الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 361/القصص

مجلة الرسالة/العدد 361/القصص

مجلة الرسالة - العدد 361 القصص
المؤلف: هانس كريستيان أندرسن
المترجم: عبد الغني العطري
قصة أم Historien om en moder هي قصة قصيرة بقلم هانس كريستيان أندرسن نشرت عام 1847. نشرت هذه الترجمة في العدد 361 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 3 يونيو 1940



قصة أم

للكاتب الدانمركي (أندرسن)

(عالج أندرسن القصة الرمزية فبرع بها إلى حد بعيد. وقد لاقت أقاصيصه ومؤلفاته أنصاراً ومعجبين لا يكاد يحصيهم العدد، وترجمت مؤلفاته إلى كثير من اللغات، فتناقلتها الأيدي وانكب عليها الأدباء والمتأدبون يقرأونها ويدرسونها، وما يزدادون - على كر الأيام ومر الليالي - إلا إعجاباً وافتتاناً.

و (قصة أم) من أحسن أقاصيصه وأكثرها روعة وجمالاً؛ تصور عاطفة الأم المتوقدة، وحنانها المشبوب، وحبها الذي لا يدانيه حب.)

كانت الأم جالسة إلى جانب ابنها الطفل متجهمة الوجه مقطبة الأسارير، يبدو على محياها الحزن بأجلى معانيه وأوضح صوره لقد كانت تهاب الردى أن يمد إليه يمينه فينتزعه من بين أحضانها. أما الطفل الصغير، فقد كان شديد الشحوب كثير الاصفرار، وعيناه الصغيرتان كانتا مغلقتين بهدوء ودعة، كان يتنفس ولكن بجهد وعناء؛ وقد يتنفس ملء رئتيه ويبعث مع أنفاسه أصواتاً غريبة، حتى ليخال الناظر إليه أنه ينتحب بحسرة وألم. غير أن مرأى الأم الحزينة كان يدعو للشفقة والرحمة أكثر مما يدعو لذلك منظر الطفل المحتضر ها هو الباب يطرق. . . ثم يدخل منه رجل في خريف حياته يرتدي معطفاً من جلد الفرس الكثير الدفء، وحق له أن يرتدي مثل هذا المعطف؛ فإن الفصل فصل شتاء، والبرد برد قارس. وفي خارج المنزل كانت الثلوج تجلل كل شيء، والجليد يحجب عن الأنظار كل موطئ، والرياح الهوج تزفر وتئن، حتى لكأنها توشك أن تمزق الوجوه.

كان الزائر المسكين يرتعش من البرد ويرتجف، وبما أن الطفل قد أغمض جفنيه ليغفى بضع دقائق، فقد ارتأت الأم أن ضع للعجوز إبريقاً من الجعة صغيراً ليدفئ به جسمه، ويطرد البرد من كيانه؛ فلما قامت الأم إلى ذلك دنا العجوز من سرير الطفل وأخذ يهزه برفق. . . وعادت الأم بعد حين، فتناولت كرسياً مفكك الأجزاء مضطرب القوائم، ودنت به من مكان العجوز. وأمسكت يد الطفل الصغيرة بين راحتها وأخذت تتأمله بحب وحنان، بينما كان الطفل المريض يتنفس بجهد أكبر وعناء أشد والتفتت الأم على حين بغتة إلى الرجل العجوز وقالت له تحدثه:

- ألا تعتقد أنه سينجو وأفوز به؟. . . إن الله رؤوف بعباده وهو لن يفجعني فيه أبداً. . . أليس كذلك؟. . .

أما العجوز (المسكين!) فقد كان ملاك الموت نفسه. وقد هز رأسه هزة واحدة كان فيها جواب النفي أو الإيجاب

وأحنت الأم رأسها ونظرت إلى الأرض بعينين أفعمهما الدمع السخين، وسالت العبرات منهما على الوجنتين

وشعرت فجأة بثقل في رأسها، ونعاس في جفنيها. لقد طوت ثلاث ليال كاملات لم تذق للكرى طعماً. وهنا أخذ النعاس يداعب جفنيها، فأغفت دقيقة واحدة فحسب. . . ثم استيقظت وهي ترتجف من البرد وترتعش. وألقت حولها نظرات حائرة، وصاحت بخوف وذعر:

- ما هذا؟. . .

