مجلة الرسالة/العدد 364/الحرب في أسبوع
→ التعليم المختلط | مجلة الرسالة - العدد 364 الحرب في أسبوع [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 24 - 06 - 1940 |
للأستاذ فوزي الشتوي
فرنسا تسلم؟!
قابل العالم طلب المارشال بتان رئيس وزراء فرنسا لشروط عقد الهدنة بكثير من الحسرة والألم، فقد عقد العالم أمله على المعارك الدائرة في فرنسا لإقرار السلام، وإزاحة كابوس الدكتاتورية ومخاوفها. وظل الجيش الفرنسي يقاتل بعزيمة التي عرف بها إذا دهم وطنه خطر، ولكن الخسائر التي مني بها، والقوات الألمانية هاجمته كانت كبيرة العدد كثيرة العتاد، تجاوزت في كثرتها جميع القتال
ففي سنة 1914 كان عدد الرجال المقدر فنياً للقتال في الميل الواحد عشرة آلاف جندي. ودرس أحد الاقتصاديين العسكريين في سنة 1938 عدد الرجال اللازمين للاشتراك في المعركة، سواء في حالة الهجوم أو الدفاع، فقدر أن جبهة القتال تشمل ميداناً طوله 1000 كيلو متر (600 ميل). وانتهت أبحاثه المبنية على الحساب والفن العسكري إلى أن عدد الرجال اللازم لهذه الجبهة في حالة الهجوم مدة سنة، هو تسعة ملايين جندي تهبط إلى ستة ملايين في حالة الدفاع، أي أن الميل الواحد يحتاج إلى 15 ألف جندي تهبط إلى عشرة آلاف في حالة الدفاع
استخفاف بالأرواح
ودرس هذا الأخصائي العسكري ما تحتاجه الجبهة من سيارات مدرعة ودبابات فقدر للميل الواحد 200 منها طول السنة. ولكن القيادة الألمانية خالفت فنون القتال المألوفة معتمدة على ضربات خاطفة، تقصد من ورائها أن تنهي الحرب في أشهر قلائل، ويؤازرها في ذلك سياستها التي جرت عليها من الاستخفاف بأرواح رعاياها، ووضعها في المرتبة الأخيرة أمل الحصول على أغراضها
فوضعت في جبهة طولها 150 ميلاً مليوني مقاتل و 4000 دبابة يضاف إليها سيارات النقل والجنود الاحتياط، فخص الميل الواحد 13 ألف مقاتل تقريباً، وإذا قسمنا عدد الدبابات على عدد الأميال يظهر قلة عددها، ولكننا لو ذكرنا أن هذه الدبابات لم تتوزع على طول جبهة القتال، بل قصرت عملها في ميادين خاصة، فكانت الوحدة منها تتكون من 200 دبابة لعرفنا قسوة الهجوم الذي وجه إلى القوات الفرنسية، ولوجدنا أن ما قدر له أن يعمل سنة كاملة وضع في الميدان دفعة واحدة
ومعنى هذا أن الحرب إذا طالت سنة احتاجت ألمانيا إلى مثل هذه القوات ثلاثين أو أربعين ضعفاً، وهذا مالا يتيسر لألمانيا تحقيقه لضعف مواردها
ومن هنا يرى الخبراء العسكريون أن حرب ألمانيا مع إنجلترا ستكون وبالاً على النازية، لأن الحرب ستطول بحكم موقع الجزر البريطانية الجغرافي، وبحكم توفر المواد الأولية في إمبراطوريتها الواسعة.
