مجلة الرسالة/العدد 361/كفاءة هتلر الخطابية
→ النقد الرخيص | مجلة الرسالة - العدد 361 كفاءة هتلر الخطابية [[مؤلف:|]] |
من أدب الحرب ← |
بتاريخ: 03 - 06 - 1940 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
(يصدر في هذا الأسبوع كتاب جديد لصديقنا الأستاذ الجليل
عباس محمود العقاد عنوانه (هتلر في الميزان)، وهو دراسة
تحليلية مستفيضة لهذا الطاغية الشاذ بلغت مائتين وأربعين
صفحة في خمسة فصول وعشرات من الموضوعات شملت
نواحي هذه الشخصية التي بلبلت العالم وزلزلت الأرض.
ويسرنا أن نبادر فنقدم إلى قراء الرسالة هذه الصفحات من هذا
الكتاب القيم لنعجل لهم بعضاً من لذاته، ونعرض عليهم وجهاً
من طريقته)
في كل شهرة خطابية منافذ للمبالغة والإطناب لا بد منها في كل زمان، وفي زماننا الحاضر خاصة
ومنافذ المبالغة والإطناب هذه تأتي من مصادر متعددة: بعضها بريء وبعضها متهم، ومنها المقصود المدبر، ومنها الذي يحدث على غير قصد وتدبير
فأول مصادر المبالغة والإطناب جمهور السامعين، وهم كدأب الجماهير يحبون أن يتأثروا وأن يخلقوا لأنفسهم دواعي الحماسة والمغالاة، وأن ينوموا أذهانهم تنويماً يسهل لهم أن يعتقدوا ما يحبون اعتقاده، وأن ينساقوا في موجة من الشعور لا تطيق الحدود، ولا تقف دون الإعجاب الكامل. لأن الوقوف عند حد من الحدود المعقولة يفسد الحماسة، وليس إفساد الحماسة مما تطيقه الجماهير.
وهي، أي الجماهير، طبقات من هذه الخليقة: ترتفع أو تهبط، وتعتدل أو تجمح مع الشطط، على حسب موقفها من الخطيب وموضوع الخطابة.
فإذا كان موضوع الخطابة نعرة قومية أو شهوة عدائية يشترك فيها الخطيب والسامعون، فالجمهور في هذه الحالة على استعداد للحماسة والإطناب بغير مقدرة كبيرة في الخطيب.
وإذا كان السامعون مرؤوسين لذلك الخطيب، أو أتباعاً متشيعين لحزبه، يكرهون الغض منه لأنهم يحسبونه غضاً منهم، ويحبون إكباره لأن كبره منسوب إليهم، فهم إذن أكثر استعداد للحماسة والإطناب.
وإن كانوا فوق هذا صغاراً ناشئين يفورون بحرارة السن الباكرة فأحرى بهم وهم جماعات وجماهير أن يستسلموا لما يسمعون، وألا يجشموا الخطيب معجزة الإبداع، ليستجيش بها قلوباً هي من قبل ذلك لا تهدأ من الجيشان.
فأدنى الجماهير إلى التسليم هو جمهور صبية ناشئين يصغون إلى زعيم يفخرون به فخر العصبية، ويسمعون منه صيحة الكبرياء الوطنية. . . وهذا هو جمهور هتلر في جميع المواقف، إلا القليل الذي لا يذكر.
وقد شهد الناس في مصر مجامع يحتشد لها السامعون زرافات زرافات من جميع الطوائف والأسنان، ليسمعوا كلاماً يعلمونه ويحفظونه، من خطيب لا يعجب السامع بصوته ولا بإيمانه. . . بغية الاجتماع في الواقع لا بغية الاستماع
ثم تتكرر الدعوة ويتكرر الإقبال ويتكرر التصفيق الذي لا باعث إلا الرغبة في شيء يثير الشعور ويدفع السآمة و (يبرر) للجمهور وجوده وسعيه وانتظاره، ويربحه من الحكم على (وجوده) بالفناء. والفناء كربة إلى كل موجود، جمهوراً كان أو غير جمهور!
وفي وسعنا أن نشهد كل يوم حشداً من الناس يبذلون من مالهم ليستمعوا إلى ممثل مضحك مشهور في دور من الأدوار.
فما هو إلا أن يلفظ الكلمة الأولى حتى ينفجر السامعون بالضحك والقهقهة. وربما سأل أحدهم جاره: ماذا قال؟ بعد أن يكون قد ضحك مع الضاحكين!
فالمصدر الأول للمبالغة والإطناب في شهرة الخطباء هو أبرأ المصادر وأخلاها من الغش وفساد الذمة، وهو دفاع الجمهور عن وجوده حيث انتظم له وجود.
