الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 362/هزل مصر والشام

مجلة الرسالة/العدد 362/هزل مصر والشام

بتاريخ: 10 - 06 - 1940


من مذكرات الأستاذ محمد كرد علي

تشهد في مصر ما تشهده في الممالك الكبرى من مظاهر الحياة ففيها الجدِّ على أتم حالاته، وفيها الهزلُ على غاية من الإتقان. ويُطربني جِدِّها وهزلها. وأنا في مصر مصريَّ، وما أنا بمصريَّ. فلئن تخطتني جنسيتها، فما حرمتني الفطرة مشاركة أهلها في عواطفهم وشعورهم وكثير من أطوارهم. كانت إقامتي في مصر منقطعة، فلم أر أن أعرض لسياستها إلا بقدر معلوم، وما عنيت العناية اللازمة بالوقوف على تراجم أهلها، وتوخيت أن أعرف مجملات عنهم، وذلك لتشعب أطراف موضوع لا يبَّرز فيه إلا من تمحض له وأنقطع إليه. وأحتاج على الأكثر أن أعرف من رجال مصر تراجم العلماء والأدباء، أما تراجم السياسيين وغيرهم فشرح يطول.

من الطبيعي أن يتآلف المتشاكلون في الفكر والثقافة، وفي القاهرة من ذلك ضروب وألوان، ولا يصعب كثيراً على النازل عليهم أن يصل إلى الطبقات المنوعة إذا كان إدلاؤه مهرة ما دام المصريون معروفون بهذا الظرف وهذا اللطف. وبعض سكان عاصمتها كأهل العواصم في الغالب تصدُّهم متاعب الحياة فيها عن الافتكار فيما يفكر فيه الناس في العادة، من مثل الوفاء وتعهد الصاحب، فيصْدُق عليهم أنهم من الطبقة التي لا يسرُّها من حضر ولا يسوئها من غاب، أو أن هذا من خلق عدم المبالاة المتأصل في بعض إفرادهم.

مصر من البلدان التي يعيش فيها الغريب خمسين سنة ولا يفتأ كل حين يقع فيها على شيء جديد، ويظفر بموضوع طريف ما كان له به عهد بالأمس. عرفت صديقي وحيد بك الأيوبي، وهو وأنا في مَيعَة الشباب، وكان من أبناء الأعيان المفكرين المثقفين. وتفارقنا زمناً ثم التقينا قبل اثنتي عشرة سنة، وإذا به رئيس جمعية جهرية سماها اسماً غريباً (البُعكوكة)، وبُعْكوكة الناس مجتمعهم على ما في القاموس. وكانت هذه البعكوكة تلتئم كل ليلة في قهوة متواضعة من منعطفات شارع إبراهيم باشا، ثم انتقلت إلى قهوة السلام (كافيه دي لابيه) في نفس الشارع. ويبدأ اجتماع أعضائها من بعد العشاء، وينصرفون بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين أحياناً. وتتألف من محامين وأطباء ونواب وموظفين ورؤساء دواوين ومؤلفين وصحافيين وأعيان أصحاب أطيان موسرين وغيرهم، ولا يق المواظبون منهم عن ثلاثين رجلاً، ما فيهم إلا الممتاز بأدبه وفضله. فإذا اجتمعوا تجردوا عن مظاهرهم، وكانت اجتماعاتهم للمرح والتنادر وسماع الأخبار. ويجاهرون بأن بعكوكتهم فوق الأحزاب وفوق السياسة، ولا غاية لهم إلا الضحك والإضحاك. والرئيس وحيد بك الأيوبي، ونائب الرئيس إدوارد بك قصيري من أكبر المحامين في مصر.

هؤلاء الجماعة من العاملين في الحياة، فإذا انتَدوْا كل ليلة - وقد يزورهم في بعكوكتهم إخوان لهم من حين إلى آخر - فللترويح عن نفوسهم، وللخوض في لهو الحديث. ولك أن تصف جماعة البعكوكة بأنهم مجدُّون في أوقات الجد، هزَّالون في أوقات الهزّل، ويا ما أُحَيْلي اجتماعاتهم، وأوقع في الأذن أصوات مجادلاتهم. وشرفني الرئيس بعَدِّي في جملتهم، وأمرني أن أنشئ بعكوكات أو بعاكيك في بلاد الشرق. فصدعت بأمره؛ وأنشأت في داري بعكوكة يختلف إليها أخلص الأصدقاء، ولكن خُلاَّني بعاككة دمشق إذا شابهوا إخواني بعاككة القاهرة في دراساتهم وثقافاتهم، فلن يشاركوهم بخفة أرواحهم وتنكيتهم.