لقد ذهب الرجل. . . والطفل الصغير لم يكن في سريره. . . إذاً لقد أختطفه العجوز ومضى به

وفي أحد أركان الغرفة كانت الساعة التي أكل الدهر عليها وشرب، تحدث أصواتاً متمازجة مختلطة؛ وكانت تروسها تصرُّ وتزمجر، وسقط على حين غرة رقاصها الرصاصي الثقيل، ثم هدأت كل حركة، ولم يعد يسمع أي صوت. . .

لقد وقفت الساعة عن الدوران

وخرجت الأم المسكينة إلى الطريق تنشد طفلها العزيز وتناديه وهناك بين الثلوج كانت تجلس امرأة عجوز ترتدي الثياب السود الطويلة؛ فما أن رأت المرأة الأم حتى هتفت بها:

- إن ملاك الموت قد دخل دارك، ولقد رأيته خارجاً منها وهو يحمل ابنك الطفل، لقد ذهب بسرعة البرق وهو لا يعيد قط ما سلبه فقالت لها الأم بتوسل وتضرع:

- ولكن أخبريني بربك من أين ذهب، وإلى أية ناحية أتجه. أتوسل إليك أن تخبريني بذلك، وسألحقن به وأجده

فأجابتها ذات الثياب السود:

- إنني أعرف الطريق التي سلكها، ولكني قبل أن أرشدك إليها أريد أن تنشديني كل الأغاني التي كنت تنشدينها ابنك الطفل. إنني أحبها كثيراً، وأحب صوتك العذب أيضاً. إنني أنا (الليل) ولطالما سمعتك وأنت تنشدين، ورأيت عبراتك تفيض على وجنتيك وأنت تغنين

- سأنشدك إياها بأجمعها، ولكن في غير هذا الوقت، فلا تعيقيني الآن عن اللحاق بولدي والفوز به.

فاعتصم (الليل) إزاء هذا الجواب بالسكوت ولم يحر جواباً.

للموت الأم حينذاك يديها وأخذت تذرف الدمع السخين. ثم شرعت تنشد أغانيها الواحدة تلو الأخرى. إن أغانيها كثيرة، ولكن الدموع التي ذرفتها كانت أكثر من عدد الأغاني كلها وعندما نفذت الأغاني وانتهت الأم من الإنشاد، رفع (الليل) رأسه إليها وقال:

- اذهبي يميناً في غابة الصنوبر المظلمة، فمن هنا لاذ (الموت) بالفرار ومعه ابنك العزيز

فأسرعت الأم إلى الغابة وصارت تغذ الخطايا فيها؛ وما كادت تتنصفها حتى تشعب الطريق فلم تدر أي سبيل تسلك. ونظرت حولها فوجدت عوسجاً من الشوك، ذهب برد الشتاء وجليده بأزاهيره وأوراقه، وجعل أغصانه تتدلى في الهواء وحدها.

فدنت منه وقالت:

- ألم تر الموت حاملاً ولدي؟

فأجابها العوسج بقوله:

- أجل لقد رأيته، ولكني لن أرشدك إلى الطريق التي سلكها إلا بشرط. ذلك أن تدنيني - أولاً - من صدرك كي أصيب بعض الدفء لأني أوشك أن أجمد وافني من شدة البرد، أكاد أصبح قطعة من جليد.

وأدنت العوسج منها، وضغطته على صدرها لتنيله مبتغاه من الدفء، وتذيب عنه الجليد المتجمد بحرَّ صدرها، فنفذ الشوك إلى لحمها، وسال الدم القاني من صدرها بغزارة، ونزف منها بكثرة؛ فنبت للعوسج أوراق طرية خضر، وجللت الأزاهير الناضرة عروقه وفروعه في تلك الليلة الشديدة البرودة من فصل الشتاء. . .

ولكم في صدور الأمهات الحزانى من نار تستعرُّ ولهيب يتأجج ثم أرشدها العوسج إلى الطريق التي يجب أن تسلكها. . .

ووصلت بعد حين إلى شاطئ بحيرة لا سفينة فيها ولا قارب، ولم تكن البحيرة من التجمد بحيث يسهل المرور عليها دون أن يغوص فيها المرء أو يتكسر جليدها، كما أنها كانت شديدة العمق؛ فلم يكن من الممكن أن تقطعها الأم خوضاً. وكان لا بد لها من أن تصل إلى الضفة المقابلة أن كانت راغبة في الحصول على ابنها.