والمصدر الثاني وسط بين البراءة والاتهام، وبين الاندفاع والتدبير: وهو مصدر الرواة وكتاب الأخبار
فإن الصحيفة الإخبارية لتتعمد التهويل والإغراق في وصف حادثة لا تستحق الالتفاف إليها. لأنها تريد من القراء أن يلتفتوا؛ وتعيش من التفاتهم إلى ما تكتب. لا من تعويدهم أن يهملوا الأخبار التي تستحق الإهمال
والكاتب الذي يسافر ألف ميل لينقل خطبة يلقيها أحد الزعماء في يوم مشهود مرتقب المصير من المغرب إلى المشرق قد يفقد وظيفته إذا قنع بما دون السحر والإعجاز في وصف ما سمع وما رأى، وما لبث الناس ينتظرونه ويتكهنون به متشوقين متلهفين!
وقد تتفق الرواية الأمينة في الصحيفة الرصينة فيقرأها العارف المسئول ويعرض عنها طالب المناظر والعناوين، ممن ينظرون إلى مسرح السياسة كما ينظرون إلى مسرح التمثيل، وهم جمهرة القراء والنظارة في كل مكان، فيتواتر النبأ المبالغ فيه، وينقطع النبأ الذي يحرص على الصدق والأناة، وينتهي الأمر برواج الكذب والتلفيق، وبالشك في الصدق والأمانة.
فمبالغة السامعين ومبالغة الرواة ملازمتان لكل شهرة سياسية في كل زمان ولا سيما زماننا الحاضر: زمان النشر والإذاعة، وزمان التشوف إلى الجدة والغرابة ودفع الملل والسآمة.
ويأتي بعد المبالغة السامعين ومبالغة الرواة مصدر آخر من مصادر التهويل في الشهرة الخطابية قائم على النية السيئة والخطة المرسومة، ونعني نه مصدر الدعوة المسخرة والأقوال المأجورة، وهو سلاح يعتمد عليه النازيون خاصة فوق اعتمادهم على سلاح الميدان وجميع هذه المبالغات قد بلغت في تعظيم شهرة الزعيم النازي أقصى ما يتاح لشهرة أن تبلغ على الإطلاق: فاهتمام النازيين بالدعوة المسخرة قد جاوز كل اهتمام وجمهورهم أقرب الجماهير إلى التسليم والاستسلام، وحملة الأقلام ما فتئوا عدة أعوام يتنافسون في إشباع نهمة القراء بين جميع الأقوام.
فمن الطبيعي إذن أن تكون حقيقة هتلر الخطابية أقل كثيراً من شهرته التي أذاعها الدعاة والصحفيون والسامعون من أتباعه ومريديه، وأن يدخل في حساب شهرته كثير من المبالغة والاختراع و (الإخراج).
ونحن في عصر نسمع فيه الخطباء ونراهم على بعد، ونحكم على المتكلم في برلين أو موسكو أو واشنطن حكم راء وسامع، فما على المذياع ولا على الصور المتحركة من بعيد.
وقد رأينا هتلر وسمعناه فهو ولا شك خطيب مبين، ولكن لا شك كذلك أنه ليس من ملوك الكلام في عصرنا الحاضر؛ وأنه لا يعد من طبقة الخطباء الذين يخاطبون كل جمهور ويتكلمون في كل قضية ويروضون عصى الأسماع، ولا تخاله يحسن القول بضع لحظات في موضوع غير الموضوع الذي يقلبه منذ عشرين سنة، أو بين أناس غير الذين يوافقونه في الجملة، ولا يخالفونه - إن خالفوه - إلا في التفصيل.
فليس هو في إفاضة بريان، ولا في بادرة لويد جورج، ولا في مهابة سعد زغلول.
ولكنه أقرب إلى الممثل الذي كرر دوره حتى حفظه ووعاه ووقع فريسة له فلا يقدر على تبديله
تخيله مثلاً غير غاضب، أو غير متكلم في مظالم ألمانيا المزعومة، أو غير مطمئن إلى آذان سامعيه
وتخيله واقفاً في لندن أو في موسكو أو في القاهرة يفاجئ السامعين على غير معرفة باسمه، ولا عهد بموضوع كلامه
إنه إذن ضائع لا محالة
وعيبه الأكبر أنه لا يقنع ولا يقيم الدليل، وأنه ما خرج قط على عادة واحدة تتردد في جميع مواقفه وموضوعاته، وهي إثارة الحفائظ وإضرام الكراهية ومواجهة السامعين من جانب الشعور المتفق عليه بينه وبينهم. . . وفيم اجتهاده في إقناع من هو قانع؟ وإيمان من هو مؤمن بغير برهان؟
ومرجع هذه العادة عنده إلى علل كثيرة: بعضها أصيل عالق بطبعه؛ وبعضها حديث طارئ عليه من حوادث حياته وعصره فالحديث الطارئ عليه هو هذا الذي ذكرناه؛ وهو أنه تعود في أيامه الأخيرة على الأقل أن يخاطب أناساً لا يحاسبونه ولا يجسرون على حسابه، ولعلهم لا يريدون أن يحاسبوه لاتفاق الشعور بينه وبينهم.