بلاد الشام سهلية جبلية معتدلة يغلب الانقباض على أهلها، وبلاد مصر سهلية حارَّة يغلب المرح والطرب على أهلها.

ولله ما يجري في هذه البعكوكة المصرية، فإن كل أعضائها والرئيس على رأسهم يصطنعون المرح ويلتمسون الضحك، وناهيك بجمعية فيها مثل الدكتور محجوب بك ثابت المشهور بعلمه وخفة روحه وحضور نكتته. وأذكر أني عدت من الشام في بعض السنين، وكنت متلهفاً شوقاً إلى أخواني البعكوكيين فقصدت إلى البعكوكة لأستطلع طِلع أحوالهم، فرأيت بعضهم مكتئباً، والرئيس مقطباً، فسألت عن السبب فقيل لي: إن الرئيس مصاب بضعف بعض الأعصاب، والأعضاء في حزن من جراء ذلك، وكل منهم يكد قريحته ويستوحي علمه لإيجاد علاج يُعيدُ إلى الأستاذ نشاطه وصحته، ويتنافسون في هذا الشأن، ولا تنافس وزراء السلطان إبراهيم العثماني في إيجاد مقو لضعفه، مع الفارق بين أعضاء البعكوكة وأعضاء وزارة الفاجر إبراهيم. وفي الحقيقة أن أعضاء البعكوكة كانوا يجدون في شفاء رئيسهم مخافة أن يصاب المرؤوسون بمثل ما أصيب به رئيسهم، ولا تسل عما ذكر خلال تلك الأيام من نكات وحكايات وأشعاراً وآثار، وأكثرها مما يضحك الثكلى، ويسلي الحزين، ألتُزِم فيه جانب الأدب، ورعاية آداب الاجتماع.

رجعت إلى الشام وكتبت كتابين مطولين في فترة قصيرة إلى الرئيس، أذكر له بعض ما فتح الله عليَّ من أدوية لدائه. فلما قرأهما الرئيس على الأعضاء تجددَّت لهم عناية بمداواته، وبقى القوم يهتمون لذلك سنة لا تخلو ليلة من الإلماع إلى سير مرض الرئيس وإلى ما ظهر من الأدوية وإلى ما وفقوا لمعرفته من طلاسم وادعية إلى غير ذلك مما ينجع في شفائه. والرئيس يشكو وهم يخففون عنه آلامه ويسلّونه. ولما عدت في الشتاء التالي إلى القاهرة سألت الرئيس عن حاله فضحك وقال: وأنت أيضاً صَدَّقت ما زعمته لكم؟ إني أدعيت هذه الدعوى لأُضحككم، وقد حصل المقصود من هذه الفِريْة فضحكتم بها حولاً كاملاً، وأنا بحمد الله ليس لي ما أشكو منه مما ذكرته لكم، فعجبت وأكبرت صفات الرجل وحبه لمرؤوسيه، كما كنت أعجب بكرمه على كل بائس مُمْلِق، وقلت له: إن انتسابي إلى بعكوكته أحب إلى نفسي من كل لَقب لُقِّبْت به، ومن كل مجمع علمي شرفني بعضويته، فمع جماعته السَّلْوَى والسرور، ومع أولئك كَدَّ الذهن وكرب الجد.

يكتب رئيس البعكوكة الحين بعد الآخر في جريدة الأهرام قطعاً لطيفة في اللغة والأدب والسياسة. وجاء البرق ذات يوم ينقل كلام أحد رجال السياسة ويقول: إن الإنجليز يرابطون بجيشهم في مصر لحماية الاستقلال؛ ومن الغد كتب الرئيس بضعة أسطر في الأهرام يُكَبِرُ هذه العناية بأمر مصر ويقول: إن عندنا الآن إذاً احتلال واستقلال، فماذا نسميهما؟ نسميهما (الاحتقلال) أخذ من الأول حرفين ومن الثاني ثلاثة. وسأله مكاتب التيمس في القاهرة: وماذا نسمي ذلك بالإفرنجية؟ فقال على البديهة: مأخوذة من الاحتلال والاستقلال. وكثر السائلون للرئيس عن هذا الاسم الجديد وعما إذا كان له أصل في اللغة وهنئوه على توفيقه للعثور على هذه اللفظة الجميلة. وعبثاً حاول أن يقنعهم أنها لفظة وضعها وضعاً؛ وما كان بعضهم يرضيهم إلا أن يكون وجدها في معجمات اللغة.