لماذا استقال رينو
ومن الجدير بنا أن نقف لحظة إزاء ما قبل الظروف التي أعلنت فيها فرنسا طلبها لشروط الهدنة. ففي ساعات قلائل تستقبل وزارة المسيو رينو، وتؤلف وزارة المارشال بتان، وتصبغ بالطابع العسكري، ويشترك فيها جميع قواد القوات الفرنسية من برية وبحرية وجوية. فهل يدل هذا على أن المسيو رينو رفض أن يتولى إصدار قرار طلب شروط الهدنة الخطير؟ وإذا كان هذا صحيحاً فما هي الدوافع لاستقالته ورفضه! هل هي اختلافه في الرأي مع العسكريين؟ أم أنه فضل أن يتلقى الشغب الفرنسي النبأ السيئ من القادة أنفسهم؟
فالشعب الفرنسي معروف بحبه للحرية، معروف بتقاليده الوطنية التي لا تقبل الهزيمة، معروف بتضحياته السامية وبسالته التي لا تقهر، مما يدعو الساسة إلى التردد والامتناع عن إصدار مثل هذه القرارات المؤلمة
ويبدو لنا أن الاختلاف هو في الرأي أيضاً، فقد غضب بعض كبار القواد العسكريين لطلب الهدنة، وطالب الجنرال ديجول الشعب الفرنسي الحر بأن يتصل به في إنجلترا ليواصل القتال، ولينزع عن بلاده ألم الهزيمة، وليخلصها من القيود التي قد يفرضها عليه الأعداء. ورأي هذا القائد له قيمة إذ كان أحد مساعدي المسيو رينو، وكانت له يد في توجيه السياسة العسكرية والاقتصادية
فإذا قبلت فرنسا شروط ألمانيا فلن يعني أن رجال فرنسا ستغادر الميدان، بل أنهم سيواصلون الكفاح. وسيلحق بهم في هجرتهم عد كبير من الفرنسيين الذين لن يطيقوا أن يعيشوا تحت شروط الألمان والذين لن يطيقوا أن يتركوا بلادهم وسيادتها تحت رحمة النازيين. فقد ظلت فرنسا عدة قرون وهي دولة من المرتبة الأولى، ولها صوتها المسموع، ولها إرادتها المحترمة، فهل يقبل شعبها أن يصبح من المرتبة الثالثة، بينما حليفتهم تقاتل في الميدان؟ إن العصبة الفرنسية تقول محال، أو كما قال الجنرال ديجول (إن شعلة المقاومة الفرنسية لن تنطفئ. لن تنطفئ)
مناورة بارعة
ولقد كان اقتراح بريطانيا اتحاد الجمهورية الفرنسية بالإمبراطورية البريطانية مناورة سياسية وعسكرية بارعة، فهي تعطي لفرنسا مضماراً جديداً لاستئناف نشاطها، وتدل على حسن النية والتضامن في السراء والضراء مما يجلب عطف العالم على قضية الحلفاء، ويدل دلالة مادية أن الطمع ليس العامل الحقيقي في هذا القتال، بل هو سعادة العالم. وإلا فما الذي يدفع بريطانيا بإمبراطوريتها العظيمة، لأن تقدم مواردها لإصلاح أضرار فرنسا ولأن تشاركها في مصابها الحالي؟
ولو تم هذا الاتحاد، لكان له أثر عظيم في سياسة العالم المقبلة، ولكان فتحاً جديداً لتكوين اتحاد أوربي عام، يعمل على إقرار السلام، فتزول الأحقاد، وتحد المطامع، ويشعر العالم برباط المصلحة المتبادلة
هتلر بين نارين
وكان هذا التصريح بارعاً كما قلنا وضع ألمانيا بين نارين، فإذا هي غالت في طلبتها من فرنسا فضت فرنسا للصلح واتحدت مع إنجلترا واستمر القتال إن لم يكن في فرنسا ففي المستعمرات، ولمستعمرات فرنسا شأن كبير في معركة البحر الأبيض، ففي تونس والجزائر ومراكش موان وقوات فرنسية لها قيمتها في الجزء الغربي للبحر
ومن الناحية الثانية يفيد عدم غلو ألمانيا في طلباتها، فإذا احتفظت فرنسا بقواتها البحرية والجوية، ولم تضم إلى الدكتاتورية ولزمت الحياد تضمن إنجلترا سيادتها البحرية على القوات الإيطالية، كما تضمن أن تظل القواعد الفرنسية في غرب البحر الأبيض في أيد محايدة تعطف على قضية بريطانيا
ويصعب علينا الآن أن نقدر أثر هذا التصريح، ولكنه يدل على شعور الديمقراطيات بعطف متبادل، ومشاركة في الآلام، أو كما يقول المثل العربي (عند الشدائد تعرف الإخوان) وهل بعد محنة فرنسا الحالية شدة؟
إذا قبلت الشروط
وإذا انسحبت القوات الفرنسية من الميدان، فإن ميدان الحرب يتحول من البر إلى البحر والجو، وهما الميدانان اللذان يمكن أن تشتبك فيهما القوات الديمقراطية مع القوات الدكتاتورية، اللهم إلا إذا حولت ألمانيا قواتها لغزو البلقان، فعندئذ يتغير الموقف تغيراً بسيطاً، ولكن النصر النهائي يتقرر في هذين الميدانين، ولإنجلترا فيهما التفوق العسكري
فشل الحرب الخاطفة