وثار الحب في صدرها والحنين؛ فارتمت على الأرض لترى إذا كان مقدورها أن تبتلع ماء البحيرة كله!. . . فكان هذا ضرباً من التفكير العقيم؛ ولكنها فكرت في أن الله رحمة منه وشفقة لا بد من أن يحدث لها معجزة تمكَّنها من اجتياز البحيرة. فقالت لها البحيرة حينذاك:

- ولكن لا. . . إن هذا لن يكون أبداً. . . كوني أكثر عقلاً وأبعد نظراً، وفكري فيما إذا كان في الإمكان أن نتراضى ونتفق. أصغي إلى ما سأقول:

أحب أن يكون في أعماقي جواهر ولآلئ، وعيناك هاتان لهما بريق وضياء وسحر وبهاء أكثر من الدر الكريم نفسه الذي لم أملكه قط في ماضيات أيامي، فإن شئت فاذرفي الدمع سخيناً وأكثري من البكاء كثيراً، فإذا ما فعلت فإن عينيك ستخرجان من محجريهما، وحينذاك أقودك إلى ملجأ النبات الكبير على الشاطئ الآخر، وملجأ النبات هذا هو مقر الموت أيضاً. . . الموت يحصد الأزهار والأشجار، وكل زهرة أو شجرة فيه رمز لحياة إنسان

فأجابتها الأم بحرقة والتياع:

- أفلا أجود بهما في سبيل استرداد ولدي؟

من كان يحسب أنه مازال في مآقيها دموع؟ ولكنها ذرفت الدموع السخين بحرقة والتياع لم تعرفها قبلاً وخرجت عيناها من محجريهما، وذهبتا إلى البحيرة حيث استقرتا في قاعها؛ وانقلبتا إلى لؤلؤتين غاليتين لم تحز قط مثلهما ملكة من الملكات.

ورفعتها البحيرة حينذاك، كما لو كانت في أرجوحة، وبحركة موجه واحدة نقلها إلى شاطئها المقابل حيث يقوم هناك بناء كبير فخم، يجاوز طوله مساحة فرسخ كامل. ولم يكن ليقدر على تمييزه من بعد أحد: أهو جبل بمغاوره وغاياته أم هو بناء للفن والجمال؟

غير أن الأم المسكينة لم تستطيع أن ترى مما حولها شيئاً، لأنها جادت بعينيها في سبيل ولدها

وهنا علا صوت الأم وقالت بيأس شديد وألم مرير:

- ولكن كيف أعرف الآن الموت الذي انتزع مني ولدي واختطفه من بين يدي؟

فأجابتها امرأة عجوز كانت تتمشى هناك جيئة وذهوباً، وتحرس الملجأ وترعى الأزاهير والأشجار:

- إن الموت لم يأت بعد. . . ولكن كيف وصلتِ هذا المكان؟ وأي طريق سلكت؟ بل من الذي أعانك على الوصول إلى هنا؟

- إن الله عز شأنه هو الذي أغاثني وأعانني على ذلك. . . إنه رؤوف رحيم. وأنت أيتها العجوز سترأفين بي وتشفقين علىُّ. أخبريني أين أستطيع أن أجد مهجة نفسي وفلذة كبدي الغالية؟

فقالت العجوز:

- ولكن لا أعرف ابنك، وأنت - كما أرى - كفيفة البصر. وقد ذبل في هذه الليلة كثير من الأزهار والأشجار والنبات؛ وسيأتي الموت بعد قليل كي يقتلعها من الملجأ. وأنت تعلمين دون ريب أن لكل كائن بشري في العالم شجرة أو زهرة في هذا المكان تمثل حياته وصفاته، وهي تموت عندما تحين منيته والمرء حين ينظر إلى هذه النباتات يحسبها من النباتات العادية التي لا قيمة لها ولا شأن يذكر. ولكن عندما يلمس إحداها يشعر للحال بوجيب قلب وخفقات فؤاد. . .

تعالي معي إلى الملجأ وجسي تلك الأزهار والنباتات، فلعلك تهتدين إلى خفقات قلب ولدك. . . وماذا تعطيني إذا أرشدتك إلى ما يجب عليك صنعه أيضاً؟. . .

فإجابتها الأم المسكينة بحزن وألم: - لم يعد لدي شيء أمنحك إياه، ولكني سأبحث لك عن شيء يدخل إلى نفسك الغبطة والسرور؛ ولو كان ذلك من أقصى الأرض.

ولكني لست بحاجة إلى شيء من خارج هذا المكان أعطيني شعرك الطويل الأثيث؛ وأنت تعلمين دون ريب أنه جميل ساحر. إنه يعجبني كثيراً وسأستبدله بشعري الأشيب.