ورئيسنا يعطف على كل من يعدُّه الناس ثقيل الظلِّ، فإذا سمع بمن هذه حاله أحتضنه وبره. وقد يصحب أحد الصعاليك المعدمين إلى مطعم الكونتيننتال يغدِّيه أو يعشِّيه. وقد أعترض عليه مرة نائب رئيس البعكوكة إدوارد بك القصيري قائلاً له: إن فلاناً في حاجة إلى (بنطلون) وأنت تنفق عليه في الوجبة الواحدة ما يزيد على الخمسين أو الستين قرشاً صحيحاً. أعطه ثلاثين قرشاً يشتر بها بنطلوناً بعشرين والعشرة ينفقها على عياله. فأجابه الرئيس: سبحان الله يا إدوارد بك! ألا تعلم أني إذا عاونته على ابتياع بنطلون جديد أكون قد غيرت معالمه وأبدلت شكله؟ وأظن الرئيس يقصد باستصحاب الفقراء إلى مطاعم الأغنياء ليقول لهؤلاء بلسان الحال إنه لا قيمة لما تتعاظمون به من البذْل، وأن الفقير قد يشاطرهم هناءهم ببذل عَرَض قليل.

وعقل رئيس البعكوكة، والحق يقال، ليس من العقول المحدودة، بل عقله مبتكر مبتدع، فقد أصدر في صباه ثلاث جرائد في وقت واحد بأسماء مختلفة، ومديرين ومحررين مختلفين، جعلها كلها لمقاومة الاحتلال، وأقام لها كتاباً ومراسلين ومحررين، وكان يصدرها في أوقات مختلفة. وليس لها كلها إدارة غير جيب الرئيس وقمطره يكتبها أو أكثرها، وينشرها على أنها ثلاث جرائد مختلفة الوضع والطبع، متحدة المنزع والغاية. ولم تُكشف هذه اللعبة إلا بعد مدة طويلة. وله من هذه الألعاب أشياء تَسر ولا تَضر يَضحك منها ويُضحك.

كان الشيخ طاهر الجزائري كثيراً ما يحدثنا بأخبار الدكتور حسين عودة نزيل صيدا، يُلقيها علينا ممزوجة بهزل وغير خالية من جد. فامتلأت الرؤوس بأخبار صاحبه، وود كل واحد منا لو يطير إلى صيدا فيتعرف إلى هذا الطبيب. وما كتب لأحد من جماعتنا أن يقوم بهذا الغرض قبل صاحب هذه المفكرات. فإني قصدت إلى صيدا لألقي فيها جامعَ شتات الفضائل بلدَّينا حسين عودة، فأبلَّ غليلَ شوقي إلى رؤيته.

وأريد أن يُعرْف من هو الدكتور عودة. ولد الدكتور في دمشق، والتحق في صباه بمدرسة القصر العيني في القاهرة لأخذ الطب، فرسب لشدة ذكائه عدة سنين، وما زال يرسب في صَفِّه حتى جاء مصر الأمير عبد القادر الحسني الجزائري يوم فتح قسم من ترعة السويس سنة 1863. وقد رجاه أهل حسين عودة أن يكلم الخديوي إسماعيل ليسهل على أبنهم أخذ شهادة الطب. فصدر الأمر بمنحه شهادته فأغتبط وأختار السكنى في صيدا زاهداً في سكنى بلدته الأصلية لئلا يكون موضع سخرية عند الهزالين من أهل دمشق، لأن خلقته وقيافته تضحكان حقيقة، فهو مجدور، في عينه شتر، وفي رجله عرج. ووفاء لمدرسته لم يرض أن يخلع بزتها طول عمره؛ فكان إذا بلى المعطف، وقد كتب على أزراره (تلميذ القصر العيني) أوصى على معطف جديد من نمطه، وذلك كل عشر سنين مرة، ورفع الأزرار عن المعطف القديم، وأناطها بالبذلة الجديدة، يذكر الناس بأنه خريج كريم، من ذلك المعهد العظيم.

كانت هدايا الدكتور تتري إلى صديقه الشيخ طاهر الجزائري بدمشق يحملها المكار كل مدة من عاصمة الفينيقيين إلى عاصمة الأمويين. أتدرون ما كانت تلك الهدايا النفيسة؟ كانت قصاصات من جرائد مصرية وسورية قديمة وحديثة، أقدمها لا يزيد على بضعة أشهر، وعمر أحدثها شهر واحد فقط. وكان يقطع من كل جريدة ما راقه، ويجمع الباقي ويضعه في كيس نظيف أبيض، ويخيطه جيداً حتى لا تمتد الأيدي إلى السرقة منه. وقد أتحفني المُهدي إليه مرة بكمية منها. فلما رأيتها قديمة استعفيت من أخذ حصتي في الدفعة الثانية، وأحببت أن أخص بها من يحبون الجرائد ولو كانت قديمة بالية.