ويتغير موقف ألمانيا قبل إنجلترا فتضطر إلى الانتظار مدة يتاح فيها لأميركا تقديم معاونة جديدة، وإعداد مصانعها الإعداد المنشود، فلا مفر إذن من فشل خطط ألمانيا في الحرب الخاطفة، ولا سيما أن قوات إنجلترا ما زالت سليمة، ففي الجزر البريطانية وحدها مليونا جندي بعضهم جنود نظامية، وبعضهم للدفاع المدني
فإذا عمدت ألمانيا إلى مهاجمتها عن طريق الجو، فإن القوات الجوية ليست عاملاً فعالاً في الاستيلاء على البلدان، بل يجب الاستناد إلى قوات برية، وهنا تبرز معضلة ألمانيا الكبرى. فكيف تنقل قوات تقاتل هذه قوات إنجلترا الكبيرة؟
كيف تغزوا إنجلترا؟؟
أمامها في هذه الحال طريقان: وهما البحر والجو، فإذا سلكت طريق البحر احتاجت إلى أسطول ضخم لحماية السفن من الأسطول البريطاني، وهي لا تملك من السفن الآن ما يضمن لها تحقيق هذه الغاية، فإذا لجأت لحمايتها بالأسطول الجوي، فإن الطائرات البريطانية تنازعها السيطرة على بحرها، ولا سيما لقرب قواعدها وتفوق طائرات القتال البريطانية
فإذا قلنا يمكنها أن تفعل ما فعله الحلفاء في دنكرك عندما أنزلوا قواتهم من منطقة الفلاندر، فإن الموقف متغير لعدة عوامل:
1 - تفوق أسطول إنجلترا البحري
2 - تفوق أسطول إنجلترا الجوي وخصوصاً طائرات القتال
3 - المدافع الساحلية، وهي من القوة بحيث تكفي لصد أساطيل حربية
4 - حقول الألغام المبثوثة حول الشواطئ البريطانية، وهي تحتاج إلى قوات كبيرة لانتشالها
5 - وجود قوات كبيرة في بريطانيا
فهذه العوامل متجمعة تجعل من المستحيل على ألمانيا إنزال قواتها في إنجلترا عن طريق البحر، فضلاً عن أن قوات الحلفاء التي نقلت من دنكرك لم تحمل معها أسلحة تذكر، ومن البديهي أن نقل الرجال أسهل بكثير من نقل الأسلحة
غزو إنجلترا جواً
وناقش أحد رجال إنجلترا العسكريين احتمال غزوا إنجلترا عن طريق الجو على هدى الخطط العسكرية الألمانية، فقال إن ألمانيا تحتاج في هذه الحالة إلى ألف طائرة تسع كل منها أربعين جندياً بمعداتهم من الأسلحة الخفيفة، فتحمل هذه الطائرات حمولتها من الرجال من قواعد قريبة من إنجلترا كميناء كاليه مثلاً، فتهبط الدفعة الأولى بالمضلات الواقعة وتحتل بعض المواقع وخصوصاً المطارات، وتحتفظ بها فترة من الزمن حتى يتاح للطائرات أن تعود بأربعين ألف جندي آخر
وعمل الدفعة الأولى أن تحتفظ بمواقعها إلى أن تأتيها الدفعة الثانية فالثالثة فالرابعة، إلى أن تستقر القوات في مكان يتيسر للطائرات الألمانية الهبوط فيه. ومن ثم يبدأ الغزو الحقيقي للجزر البريطانية
وإذا قلنا إن هذا المشروع مشروع إنجليزي، أدركنا أن الإنجليز أعدو له العدة اللازمة من جنود إقليميين ونظاميين، وأن الألمانيين لن يجدوا الجزر البريطانية لقمة سهلة الهضم، وفضلاً عن هذا فإن الطائرات لا تستطيع حمل الأسلحة الثقيلة من دبابات ومدافع ميدان لتجابه بها المعدات الإنجليزية
بريطانيا وألمانيا أما كيف تقضي بريطانيا على قوات ألمانيا، فلها في ذلك وسيلتان:
1 - الحصر البحري
2 - استغلال فرص القتال
فأما الحصر البحري فأمره معروف، وهو يقضي بمنع المواد عن ألمانيا إلى أن تنهار حياتها الاقتصادية وبالتالي قواتها العسكرية
وأما استغلال فرص القتال فهذا موضوع يعود بنا إلى أيام نابليون، فقد ظلت العداوة قائمة بين فرنسا وإنجلترا من سنة 1803 إلى سنة 1814 استولى أثناءها نابليون على أوربا كلها تقريباً، وكانت انتصاراته المتتابعة تملأ آذان العالم. وكانت إنجلترا تستغل تمرد الدولة المختلفة
فقد فرض نابليون سيطرة أسرته على جميع الممالك من أسبانيا إلى قلب أوربا، وعين اخوته ملوكاً على إيطاليا وأسبانيا، وحالف تركيا والروسيا في أدوار مختلفة، ولكن الدول الأوربية ما لبثت أن تمردت عليه وهاجمته قواتها من جميع الجهات حتى استولت على باريس. وكانت إنجلترا في هذه الأثناء لا تترك له فرصة يستقر فيها، فهاجمته في تركيا، وأسبانيا، وفي البرتغال، وفي بلجيكا إلى أن استنفذت جميع موارده وهزم الهزيمة النهائية في واترلو
ولا يختلف موقف هتلر عن موقف نابليون، فهو يحتل بلاداً نعم أهلها برحيق الحرية، وتأصلت في نفوسهم روح الوطنية، فإذا كبتوا شعورهم تحت ضغط الحديد والنار لحظة، فلن يلبثوا أن يتمردوا لحظات، فتذكر إنجلترا شعورهم وتأخذ بيدهم، وتمهد السبيل للقضاء على الطاغية.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة