مجلة الرسالة/العدد 360/في سبيل الأزهر أيضا
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 360 في سبيل الأزهر أيضا [[مؤلف:|]] |
مسكن الفلاح ← |
بتاريخ: 27 - 05 - 1940 |
ً
الصراحة لغة الحق
للأستاذ حامد عوني
لقد عودنا الأستاذ النابه صاحب الرسالة الغراء في مطالع رسالته المشرقة أن يميط لنا اللثام عن وجه الحقيقة، وأن يسمعنا من حين لآخر صيحة الحق في غير مواربة ولا مراءاة، وذلك ما دعاني أن أتقدم إليه بكلمة هي وليدة هذا المبدأ الكريم رجاء أن يفسح لها مكانها من رسالته كما فسح لغيرها من صيحات الحق وله بعد ذلك شكر الله والناس
كان العرب - وهم في جاهليتهم الجهلاء - قوماً شبوا في أحضان البداوة الجامحة، ونشأوا في كنف العيش الجاف والحياة الشاردة، وكانوا إلى ذلك لا يدينون بغير القول الصراح، واللفظ المحسور اللثام، لا يعرفون فيه زيفاً أو مراوغة، ولا في أدائه عبثاً أو مهاودة حسبما تمليه عليهم طبيعة البادية، وتوحي به الشهامة العربية
وعلى هذا المنوال من القول نسج الإسلام رايته، وعلى غراره أدى رسالته، فعمت دعوته جميع الأرجاء
وهكذا كان القول الصريح في قديم العهد وحديثه مظهراً واضحاً في أكثر الأمر من مظاهر الحق، ومخباراً صحيحاً لصدق لغضبة له والذياد عنه، ودليلاً ناصعاً على قوة الأيمان به وفناء العقيدة فيه، ومحك صدق للبطولة والشهامة
ولكن - والأسف يحز في الأحشاء - درج أناس على أن يساوموا في الحق، وشبوا يستمرئون حياة المداراة والمصانعة، ويستسيغون مخزاة التواري عن وجه الحقيقة السافرة. فإذا ما استعدت الحقيقة أحدنا على المساومين فيها فأعداها، وأهابت به أن ينافح عنها فأجابها؛ قالوا: هذا باطل من القول وزور، وقالوا: هذا دفع لم يقصد به وجه الحق، وقالوا: غير ذلك مما أوحت به حفائظ الصدور لا لسبب - شهد الله - سوى التجرد لمواجهة الواقع الملموس، والجهر بما لم نستطع الهمس به، والإقرار في صراحة بما أعوزتنا الشجاعة فيه
إذا لم يتهيأ لنا - ونحن نعاني كمين الألم الصارخ - أن نضع أيدينا على الداء جزعنا أن نرى أحدنا يتوجع لنا، ويستصرخ الأساة لتضميد جراحنا. ومن ذا إذاً يرسل الآهة مدوية غير نفثة المصدور، وزفرة المكروب؟ وأي منا لم يقع في شرك هذا البلاء وتمني الخلاص منه؟
ما كان لنا (علم الله) أن نستخذى أمام الحق ونتوارى عن الواقع المحس ما دمنا في البلية سواء
هذا لعمري موطن ضعف صحبنا منذ عهد بعيد. نحس بالألم ونتضور له ونحن مع ذلك نؤثر أن نستسلم للداء على أن نجأر بالشكاية منه والتخلص من شره. يا للعجب! متى نشجع فنثور على هذا الداء، ونطهر نفوسنا من أوضاره، ونكاشف العقول بويلاته فتتمكن يد الإصلاح من تعرف مواطن العلة فتضع الهناء مواضع النقب؟
قد يبدو لأحدنا أن في استقصاء بعض الداء وعرضه داعية للشماتة، ومثاراً للمتحفزين للوثبة، والقاعدين بكل مرصد؛ فنقول له: على هينتك. مرحباً بهذا الإشمات وأهلاً بهذه الإثارة؛ فكلاهما عامل من عوامل الإصلاح، وحافز من حوافز الأخذ بأسباب التقصي من العيب، والتبري النقص. وهاهي ذي معاهد العلم في مختلف الممالك لن تجد من بينها ما لا يشكو من عيب في بعض نواحيه مهما سمت مناهج التعليم فيه.
فليس من العيب إذاً أن نكشف عن أدوائنا بغية العمل على استئصالها أو تخفيف ويلاتها. إنما العيب والعار، بل ومن الخطر أن نرحب بالداء ونتحضن به ونطوي عليه كشحاً وهو لا يألونا عنتاً، ولا ينى أن يسومنا إرهاقاً، وقد قالوا: (من كتم الطبيب داءه هلك)
وبعد، فخير لنا أن نكون صرحاء فيما نقول، أحراراً فيما نرى، بواسل في مواجهة الحقائق فلا نستخذى ولا نستبطن ولا نرائي ولا نصانع فتلك صفات لا يعترف بها دين. ولا يقرها عرف، ولا يتسم بها فاضل.
وإذا أعوزنا المثل الأعلى للرأي الحر والموقف الصريح الحازم فلنلتمسه في (ساعة الأستاذ الزيات مع الأستاذ الأكبر) ففيها المثل الكامل والقدرة الصالحة
هذا ونحمد الله سبحانه أن وجد في صفوفنا من برز إلى الميدان، ورفع الصوت عالياً في حزم واتزان. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حالنا؛ فالصراحة سيف لا يرتفع الحق إلا على شباته، ومرآة لا تتكشف الحقيقة إلا على شعاعها.
(مصر الجديدة)
حامد عوني المدرس بمعهد القاهرة