والأصل العالق بطبعه أنه فقير في العاطفة الشخصية، غني في العاطفة الشعبية أي العاطفة التي تربط بين الفرد والجماهير والعاطفة الشخصية هي التي تربي المساجلة والمحادثة، ومواجهة العقل للعقل، والنفس للنفس، والإصغاء في موضع الإصغاء، والإثبات بالحجة في موضع الإثبات.
فالرجل المفطور على عاطفة يساجل بها العواطف، وفكرة يقابل بها الأفكار، يقول ويسمع، ويستميل الفرد بالوسائل التي يستمال بها الأفراد، مرة بالإيحاء، ومرة بالدليل، ومرة بالشرح المفهوم؛ وفي كل مرة بتبادل الثقة والاعتراف بحق المناقشة والاعتراض.
أما الرجل الذي نضبت نفسه من جانب العاطفة الفردية، والذي ليس عنده ما يتبادل به مودة بمودة أو فهماً بفهم أو خاطراً بخاطر، والذي انقطعت جميع الوشائج بينه وبين إخوانه من أبناء آدم إلا الوشيجة التي تكون بين الواحد والألوف أو بين الداعية ولجمهور - فذلك رجل محدود القدرة على التحدث والتفاهم وعلى الإصغاء والإقناع، محتوم عليه أن يجد جمهوراً يستمع له ويكتفي منه بالاستماع، أو أن يتخيل نفسه قائماً بين جمهور وإن كان في مجلسه أفراد قليلون.
لهذا اشتهر هتلر بالتدفق في أحاديث السياسة ساعة بعد ساعة دون أن يقف أو يتمهل أو يسأم التكرار. فأن لم يتدفق في أحاديث السياسة، فهو بين حكاية نادرة أو إعادة ملحة مطروقة أو سرد تاريخ قديم؛ فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فليس في مجلسه إلا السكوت والوجوم.
فهتلر الفرد (معدوم)
أما هتلر الموجود، فهو البوق الذي ينفخ في الجماهير أو يردد صدى الجماهير.
وانظر إلى صوره وهو في مواقف التفاهم والتحادث تر أمامك صوراً فاترة باهتة تنطق بالتكلف ونقص الحياة وتبعث في نفس ناظرها الريبة والنفور.
أما الصور التي يحيى فيها وتلبسه الحركة والشدة، فهي الصور التي ينقطع فيها التفاهم ويثور فيها الغضب وتتأجج فيها البغضاء.
وماذا ترى في هذه الصور؟
إن الخطباء الحماسيين جميعاً ليغضبون، وأنهم جميعاً ليحركون الغضب في الجماهير.
إلا أن الفرق بين غضب وغضب لفرق عظيم، وإن الاختلاف بين حماسة وحماسة ليفوق الاختلاف بين القوة والمرض، وبين الجلال والهوان
رأينا سعد زغلول وهو غاضب في خطبه، فرأينا غضباً كأنه السيف يصول به الفارس على قرنه، ويعرف كيف يصول ورأينا هتلر وهو غاضب في خطبه، فماذا رأينا؟ رأينا غضباً كأنه الدمل المفتوح بنفس عن ضغينة كامنة كأنها القيح المحبوس، فهو فرصة للألم والتذاذ الألم في وقت واحد، وهو علاج للتنفيس عن داء، وليس بالسيف في أيدي الأقوياء
هو نوبة مصروع وليس بوثبة صارع.
وهو منظر تزور منه العيون، وليس بمنظر تود العيون أن تمتلئ منه
وهو رقصة الهمجي في حومة الدم أمام أوثان النقمة والتشفي، وليس برقصة الفارس في حومة البرجاس
وقد جمعنا في هذه الصفحات صوراً عدة لهتلر وهو يخطب، أو وهو يغضب، لأنه في الحقيقة قلما يخطب إلا ليغضب. فأية صورة من تلك الصور يا ترى يستطيع القارئ أن يكتب تحتها مثلاً: (هذه صورة هتلر يزأر أو يزمجر؟)
إن هذا الكلام ليكتتب تحت صور كثيرة لمصطفى كمال أو لسعد زغلول، ولكن هتلر - على عنايته بصوره واتخاذه رساماً خاصاً يتبعه في جميع المحافل ويوزع في أقطار العالم ألوف الصور بل عشرات الألوف منها - لا توجد له صورة واحدة تخيل إلى الناظر هيئة الأسد المزمجر أو الأسد الغاضب، وكلها بلا استثناء مما يصح أن يكتب القارئ تحته: (هتلر يعوي) أو هتلر (يلطم). . . ولا جناح عليه
ومن المعقول أن رجلاً كهذا يحب حلقات الخطابة التي يتزين فيها لشياطين غروره وحقده كما تتزين المرأة المجنونة لشياطين الزار، ويستريح فيها الهياج والتهييج كما تستريح تلك المرأة لصرعة الرقص وجلبة الطبل ورؤية الذبائح وهي تتخبط في الدماء.
