كما علمنا بعد)، أن هذه هي سنة السلف، وعليها مساجد نجد كله اليوم. وأنا رجل سافي وهابي، ولكنني لست من المتمسكين بحرفية النصوص، ولا ممن يأخذها بلا فكر. وأنا أفهم أن المسجد في الإسلام يستحب فيه الخلو من الزخارف التي تشغل عن الصلاة، وتطلب فيه (البساطة)، ولكن البساطة مردها إلى العرف، وليس مدارها على الرمل والطين. والذي أفهمه أن فرش المسجد بالبسط النظاف، وتحوير جدرانه أو دهنها بلون واحد، واتخاذ مكان فيه للأحذية حتى لا توضع الجباه، ومدافئ للشتاء إذا كان البلد بارداً، ومراوح كهربائية في البلد الحار، وإقامة مكبر للصوت في مثل مسجد دمشق الذي يجتمع فيه اليوم لصلاة الجمعة أكثر من عشرين ألف مصلٍّ. كل هذا لا ينافي سنة (البساطة)، وإن لم يفعله السلف للجهل به أو لعدم الحاجة إليه. ومصيبتنا نحن المسلمين في هذه الأيام أننا لا نعرف التوسط ولا الاعتدال، فمنا من ينطلق وراء عقله وحده لا يتقيد بوحي ولا كتاب، ومنا من بدع العقل والكتاب والسنة ليفكر بعقول من مضى من فقهاء القرن التاسع والعاشر، أو يأخذ من الكتاب والسنة، ولكنه يفهم بالحروف والألفاظ ويدع ما وراءها من المجاز والإشارة والحكمة والمصلحة. . .
عدنا إلى الدار التي منحونا مفتاحها، نتحدث ونسكت، وننام ونفيق، ونقرأ حتى نمل، ونمل فنعود إلى القراءة حتى تصرَّم النهار ونحن نظنه من ثقله شهراً. وقد عرضت مرة في بعض مقالاتي إلى تحليل الحس بالحياة، فكان من رأيي أن الحياة أصعب شيء على الإنسان، وأنه لا يستطيع أن يحملها، فهو يقطعها أبداً بحديث أو مطالعة أو عمل، أو ما هو من ذلك بسبيل، فإذا خلت حياته من شيء يشغلها عادت هماَّ وحملاً ثقيلاً. وكذلك كانت حياتنا ذلك اليوم في (قريات الملح). وكنا قد سألنا الأمير دليلاً، وأقمنا ننتظره حتى جاء، وإذا هو سيد من سادات (الشرارات)، عُمَّار تلك الديرة، والمشيرة صاحبة النفوذ فيها اسمه (صْلَبي)؛ ولي في صفته كلام في أول قصة (أعرابي في حمام) ما زدت فيه على الحقيقة وإن كنت قد أقمت القصة على الخيال؛ فليرجع إليه من شاء ثَمَّة
وقد أبدلنا الله بدرهمنا ديناراً حين صرف عنا الحاج غراباً الجاهل الجامد، الحضريّ الثقيل؛ وجاءنا بهذا الأعرابي الفكه الظريف الذي أخذنا منه فوائد كثيرة ولمسنا في صحبته السلائق العربية لمساً: الذكاء والوفاء والإباء، والمنطق البليغ والذاكرة القوية والجواب الحاضر والصبر والإيثار. وأشهد لقد أحسن إلينا أمير (القريات) حين اختاره لنا، فلما حضر تجددت عزائمنا، فأعددنا ثقلنا، وذهبنا نودع الأمير ونستأنف السفر، وكان أهل البلد مجتمعين حول الدار التي نزلناها، وكأن مجيئنا من الحوادث الكبرى في تاريخ البلد.
فمشينا بينهم، ودخلنا الحصن، فوجدنا الأمير قد أعد لنا مجلساً في رحبته، يشرف على الفضاء، ودعانا إلى المبيت، وألحف علينا، وذهب يلتمس إلى إقناعنا الطرق، ونحن نعتذر ونتملص، لا أدري أكان ذلك حياء من الأمير أن نطيل المكث في ضيافته، أم كراهية البقاء في هذه البليدة الساكنة سكون المقبرة، الخالية من كل شيء يشغل أو يسلي، أم حماقة وطيشاً ولعل ذلك هو الأقرب. . . فلما يئس منا عرض علينا العشاء فأبينا واجتزأنا بالشاهي نشربه إذ لم يكن منه بد، وأخرجنا مما كان معنا حلوى من حلويات دمشق التي ملأت شهرتها الآفاق، وعجزت عن صنع مثلها أيدي الطهاة، فعرضنا منها على الأمير فطعمها فأعجبته وقال لنا، إن ما ذاق مثلها، وخير ذلك ألا يذوقها فيعوده مذاقها الترف والنعيم، ويسلبه روح الصحراء
وانتهى المجلس مع الغروب فقمنا إلى الصلاة، ثم استقبلنا البادية القاحلة حيث لا نجد حاشا تبوك والعلا، داراً مأهولة، ولا منزلاً معموراً، ولا نجد إلا الرمال والصخور والشمس الملتهبة، والفضاء الأرحب، حتى نصل بمشيئة الله إلى مدينة الرسول ﷺ.