كان الدكتور حسين عودة مولعاً بالحشائش، ويطب مرضاه بها على الدوام، وقد ملأ المجلات الطبية في عصره بفوائدها، فأول ما وقعت عيني عليه في داره مجموعات عظيمة من هذه الحشائش مرتبة مصففة مجففة، جعلت على مناضد ومقاعد، وكتبت أسماؤها عليها مثل ما ترون من نوعها في متاحف النباتات ومعارضها، وألقيت نظري على الحائط فإذا به عال جداً لا يقل علوه عن أثني عشر متراً، فسألته ولم هذا الحائط شاهق إلى هذه الدرجة؟ فقال: لأن النظر إلى البحر يؤذيني، ويحمل الكرب إلى قلبي، ولذلك أقمت هذا السور ليحول دون نظري وما يكره.

كان الدكتور يطب الأغنياء في بيوتهم بقرش واحد، فإذا زاروه في عيادته أخذ منهم ربع قرش (متاليك)، أما الفقير فإن قصده أو ذهب هو إليه بنفسه، لا يقبض منه شيئاً، ويعطيه ثمن الدواء، والدواء بالطبع بعض تلك الحشائش. ولذلك يُعَّد الدكتور عودة من أبر الأطباء بيمينه التي أقسمها يوم خرج من المدرسة الطبية إلى مدرسة الحياة. وسرت مع الدكتور في أسواق صيدا وضاحيتها فرأيت أهل البلد كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساءهم، أطفالهم وبناتهم، يعرفون الدكتور ويعظمونه، ويسألونه في الطريق علاج أسقامهم، ويدعون له بطول العمر.

ودّعت الدكتور وقد شفيت النفس من المتعة به ثلاثة أيام، وكنت نازلاً في الطبقة الثالثة من فندق المطران، فقيل لي بعد الغروب بثلاث أو أربع ساعات: إن الدكتور آت لزيارتك، فعجبت وخففت لأتلقاه على السلم وقلت له: لماذا تصدْع نفسك يا سيدي، وقد ودَّع كلٌ منا صاحبه في النهار؟ فقال: هذا واجب أقوم به، فشكرت له أدبه وتفضله. ورأيته في هذه الزيارة الليلية يحمل نبوتاً أطول منه وفانوساً صغيراً، ويلبس في رجليه قبقاباً عالياً. فسألته بأدب: لم يلبس القبقاب والوقت صيف؟ فأجابني بما معناه: إن دبابات الأرض كثيرة، ولا يأمن الساري في الليل من شرها، فلكي يكون بمأمن من قرصها يحمل هذا المصباح يستصبح به عله يراها قبل أن تصل إليه؛ فإذا اقتربت منه ضربها بالعصا، وإذا حاولت الصعود إليه تعذر عليها الصعود إذ يقتلها قبل أن تصل إلى رجله، وكان في قوله جاداً، وكان جداً كله، وهذا وجه لطافته.

ومن جملة جدِّه أنه كان يعتقد أنه يعيش العمر الطبيعي، والعمر الطبيعي عنده مائة وخمس وثلاثون سنة، أو مائة وأربعون لا أدري، ولما كان هو على غاية من التقوى ولم يسيء استعمال قوته قط، فإنه بالغ بحول الله هذا العمر لا محالة. أما هو فعاش في هذا الأمل اللطيف نحو تسعين سنة. ومن أخبار جدّه، وهو معتقد بما يقول ويفعل ما حدث له مرة، وهو يتنزه على شاطئ البحر مع صاحبه الشيخ طاهر، وقد لحق بهما أحد الطلبة، وكان هذا لا يخلو من جذب على ما يظهر. وبعد مضي أربع ساعات على اجتماعه إليهما ألتفت إلى الدكتور وقال له: يا سيدي الدكتور أرجو ألا يكون في حضوري ما ينغص عليك خلوتك إلى الشيخ. فأجابه الدكتور بدون توقف: يا بني نحن لم نحس أنك معنا، وأنا في شاغل عنك، نحن الآن ندبر أمر ثلاثمائة مليون من المسلمين، وهكذا كان وما شاء الله كان.

محمد كرد علي