فقالت لها الأم:

- أما ترومين شيئاً غير هذا؟ إنه لأمر سهل! هاك. . إنني أمنحك إياه بملء إرادتي وكامل رغبتي.

ثم اقتلعت شعورها الجميلة - التي كانت زينة شبابها الغض وصباها الناضر - واستبدلتها بشعر العجوز، وهو قصير شديد القصر، أبيض ناصح البياض.

واقتادتها العجوز من يدها. . . ثم دخلتا إلى الملجأ الكبير، حيث كانت أجمل النباتات وأكثرها نضارة، تنمو بشكل باقات متراصة. وكان يرى تحت أجراس بلورية أجمل أزهار السوسن وألطفها، وإلى جانبها أزهار الفاؤيا المنتفخة. وكان يوجد أيضاً نباتات مائية شديدة النضار، وأخرى ذابلة أو شبه ذابلة، وكانت جذورها محاطة بالأفاعي الرُّقط. وغير بعيد كانت أشجار النخيل الباسقة قائمة هناك، وإلى جانبها أشجار السنديان والدلب. وفي مكان آخر كانت تنزوي حديقة البقدونس والسعتر وبقية البقول الأخرى، التي هي رمز العنصر النافع للحياة. وكان يوجد عدا ذلك شجيرات ولكنها كبيرة وضعت في أوان ضيقة، وهي في أوانيها هذه وكأنها على وشك الانفجار. وكان يرى أيضاً زهيرات صغيرة رديئة في بعض الأواني الصينية تحيط بها أزهار البابونج، وقد اعتنى بها كل الاعتناء. كل هذا كان يمثل حياة البشر الذين ما زالوا حتى الساعة أحياء يرزقون، يقطنون الكرة الأرضية من بلاد الصين إلى جزيرة غرونلاندا.

وأرادت العجوز أن نشرح لها كل هاتيك النظم والترتيبات الخفية، غير أن الأم رفضت ذلك وأبت أن تصغي إلى مقالتها، وطلبت من العجوز أن تقودها إلى كل نبت صغيرة طري العود. وأخذت الوالدة المسكينة تشم كل واحد من هذه النباتات بأنفها وتجسه بيدها، لتحس نبضات قلبه وخفقات فؤاده. وبعد أن جست المئات والآلاف، تمكنت من معرفة دقات قلب ولدها، وما أن عرفتها حتى صاحت بفرح وابتهاج: - (إنه هو. . .)

ومدت يدها إلى نبت صغير تهدلت أوراقه، وبدا عليه الذبول بأجلى معانيه وأوضح صوره فصاحت بها العجوز قائلة:

- حذار أن تلمسيه، وابقي هنا أن يؤوب الموت - ولن يطول غيابه - وامنعيه من أن يقطف هذا النبت، وهدديه باقتلاع جميع الأزهار المحيطة به إن هو فعل ذلك، وسيخشاك ويرهب جانبك، لأنه مسؤول عنها أمام الخالق العظيم، ولا يجوز لنبت ما أن ينزع من مكانه قبل يأمره الله بذلك.

وفي هذه اللحظة هبت ريح عاصفة شديدة البرودة، فتنبأت الأم بأن الموت يدنو ويقترب

ووصل الموت بعد يسير من الوقت، فلما رأى الأم نظر إليها شزراً وقال لها بغيظ:

- كيف تمكنت من الوصول إلى هنا، ومن أرشدك إلى الطريق؟ وسبقتني أيضاً؟ ماذا صنعت؟ وكيف وصلت؟

واكتفت الأم المسكينة بهذا الجواب المقتضب:

- (إنني أم. .)

ومد الموت يده الطويلة العقفاء إلى النبت الصغير؛ ولكن الأم أحاطته بيديها، وضغطتهما في حرص شديد واعتناء زائد حذراً من أن ترضَّه أو تلحق ببعض أجزائه الدقيقة أذى. فنفخ الموت على يدي الوالدة المسكينة فشعرت بهما تسقطان خائرتين. وكانت نفخة الموت هذه أشد برودة من رياح أكثر فصول الشتاء برداً وزمهريراً.

وقال لها الموت:

- إنك لا تستطيعين معاكستي في شيء.

- ولكن الله تعالى أقوى منك واشد بأساً.