سرنا فما جاوزنا غير ساعة حتى أظلم الليل، وتوعرت الأرض، وتعذر المسير، فأمرنا الدليل بالنزول، فنزلنا وجعلنا من عادتنا بعد ذلك ألا نسير إلا نهاراً، وإن اضطرنا إلى مشي الليل اخترنا الإدلاج من آخره إلى المسرى من أوله. . .
وكان نزولنا في أرض رخوة ما ألقينا لها بدلاً، فلما نصبنا الخيمة وبسطنا البسط وقعدنا إذا بها تعصر ماء، وإذا هي سبخة من تلك السباخ التي يستخرج منها الملح، فتفرقنا وأبعدنا رجاء أن نصيب أرضاً خيراً منها فما وجدنا، فاسترجعتا وندمنا على ترك البلد، والسفر ليلاً، والإعراض عن دعوة الأمير، وأمضينا الليل على شر حال، منا من نام وسط الوحل، وما السبخة إلا وحل. فأصبح يشكو الرثية (الروماتزم) أو يحس الأذى في ظهره، ومنا من لبث الليل كله في السيارة لا يستطيع أن يتحرك أو يمد رجله، ولقينا من الشدة ما ذكرنا معه بالخير ليلة (أم الجمال)
رب ليل بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه
تبدل عليَّ كل شيء مذ فارقت (القُريَّات)، فلقد كنت قبل أن أصل إليها أفكر فيها وأراها غاية سفري، فصرت أمشي من بعدها لا أعرف لي غاية إلا تبوك، وأين نحن من تبوك حتى نفكر فيها؟ وكيف وبيننا وبينها أيام وليال؟ وكنت آسف على فراق دمشق فصرت لا أفكر فيها إلا لماما، وأحسست كأني منقطع حقاً عن العالم، فلا بشر إلا الرفقة التي أصحبها، وليس إلا الرمل والتلال والسراب مشهد نراه، وكان عملنا كله التدقيق في الأرض، والانتباه إلى الدليل، لنجتنب الخوض في رملة، أو المرور على شِعب، أو الالتقاء بصخرة. ولقد كنت أنظر تارة إلى هواننا إلى الصحراء، وأفاضل بين صغرنا وجلالها، وفنائنا وبقائها، فأحس الصغار، وأشعر بالعجز، ثم أنظر فلا أرى فيها إلا إيانا قد انفردنا بين شرقها والمغرب، وانبسطت تحت أرجلنا وامتدت إلى الأفق البعيد، ونحن نغزوها ونوغل فيها، ونحمل حرها وبردها، ولا نبالي شمسها ولا رملها، فتغمر نفسي القوة، وأرفع رأسي فخاراً، وأتيه زهواً. . .
وكنا نسير النهار كله، سيراً بطيئاً. وما أكثر ما نقف نخرج من سيارة غاصت في الرمل، أو نتحرى خير الطرق، أو ننظر في (الموصلة) لنتبع أبداً الجنوب، وكنا أبداً على استعداد للوثوب من السيارة. فإذا مالت الشمس وأصفرت، نزلنا فنصبنا خيمتنا وأكلنا وشربنا الشاي. . . وأنا أحلف أني على ولعي بجمال الطبيعة، وارتيادي الجبال والأودية، ووقوفي بالعيون والينابيع، ومقامي على الشواطئ وحيال الشلالات، ما رأيت منظراً أجل ولا أجمل ولا أحفل بالعظمة والمتعة كم أماسي الصحراء، حيث تضطجع على تلة من التلال، ثم تمد بصرك إلى الجهات الأربع فلا يحجزه حاجز، ولا يقف في سبيله شيء، فترى الشمس وهي تغيب في الأفق الغربي، وظلال الليل وهو (يشرق) من الأفق الآخر، والنجوم وهن يطلعن في السماء الصافية، وتحس بلطف الليل ورقة نسيمه، كما أحسست بجلال النهار وحدة شمسه، ثم تقوم مع الفجر قوياً نشيطاً، قد قبست من روح الصحراء روحاً جديداً، لتستقبل الحياة بعزم جديد!
علي الطنطاوي