ومن المعقول جداً أن يكره مواقف المفاوضة والتفاهم لأنها تلطمه على عجزه وتكشف له عن خواء طبعه، وتخرجه منها وهو في رأي نفسه أقل من حوله. . . إلا أن يلجأ إلى التهديد بالحرب كما يفعل في معظم أحاديثه، فهو إذن في موقف الإملاء وليس في موقف المفاوضة والإقناع.
وقد سجلت كلماته في المفاوضات التي دارت بينه وبين سفراء الدول ورؤساء الحكومات، فإذا هي عبرة العبر وأضحوكة الأضاحيك لا يكون فيها إلا ممثلاً يراوغ، أو مهدداً يتوعد، أو منكراً لما يقال على طريقة الأطفال والنساء الجاهلات: إني أنكر هذا لأني أنكر هذا، ولا مزيد. . .
ناقشه مستر شامبرلن رئيس الوزارة الإنجليزية في الشروط التي فرضها على حكومة براغ، وأوجب عليها فيها أن تخلي الأرض المطلوبة وأن تبدأ الإخلاء في الساعة الثامنة من صباح السادس والعشرين من شهر سبتمبر (1938) وأن تتمه عند انتهاء اليوم الثامن والعشرين
فقال له مستر شامبرلن إن هذا إملاء (إنذار نهائي) بغير حرب، وبغير هزيمة على أمة قبلت المطالب وقبلت الاحتلال
واختار شامبرلن كلمة (إملاء) عمداً لأن هتلر يذكرها كلما ذكر معاهدات الصلح ومعاهدة فرساي على الخصوص، ويعتبرها موجباً لفسخ تلك المعاهدات
فما زاد هتلر على أن قال: (كلا. ليس هو إملاء). وأشار إلى رأس الورقة قائلاً: (أنظر. . . إن الورقة مكتوب عليها كلمة مذكورة. .)
وهو كلام يقال للابسي القمصان في ساحة الخطابة فيقبلونه ويسيغونه، ولكنه لا يقال في مفاوضات وزراء وسفراء
فالخطابة هي الميدان التي يغلب فيه هتلر بهذا الأسلوب، ولن يغلب به في ميدان آخر
وقد حذق من الخطابة ما يحدق بالمرانة ومساعدة السامعين المستعدين للإصغاء والتصديق وأهمه تدفق الكلام وسهولة التعبير.
ولم تزوده الطبيعة من أدوات الخطابة الفطرية إلا بزاد واحد وهو انقطاع الصلة النفسية بينه وبين الأفراد واضطراره من أجل ذلك إلى مواجهة الجماهير للشعور بالحياة ونشاط الإحساس.
ومتى نشطت نفسه ودبت الحركة إلى ذهنه فلا يندر أن يلهمه الموقف بعض الخواطر البارعة التي يمثل بها أعداءه في صورة مزرية، أو صورة تستفز السخط والامتعاض، وكلها من ولائد الكراهية وليس فيها صورة واحدة وليدة عطف أو عناية بالآخرين.
ويختلف الناقدون في صوته اختلافاً لا يتبين الحقيقة فيه من يسمع الصوت منقولاً بالمذياع، وهو ينقل بعض الأصوات على أصلها ويعرض بعضها للتحريف وبعضها للتحسين.
فمن الناقدين من يعيبون على صوته خشونة تصك الآذان، ويقولون إنه أجرى العملية الجراحية في حنجرته لإصلاح هذا العيب ومنهم من يعجب بما في صوته من العمق ورنة التجويف، ويعده من أصلح الأصوات الخطابية لنقل الشعور الجارف والتهويل على السامعين.
وسواء كان العيب الذي يعيبه أولئك الناقدون صحيحاً أو غير صحيح فالمهم في صفات الأصوات التي تؤلف بالتكرار، وأن يكون لها طابع ولون معروف، وعندئذ قد يصبح العيب حلية مرغوباً فيها مع النجاح والتوفيق.
عباس محمود العقاد