- أجل. وأنا لا أفعل إلا ما يأمرني به. . . إنني مُزارعه! إن هذه النباتات والأشجار والشجيرات عندما لا تجد سعادتها وهناءها في هذا المكان أقتلعها لأغرسها من جديد في حدائق أجمل وأروع، وجنة الخلد الكبيرة إحدى هذه الحدائق، إنها أمكنة مجهولة ولا أستطيع أن أخبرك بما يجري هناك.

وعادت ألأم فصاحت من قلب جريح ونفس مكلومة: الرحمة! الشفقة!. . . لا تقتلع غصن ولدي بعد أن وجدته وأخذت تتوسل وتتضرع، وتنتحب وتتحسر، غير أن الموت لم يصغ إلى بكائها ونحيبها ولمُ يعر صنيعها اهتمامه أو انتباهه.

وقبضت الأم حينذاك على زهرتين ناضرتين والتفتت إلى الموت وقالت له مهددة:

- أنظر. . . إنني سأقطفهما مع جميع الأزهار التي تحيط بهما وسأتلفها كلها. إنك تدفع بي إلى اليأس المرير.

فصاح بها الموت:

- لا تجذبيهما!. . . لا تتلفيهما!. . . تزعمين أنك تعيسة شقية وفي نفسك رغبة في سحق قلب والدة أخرى؟. . .

- قلب والدة أخرى؟

قالت المسكينة هذا وخلَّت الأزهار من يدها حالاً

فقال لها الموت حينذاك:

- خذي عينيك، إنهما تبرقان وتلمعان بصفاء ووداعة أكثر من الوقت الذي أخرجتهما فيه من البحيرة. لم أكن أعرف أنهما تخصانك. خذيهما وانظري بهما إلى أعماق هذه البئر، فستريك ما كدت أن تهدميه فيما لو اقتلعت هذه الأزاهير، وسترين في انعكاسات الماء الخط المقسوم لكل من هاتين الزهرتين يمر أمامك كالسراب، وستريك أيضاً الحظ المقسوم لابنك فيما لو كتبت له الحياة.

وانحنت الأم على البئر فرأت صوراً من السعادة الضاحكة وألواحاً من البشر والسرور. ثم مرت بعد ذاك مشاهد مخيفة من البؤس والحزن والكآبة. وقال الموت معلقاً على ذلك:

- هذا وذاك كله من صنع الله ومشيئته

فأجابت الأم بحزن وغم:

- ولكني لم أتمكن من تميزها ما كان مقدراً لولدي. . .

فقال لها الموت:

- لن أخبرك بشيء من ذلك؛ غير أني سأعيد مشهده أمام ناظريك ثانية بين جميع الصور والألواح التي مرت أمامك الآن؛ وقد رأيت دون ريب ما كان ابنك ينتظر في الدنيا.

فجثت على ركبتيها وهي مضطربة حيرى، وأخذت تصيح:

- أتوسل إليك. . . قل لي أكان هذا الخط المخيف مقدراً له؟ ولكن لا. . . أليس كذلك؟ تكلم. . . ألا تريد أن تجيب؟ آه. . . وقطعاً للشك خذه. . . كي لا يعرض نفسه للخطر، وكي لا يجابه مصائب وكوارث كالتي رأيت. إنني أكن من الحب لهذا الطفل العزيز - البريء من كل جرم، والبعيد عن كل إثم - أكثر مما أكن لنفسي. خذه. . . وليبق الحزن والأسى لي وحدي. اذهب به إلى عالم السماء والخلود. . . وانس الدموع الغزار التي سكبتها، والتضرعات الحارة التي توجهت بها إليك. . . إنس كل ما بدر مني من صنيع أو قول.

فقال لها الموت:

- ولكني لا أفهم مبتغاك!. . . أتريدين استرداد ولدك؟ أم تريدين أن آخذه إلى المكان المجهول الذي لا أستطيع أن أحدثك عنه؟

فجثت الأم حينذاك على ركبتيها ورفعت يديها، وجأرت إلى الله بدعائها:

- (رباه! لا تصغ إلىّ إذا التمست في أعماق نفسي ما يخالف إرادتك وينافي مشيئتك اللتين هما من أجل صالحنا ونفعاً أبداً. لا تصغ إلىّ ولا تستجب مني يا رباه. . .)

وسقط رأسها بهدوء وبطء على صدرها، وغرقت في لجة من الحزن العميق والغم الشديد.

ودنا الموت من النبت الجميل الصغير واقتلعه. . . وذهب به إلى الحديقة ليغرسه فيها. . .

(دمشق)

ترجمة

عبد الغني العطري